في العمق

بقلم
أ.د.عماد الدين خليل
مدخل إلى نهاية التاريخ في المنظور القرآني (الحلقة الثانية)
 ها هي نظريّة «نهاية التّاريخ» تضع «ألرسن» بيد العقل الغربي هذه المرّة متمثّلاً بأمريكا، وهي بتنظيراتها للنّظام العالمي الجديد، بحكمها بالإعدام على كلّ ما يربط الإنسان بالعقيدة والأرض والتّاريخ، توظّف خبرات الماسونيّة والشّيوعيّة وتضيف إليها قيماً وأبعاداً أخرى ... وأيضاً ، ومن خلال التّسوية المطلقة للأمم والشّعوب قبالة المطالب الاقتصاديّة، سيزداد القويّ قوّةً والضّعيف ضعفاً، وستشهد البشريّة حلقةً محزنةً أخرى، من أشدّ الحلقات تعاسةً وضلالاً ...
من سيكون خاسراً في لعبة فوكوياما؟ من سيخرج مهزوماً في زمن يتطلّب من العربي المسلم استفزاز ذاكرته التّاريخيّة، وعمقه التّاريخي، وحشد كلّ عناصر التّأصيل والفاعليّة التي تستمدّ نسغها من العقيدة والتّاريخ لمجابهة محاولة الاحتواء الصّهيوني الأمريكي، التي تستهدف تسوية الأميّين، كما يسمّيهم العهد القديم، من أجل سوقهم إلى المذبح كالأنعام ؟!
فليس عبثاً، وحاشا للّه، أن يمنح القرآن الكريم المسألة التّاريخيّة أكثر من ثلثي مساحته، وليس عبثاً أن يقف عندها كبار الفلاسفة، لكي يستمدّوا من معطياتها قوانين الحركة ونواميس السّعي البشري في العالم. وأمّتنا في اللّحظات الرّاهنة بأمسّ الحاجة لاستدعاء التّاريخ من أجل أن تجد ذاتها، وتعثر على هويّتها الضّائعة في هذا العالم، من أجل أن تتجذّر في خصائصها، وتعمّق ملامحها، وتضع اليد على نقاط التألّق والمعطيات الإنسانيّة والرّصيد الحضاري، لكي تستعيد ثقتها بذاتها، وتبيّن ملامح دورها الأصيل عبر دوّامات الصّراع الحضاري الرّاهن التي تتطلّب ثقلاً نوعيّاً للأمم والشّعوب، وهي تجد نفسها قبالة مدنيّة الغرب الغالبة، إزاء حالة من تخلخل الضّغط وانعدام التّوازن الجوّي، الذي يسحب إلى المناطق المنخفضة رياح التّشريق والتّغريب وأعاصيرها المدمّرة.
إنّ «نهاية التاريخ»، بما تنطوي عليه من إلغاء للتّاريخ، إنّما هي رؤية خاطئة تتشكّل على النّقيض من قوانين التّاريخ. إنّ التّغاير والاختلاف والتّدافع والتّنوّع ، هي في صميم النّشاط البشري عبر مسيرته التّاريخيّة الطّويلة. إزاء هذا فإنّ أيّة محاولة لإلغاء الذّاكرة التّاريخيّة، بحجّة التّسوية قبالة المطالب الاقتصادّية، ومقولات التّكنولوجيا، إنّما هي قفزة في الفضاء، تهميشات على سطح الجليد الذي لا يظهر منه للعيان سوى واحد من عشرة من عمقه الحقيقي، والذي لن يلبث طويلاً حتّى يتعرّض للذّوبان ...
لقد جبلت النّفس البشريّة على الانتماء للتّاريخ، وكل محاولات فكّ الارتباط بين الإنسان وتاريخه باءت بالفشل وبقي العمق الزّمني الذي ينطوي على الخصائص والمقومات ، ماضياً لكي يعمل عمله في صميم الممارسات والخبرات.
باختصار، إنّنا إذا أردنا أن نجد ذاتنا فإنّ علينا أن نتجذّر في إثنتين: العقيدة والتّاريخ، وليست نظريّة «نهاية التّاريخ»  إزاء هذا كلّه سوى محاولة مترعةً بالمخاطر لفكّ الارتباط بالجذور وتعويم الإنسان المسلم نفسه.
أهذه هي نهاية التاريخ ؟
الشّذوذ الجنسي، والزّواج المثلي، واللّواط، وفضائح كندي وكلنتون، وشراء الأصوات، وتوظيف المال والجنس في اللّعبة الانتخابيّة، وتحكّم اللّوبي اليهودي، وهيمنة المافيات العملاقة والشّركات الكبرى، واختراق المسيحيّة بالعفن والأساطير اليهوديّة، والمسيحيّة الصّهيونيّة وانتماء كبار زعماء أمريكا لأقانيمها وطقوسها، واستخذاء البيت الأبيض للسّياسات العليا للأمّة الأمريكيّة، وتحويل القدرات الماليّة والعسكريّة إلى ضرع يدرّ في أفواه شذاذ الآفاق، والغطرسة التي تستفزّ الخصوم والحلفاء على السّواء، والتّفرّد في اتخاذ القرار بعيداً عن الأقطاب الأخرى التي تطمح لأن يكون لها مكان على خارطة العالم.
القنابل الذّريّة والهيدروجينيّة والنّيوترونيّة، وأسلحة الدّمار الشّامل، وعنقوديّات امتصاص الأوكسجين من المغاور والكهوف لقتل الإنسان واستئصال الحياة، آلات الإبادة الجرثوميّة والكيمياويّة،  والقدرات الأسطوريّة على تغيير معادلات الطّبيعة، وتحويل البيئات إلى معتقلات كبيرة تصعب فيها استمراريّة الحياة. تصاعد معدّلات الجريمة في وتائرها الاعتياديّة والمنظّمة، والاحصائيّات المخيفة لحالات القتل والاغتصاب والسّرقة والانتحار ...
الهروب المتزايد إلى المخدّرات والحشيش والأفيون، وتصاعد نسبة الإدمان وامتداد سرطانه المخيف إلى مستويات الأعمار الدّنيا في مراحل الدّراسة الإعداديّة والمتوسّطة، حتّى الابتدائية، وضياع أجيال الأمريكيّين النّاشئة فيما سبق أن حذّر من نتائجه المفجعة الرّئيس الأمريكي كنيدي عام ( 1963 م ).
الخيانة الزّوجيّة، والمعاشرة غير المشروعة للأزواج والزّوجات وحالات الطّلاق المتزايدة، والدّمار المتصاعد للحياة الأسريّة، ورفض الأبناء لآبائهم وتزايد دور العجزة لاستقبال هؤلاء وايوائهم، وتقطّع الرّوابط العائليّة وغياب الاستقرار والسّكن في بيئاتها المخترقة بالرّيبة والشكّ والكراهيّة وشدّ الأعصاب.
عمليّات الاغتيال والتّصفية الجسديّة (للكبار) على يد المافيات اليهوديّة والماليّة المتحكّمة بمصائر الولايات المتّحدة، بدءًا بأصحاب الأصوات الحرّة، وانتهاء بالرّؤساء أنفسهم لحظة خروجهم عن الخطّ المرسوم. التّكاثر المحموم بالأشياء، والعبادة المهوسة لصنميّات المال والتّنمية بعيداً عن أيّة قيمة أو ضابط ديني أو خلقي أو إنساني ...
تصعيد وتائر القوّة والأسلحة والجيوش وتقنيّات الرّدع والهجوم، فيما يجعل من «أمريكا» ترسانة مخيفة قد تلحق الخراب بهذا الجزء أو ذاك من العالم، في أيّة لحظة تفور فيها دوّامة الغضب ويستشري سعار التفوّق والاستعلاء، وتحوّل أمريكا إلى دولة استعماريّة كبرى، تسعى لأن تضع العالم كلّه في جيبها وترغم أممه وشعوبه على أن تكدح لكي يدّر ضرعها في الفم الأمريكي، بغضّ النّظر عن حالات الفقر والتّخلّف والدّمار التي تعاني منها دول العالم الثّالث، الذي يراد له للمرّة الثّالثة أن يسخّر لسعادة الرّجل الأبيض وائتمانه الذّاتي. وأخيراً، وليس آخراً، تآكل القيم الدّيمقراطيّة الأمريكية نفسها ودمارها، واختراقها المرّة تلو المرّة، بحجّة مقاومة الإرهاب، بعد أن سهر الأمريكيّون القدامى على حراستها القرون الطّوال.
أهذه هي الحضارة الملائمة لإنسانيّة الإنسان ومطامح الأمم والشّعوب؟ أهذه هي الحالة الحضاريّة النّموذجيّة أو السّقف الأعلى لسعي البشريّة عبر تاريخها الطّويل ؟ أهذا هو «النموذج» الذي سينتهي إليه التّاريخ ويلقي عنده عصا التّرحال؟ أهذا هو «المثل الأعلى» الذي يتحتّم على شعوب العالم أن تلهث وراءه؟ أهذه هي بتعبير «فرنسيس فوكوياما» : «نهاية التاريخ» حيث لا تبدّل بعدها ولا تحوّل ما دام الإنسان قد بلغ الحالة القصوى من التّقدّم والتّحرّر؟
تقدّم باتجاه ماذا؟ وتحرّر من ماذا؟ أليست هي في بدء التّحليل ومنتهاه، وفي ضوء التّأشيرات آنفة الذّكر، نكسة كبرى في تاريخ البشريّة؟ حيث يتحكّم القطب الأحادي بمصائر العالم، وحيث يتحوّل السّعي البشري إلى لهاثٍ محموم للتّكاثر بالأشياء، وحيث تتسطّح الحياة وتفقد عمقها وعذوبتها وغناها ومغزاها، وحيث تخترق منظومة القيم الإنسانيّة والخلقيّة والدّينيّة بحلقات السّوء التي تنتشر كالبثور السّود، كالطّفح المتقيّح، كالسّرطان المخيف في نسيج المجتمعات، فتفقدها شيئاً فشيئاً القدرة على مواصلة الحياة ولو في حدودها الدّنيا؟
ثم ماذا لو أصبحت الحياة البشريّة زنًى ولواطاً وسحاقاً وانتحاراً وسرقة وقتلاً واغتصاباً وإدماناً على الحشيش والمخدرات والمغيبات والأفيون؟ ماذا لو أصبحت الممارسات السّياسيّة تزويراً ورشوةً وشراء للضّمائر وتسخيراً للجنس واحتواء لمفاصل القرار العليا من أجل مصلحة لوبي يهودي، أو مافيا اقتصاديّة، أو رغبةً جارفةً في الانسياق وراء إغراء القوّة، بعيداً عن كلّ ضوابط الحكمة ومكابحها ؟!
أهذه هي نهاية التّاريخ ؟!
إنّها المثلّث المحكم الذي يمسك اليوم بخناق الحضارة الغربيّة المعاصرة ويمنحها لونها وخصائصها وأهدافها ... إنّه الإنتاج والجنس والاستهلاك ... الحضارة الغربيّة في أقصى حالاتها تكشفاً ووضوحاً وتركيزاً في الوقت نفسه، فإذا حاولنا أن نلمّ جل مفردات هذه الحضارة وأنشطتها في أنساق محدّدةٍ، فإنّنا سوف لا نجد بأكثر من ثلاثة أنساق تندرج في أطرها تلك الأنشطة والمفردات : الإنتاج، أو التّنمية والتّكاثر بالأشياء ( بما فيها الأسلحة والجيوش )، والجنس أو التّرفيه في أكثر حالاته حسيّةً ومادّيةً، والسّوبر ماركت أي النّزعة الاستهلاكيّة التي يزيدها الإعلان، والتّكاثر، والنّزوع الحسيّ ، سعاراً وجموحاً.
وتحت مظلة هذه الحضارة ، التي زادتها العولمة قدرةً على الانتشار والتحكم في العالم كلّه، تمضي كل القوى الفاعلة لتصعيد وتائر هذه الأطراف ، أو الحدود الثلاثة ، التي تمسك اليوم بخناق الإنسان : الدولة والمؤسسة والمجتمع والفرد على السواء ... كل يعمل من جهته لنفخ النار فيها ، منفرداً حيناً ، متوافقاً أو منسقاً مع الأطراف الأخرى حيناً آخر.
والعالم يجري كالمجنون ... يركض حتّى اللّهاث أفراداً وجماعات وشعوباً وأمماً. الكلّ يريد أن يلحق بالمركب الأمريكي الذي يقود حملة السّوء هذه، الكلّ يريد أن يتكاثر بالأشياء، وأن يشبع نهمه الجنسي، ونزوعه الذي لا حدود له للاستهلاك، معتقداً على الطّريقة الابيقوريّة البائدة أنّ الحياة فرصة للتّحقق باللّذة، أو الطّريقة الاسبارطيّة : «التّحقق بالقوة»، بغض النّظر عن ارتباط اللّذّة والقوّة بمنظومة القيم الدّينيّة والخلقيّة والإنسانيّة أو عدم ارتباطها على الإطلاق.
ومن عجب أنّ إحدى الكنائس في إنكلترا، والتي يفترض فيها أن تقف في مواجهة الطّوفان، انساقت وراء الإغراء نفسه، فأعلنت عن قبول الزّواج النّمطي في أروقتها من أجل كسب المزيد من الأتباع، بمعنى أنّها أذعنت هي الأخرى للمنطوق الابيقوري باعتباره الوسيلة الأكثر فاعليّةً وتأثيراً في العباد والأتباع ...
ويتساءل المرء : ماذا لو مضى مثلث الشرّ هذا إلى النّهايات القصيّة التي يراد له أن يمضي إليها، كيف ستصبح الحياة ؟ وهل ستستحقّ فعلاً أن تُعاش، وقد فقدت عمقها الرّوحي وبعدها الإنساني وضوابطها الأخلاقيّة ، وضيعّت مغزى الوجود البشري في العالم ، وغدت مجرّد لهاث وراء التّكاثر بالأشياء، والتّحقّق بالإشباع الجنسي في أحطّ صيغة حسيّة وحيوانيّة، والنّزوع إلى الاستهلاك الذي يكدّس ويكدّس حتّى يجد الإنسان نفسه، كما يقول «أونسكو» في إحدى مسرحيّاته : محاصراً بالأشياء حيث يفقد حرّيته وقدرته على الاختيار. إنّها اللّعنة التي ستمسخ إنسانيّة الإنسان والحياة البشريّة على السّواء ...
أهذه هي نهاية التّاريخ ؟!