نافذة على الفلسفة

بقلم
أ.د. عبدالرزاق بلقروز
سؤال الحقيقة والفعل في فلسفة القيم إشكالات وإيضاحات(2-3)
 الإشكال الثّاني : سؤال الفعل، من العقل النّظري إلى العقل العملي
أولا. مقدّمة إلى إشكاليّة الفعل في الفلسفة
تطرح المساءلات الفلسفيّة في عمومها مسألة الفعل بصورة متّصلة بقضيّة النّظر أو التأمّل؛ فيما تذهب إلى ذلك المطارحة الدّيكارتيّة التي جعلت من الأنا المفكّرة معيارا للوجود، وبالتّالي فهي سابقة على الفعل أسبقيّة أنطولوجيّة وزمنيّة؛ وقبل المطارحة الدّيكارتية كانت الجدالات السّقراطيّة تنحو نحو الممارسة الفعليّة للفكر الفلسفي، ذلك أنّ سقراط لم يكتب شيئا، لكنّه عاش مناضلا ومات مناضلا من أجل الحقيقة؛ وأفلاطون هو من قام بصياغة أفكاره صياغة مفهوميّة وحوَّل تحليله لمفاهيم الأشياء التي كانت لها غايات أخلاقيّة عمليّة؛ حوّلها إلى نسق كلّي من الفلسفة، وأسّس لثنائيّة لازالت أصداؤها تمسك بالفكر الفلسفي وتوجّه منظوراته؛ هي ثنائيّة المثالي السَّامي والواقعي المتغيّر، فهما من طبيعتين مختلفتين ومتفاضلتي القيمة؛ وتبعا لهذا جرى التّأسيس إلى الفلسفة المنفصلة عن التّدبير الحياتي والواقعي؛ إذ الفيلسوف الحكيم المنشغف بالحكمة همّه معرفة الحقيقة وليس معرفة الحياة، لأنّ الحياة، هذه التّجربة المأساويّة لا تستحقّ أن تعاش إلاّ بوصفها شكلا من أشكال التّأمّل؛ «فنحن نعرف جميعا أنّ التَّحديد الأصلي للفلسفة من حيث هي محبّة الحكمة يقودنا إلى التّحرّر من الواقع اليومي، فالرّجل الحكيم بالنّسبة إلى الإغريق هو الذي ينسلخ من خضم الحياة العادية وينصرف إلى التّفكير والنّظر في الكون والعالم وفي كلّ ما يجعل الحياة ممكنة. فالبحث عن الحقيقة بواسطة المعرفة الخالصة مقصد التّفكير الفلسفي الأصلي. ذلك ينطبق أيضا على حداثة الفلسفة عندما توجّهت الاكتشافات العلميّة و التّقنيّة في العصور الكلاسيكيّة إلى تأصيل الفكر الفلسفي، لأنّ الحكمة حافظت على كونيتها وشموليتها، وضمت في مخزون تفكيرها الحكمة العمليّة مثلها مثل الفلسفة اليونانيّة أو الفلسفة العربيّة» (1) .
وتتوالى الشَّواهد من فلسفة الإغريق على هذه الحقيقية التي ترى بأنّ الفلسفة هي معرفة الحقيقة؛ الحقيقة الكلّية المتعالية غير المرتبطة بأيّة أهداف جزئيّة، والفيلسوف هو الذي ينحصر جهده في تفسير الأشياء لا الأشياء في ذاتها؛ يقول أفلاطون في محاورة تيتييت «إنّني أتحدّث عن عظماء الفلاسفة، إذ لا أرى جدوى من الحديث عمّن دونهم، ويلزم أن نقول عن أولئك بأنّهم من صباهم، لا يعرفون الطّريق التي تؤدّي إلى السّاحة العموميّة ولا أين توجد المحكمة ولا قاعة مجالس المدينة….والنّوادي التي تناقش فيها المهام وعن الاجتماعات والحفلات والأعياد “باخوس” وما يصاحبها من عزف على النَّاي، فإنّ هذه الأمور لا تخطر ببالهم حتّى فكرة المشاركة فيها….هو وحده، أي الفيلسوف، الحاضر المقيم في المدينة، أمّا فكره الذي ينظر إلى هذه الأمور بعين الاحتقار على أنّها أشياء تافهة لا قيمة لها، فإنّه يحلّق في فسيح الأجواء… باحثا في أعماق الأرض يقيس مساحتها، متتبّعا حركات الأفلاك فيما وراء السّماء.. مُدقّقا في الطّبيعة بأكملها، وفي كلّ كائن بكلّيته، دون أن يلتفت إلى ماهو على مقربة منه»(2) . إنّه كلام من أحد أعمدة الفكر الفلسفي الغربي الذي وُصفت الفلسفات اللاّحقة عليه بأنّها أفلاطونيّة برمّتها، لأنّها تكرّر الثّنائيّة الانفصاليّة بين المعقول والمحسوس، بين الفكر والواقع، بين الأنا والواقع، بين الفكر والحياة، يظهر لنا الفيلسوف هنا كما لو أنّه يعيش وسط تجريداته النّظرية؛ وغيرها لا يستحقّ التّقدير والتّثمين.
وغير بعيد عن هذا التأسيس للفصل بين الفكر و الحياة، يطالعنا أرسطو بموقف شبيه من موقف أفلاطون في تصوير الفكر الفلسفي، لكن تحت اسم آخر هو الحكمة أو العلم الأسمى، الذي يُعَدُّدُ له جملة من المواصفات التي تنطبق على الحكيم منها:
•  الذي يحصل على معرفة الأشياء جميعها في حدود المستطاع.
•  الذي يعرف الأمور العويصة التي لا تبلغها المعرفة الإنسانيّة إلّا بصعوبة .
• الذي يعرف المبادئ والعلل معرفة أكثر ضبطا.
أخيرا وهنا بؤرة الدّهشة مع أرسطو «أنّ العلم الذي يُعتنق لذاته وقصد المعرفة وحدها، يعتبر أكثر حكمة من العلوم التي تُعتنق لما تحقّق من نتائج»(3) . ثمّة إذن تحالف قويّ بين هؤلاء المتفلسفة ضدّ الحياة وضدّ إقامة الجسر بين العقل النّظري وبين العقل العملي، فسموّ العلم آت من سموّ موضوعه أي العلوم الشّريفة التي تتّخذ من المتعالي موضوعا لها، ويبدو أنّ هذا التّأسيس للاحتقار الأنطولوجي للمظهر والفعل هو الذي جعل حدودا للفكر الفلسفي ضمن دوائر التَّحليل المعرفي المحض وتخصيص الإنسان بصفة العقل بما هو جوهر قائم يختصّ بالمعرفة، لكن هذا الإقرار على شدّة رسوخه لم يحظ بالتّرحيب الكلّي، وإنّما جرى الانقلاب عليه وتغيير قبلة الفكر الفلسفي من التّركّز حول العقل النّظري إلى افتتاح حقبة العقل العملي، إذ الفلسفة ليس شأنها منحصرا في النّقد والتّحليل، وإنّما شأنها في التَّغيير والتّقويم وبناء منظومات القوى الفاعلة في الحياة.
ثانيا . تحوُّلات الخطاب الفلسفي : من اللوغوس الفكري إلى الإيتوس الحيوي
لم يبق الفكر الفلسفي متمركزا حول «أنا أفكر»، أو العقل النّظري، أو العقل الواعي لذاته، ولم يكتف بلذّة الحكمة النّظريّة، بقدر ما كسّر هذه الأصنام الفكريّة التي لا تحرّك الحياة، ولا تنفث في الواقع دم الحياة، وبدلا من التّقليد الدّيني الفلسفي المأثور «في البدء كان الكلمة»، انبجست مقولة أخرى هي «في البدء كان الفعل»، وأضحت الفلسفة المعاصرة تنحو هذا المنحي الفعلي، وترسم الدّلالة  الميتافيزيقيّة للفعل، وجرى إعادة كتابة تاريخ الأنساق الفلسفيّة لا بوصفها أفكارا من نتاج الوعي الخالص حين يتأمّل ذاته، وإنّما هي مصادرات عمليّة وتضرب بجذورها في صميم الذّات الفاعلة التي تنجز أفعالا وتصوغها في أنظمة نظريّة، أي أنّ فلسفة الفعل لا تدلّنا على طريق الخروج من حقبة الأنا الخالص الواعي بذاته إلى الأنا أفعل أو أحيا فقط، وإنّما تقدّم لنا أدوات في القراءة والتّأويل لتاريخ الأنساق الفلسفيّة الكبرى، حيث كان «معظم الفلاسفة في التّاريخ أصحاب قضايا وحملة رسالات كالأنبياء يصدق عليهم «العلماء ورثة الأنبياء»، كان «سقراط» صاحب قضيّة تنوير النّاس، و«أفلاطون» حامل رسالة تربيّة المجتمع الأثيني وتكوين المدينة الفاضلة، و«أوغسطين» صاحب موقف، الدّفاع عن المسيحيّة ضدّ الشكّاك والمانويين والوثنيين في الخارج والفرق الضّالة أنصار «دوناتوس» و«آريوس» في الدّاخل….. وأراد «ديكارت» و«بيكون» أن يؤسّسا المعرفة الجديدة. كما أراد «كانط» أن يبيّن إمكانيات العقل و«هيجل» أن يكشف عن قوانين الجدل، و«فشته» أن يؤسس نظرية في العلم باعتبارها حرية، و«ماركس» أن يغيّر العالم، و«هوسرل» أن يكمّل المثالية الترنستدالية منذ البداية حتى النهاية الكوجيتاتوم منذ الأنا افكر حتى الأنا موضوع التفكير» (4) . وإن هذا التحوُّل في  الخطاب الفلسفي من الأنا موضوع التّفكير إلى الفعل والسُّبل العمليّة لتجديده يجد أسبابه ضمن ما يلي :
• العلاقة التَّكامليّة بين الفكر والنّظر وليست العلاقة المختلفة في الطّبيعة والمتفاضلة من حيث القيمة، «لأنّنا لا نستطيع توسيع الملكات الفاعلة للفكر البشري وتطويرها دون تطوير بذور أخلاقيّته في نفس الآن، عكسيّا لا يمكننا إخصاب هذه البذور دون استخدام وتوظيف كلّ هذه الملكات الفاعلة» (5). وليس ثمّة أكثر من المجال التّداولي الإسلامي أولى قيمة لهذا التَّكامل بينهما أي بين النّظر والفعل؛ بل رفع مرتبة العمل إلى رتبة معيار صلاح الإنسان في الحياة الدّنيويّة والأخرويّة، لأنّه أي المجال التّداولي «يسلّم أن الدّخول في العمل يورّث صاحبه علما غير العلم الذي حصّله؛ ممّا يستفاد منه أنّ العمل يُتوصّل به إلى العلم، وأنّه على قدر تغلغل الإنسان في العمل، يزيد علمه ويتّسع عقله، إذ تنفتح له أبواب جديدة في الفهم والمعرفة، قد يختصّ ببعضها، وقد يشترك مع غيره في بعضها، لذلك اتخذت العلاقة بين العلم والعمل في المجال الإسلامي صورة جدليّة خاصّة : فكلّما أوغل المرء في العلم، خرج إلى عمل أصلح، وكلّما أوغل في العمل، خرج إلى علم انفع، متقلّبا بينهما من غير انقطاع»(6). ويعضد هذا الإقرار بالعلاقة الجدليّة بين العلم والعمل أنّ اللّغة العربيّة امتازت بتشقيق اللّفظين العلم والعمل من نفس المادّة اللغويّة : علم، ودلالة هذا التّشقيق هو العلاقة الجدليّة التي أومأنا إليها في نصوصنا المقتبسة.
• الأبعاد الحيويّة للفعل على الإنسان : فيما أشار إلى ذلك فيلسوف الشّخصانيّة مونييه Mounie «أن الفعل يعدّل من الواقع الخارجي، ويصنع ذواتنا، ويقرّبنا من النّاس، ويُثري عالم القيم»(7). فما أنكى ما نحياه نحن اليوم في وجودنا، إذ الانفصال عن العمل هو الذي أورث الفوضى في الحياة الخارجيّة وشيوع الفتور واللاّمبالاة في حياة الإنسان، لأنّنا لم نتذوّق حلاوة الفعل وكيف يعدّل ذواتنا ويصحّح مسارنا السّلوكي، وليس مظهر اغتراب كما راهنت الفلسفة الماركسيّة زمنا غير قصير، وهكذا أدرك الإنسان المعاصر أنّه :
• أولا: لا يوجد إلاّ بقدر ما يعمل: لأن الفعل وحده هو الذي يجعله يوجد بمعنى الكلمة. 
• ثانيا: يفرض بعمله ضربا من التّغيير أو التبديل على العالم المادي، لأنّ الفعل الذي يقوم به لابدّ أن يحدث آثاره في العالم الخارجي،
• ثالثا: يخلق عن طريق فعله نوعا من الاتصال بينه وبين الآخرين؛ لأنّه يخلق بالتزامه أمام نفسه وأمام الآخرين “عالما روحيا” يقوم على التّأثير والتأثّر؛
• رابعا: يعمل على تدعيم عالم القيم البشرية: لأنّه يحرّر الذّوات الأخرى ويوقظها من سباتها حين  يجسم مثله العليا في الوسط الاجتماعي، فيعمل على تقريب شقّة الخلاف بين الواقع والمثل الأعلى»(8).
أمام هذا، فإنّ عالم المثل أو القيم في وجودها المثالي ليست معطى جاهزا، وإنّما هو عمليّة تحويل الواقع إلى مثال كما قال ذلك “ماكس شلر”.
• الأثر العميق للفعل في الحياة الأخلاقيّة الفاضلة : إنّ مكارم الأخلاق باعتبارها منظومة قيم تكتسي تعيّنها المكتمل عندما تجد محلاّ لها تتجلّى فيه، ولا أقوى من المحلّ السّلوكي بفضائه الفردي والجماعي، وفي الفلسفة الأخلاقيّة الإسلاميّة نجد هذا الإلحاح على الدَّور التَّقويمي للحكمة العمليّة مركزيا، ذلك أنّ «الذي يحصل على العلوم النّظريّة من غير أن يكون له ذلك على كماله، فهو الفيلسوف الباطل، والفيلسوف البهرج، هو الذي يتعلّم العلوم النّظرية ولم يُعوّد الأفعال الفاضلة، ولا الأفعال الجميلة، بل كان تابعا لهواه وشهواته في كلّ شيء… هكذا يكون الفيلسوف الكامل على الإطلاق هو الذي تحصل له العلوم النّظريّة والعلوم العمليّة، وتكون له قوّة استعمالها بالوجه الممكن فيه، والكامل على الإطلاق هو الذي حصلت له الفضائل النّظرية أوّلا ثمّ العمليّة ببصيرة يقينيّة»(9). وغير بعيد عن ثورة «الفارابي» على الفيلسوف البهرج يرسم «الغزالي» للعمل  دورا تربويّا روحيّا، كي يكون قوّة تمدّ السّلوك الأخلاقي بالتّوثّب والفعل والحركة، ففي حده للعمل يقول أبو حامد: «فلسنا نعني به أي العمل إلاّ رياضة الشّهوات النّفسانيّة وضبط الغضب، وكسر هذه الصّفات لتصير مذعنة للعقل، غير مسؤولة عليه، ومستسخرة له، في ترتيب الحيل الموصلة إلى قضاء الأوطار، فمن قهر شهوته، فهو الحرّ على التّحقيق بل هو الملك» (10). فالحرّية هنا غاية للعمل، وعدل إنساني مع الذّات، لأنّ الذي يعدل مع نفسه هو الذي يجعلها في مكانها الصّحيح ولا ينزلها رتبة لا تليق بخصائصها الجوهريّة، فمن العدل أن تكون للقوّة العاقلة والأخلاقيّة سلطان وسياسة للقوّتين الغضبيّة والشّهوانيّة، وهذا لن يحصل إلاّ بالفعل والحركة والإبداع. لأن الذّات لا تجد ذاتها بالتّصور والتّفكير، وإنّما تجدها في الفعل والفاعليّة والحركة، وبالتّالي فالعالم ليس معطى جاهزا، وإنّما هو يبدأ ويعاد بالعمل المستمر المتّسع القاصد.
• امتداد أثر الفعل إلى الوجود الأخروي : ثمّة لفتة مهمّة، يجدر التَّنبيه لها، وهي مسألة امتداد أثر  الفعل إلى الحياة الأخرويّة للإنسان، بحيث يصبح هو معيارَ فوزه أو خسارته، فالعمل بتعبير “أبي حامد الغزالي” هو الذي ينجّي الإنسان وليس العلم مهما كانت قيمته عند أهل النّظر المجرّد؛ ويرشد “الغزالي” طالب المعرفة إلى ضرورة العمل، وإلاّ فإنّ بضاعته لن تقوى على دفع الضّرر عليه: «لا تكن من الأعمال مفلسا ولا من الأحوال خاليا، وتيقّن أنّ العلم المجرّد لا يأخذ اليد… ولو قرأت العلم مائة سنة وجمعت ألف كتاب، لا تكون مستعدّا لرحمة اللّه تعالى إلّا بالعمل: ﴿وأن ليس للإنسان إلاّ ماسعى﴾(النجم: 39)، ﴿ فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا﴾ (الكهف: 110)… أيّها الولد مالم تعمل لم تجد الأجر…أيّها الولد العلم بلا عمل جنون، والعمل بغير علم لا يكون واعلم أنّ العلم لا يبعدك اليوم عن المعاصي ولا يحملك على الطّاعة، ولن يبعدك غدا عن نار جهنم، وإذا لم تعمل اليوم ولم تتدارك الأيام الماضية تقول غدا يوم القيامة، فأرجعنا نعمل صالحا، فيقال لك : يا أحمق أنت من هناك تجئ… لو كان العلم المجرّد كافيا ولا تحتاج إلى عمل سواه، لكان نداء، هل من مستغفر، هل من تائب ضائعا، بلا فائدة» (11) .
هنا تظهر لنا القيمة الأساسيّة للعمل التي تتجاوز دائرة النّفع الدّنيوي إلى الأخروي، وهذا هو البعد الذي لا نجده حاضرا في فلسفات الفعل المتمحورة حول قيمة الفعل، فحقيقة أنّ الفعل يعدّل من الواقع الخارجي، ويصنع ذواتنا، ويقرّبنا من النّاس، ويُثري عالم القيم فيما يذهب “مونييه”، إلاّ أنّه أيضا يجعله يمتدّ في عالم غير هذا العالم الدّنيوي، لأنّ العمل ليس منحصرا في دائرة المنافع الدّنيويّة فقط، وإنّما أيضا ينفع في الآجل أيضا، من هنا عمل المجال التّداولي الإسلامي على ضرورة وضع مبادئ ضابطة لحقيقة العمل، وهي مبادئ متعلّقة بالعلم وحقيقته ، «أحدها “مبدأ تقديم اعتبار العمل” ويقضي بأنّ كل مسألة لا يترتّب عليها عمل لا فائدة منها ولا حاجة للبحث فيها، بل يقضي بأنّ كلّ كلام ليس تحته عمل يجب تركه، والثاني “مبدأ العلم المستعمل”، ويقضي بأن لا يتعلّم المرء من العلم إلّا ما يعمل به، ولا يندفع  في الاستزادة، حتّى يعمل بما حصّل منه، بل عليه أن يقتصر منه على القدر الذي يعرف به العمل، والثّالث  “مبدأ العلم النافع”، ويقضي بأن لا يتعاطى المرء إلاّ العلم الذي إذا عمل به لا تقتصر ثماره على عاجله، بل تتعدّاه إلى آجله، ولا تقتصر على ذاته، وإنّما تتعدّاها إلى غيره»(12).
هكذا إذن، تتبدّى لنا الدّلالة الاتّساعيّة للفعل وفق تصوّر الأخلاق الدّينيّة الإسلاميّة، وهي الدّلالة التي تجمع في ذاتها كافة المنافع التي أشرنا إليها سابقا، أي التّأثير في الطّبيعة وإثراء عالم القيم، والامتداد في المجتمع، والفوز في العاجل الذي لا يتحقّق إلاّ باقتران الفعل بنية التّقرُّب بهذا الفعل إلى اللّه، وإلاّ فهي أفعال ناقصة ومحدودة، ولا تكتسب المشروعيّة إلاّ بازدواج الفعل بالنّية، لأنّ النّية هي روح العمل، بما أن «الأعمال هي صور قائمة وأرواحها وجود سرّ الإخلاص فيها» (13) .
وبالتالي، فالفعل هنا متى كان مقرونا باستحضار المعيّة الإلهيّة ومستقيما وفق الشّريعة الإلهيّة نال السّعادة في الدّنيا وفي الآخرة؛ وإذ عُرف هذا، فإنّ السّعادة «في منظور الإسلام لها علاقة ببعدين من الوجود يُشار إليهما بتعبيري السّعادة الدّنيويّة والسّعادة الأخرويّة. تُناقضُ السّعادة الشّقاوة، والتي تدلّ بصورة عامّة على النّكبة والبلاء العظيم، وتعبير السّعادة الأخرويّة يشير إلى السّعادة القصوى والنّعمة والهناء المقيم والذي أعظمه رؤية اللّه الموعودة للذين عاشوا في الدّنيا حياة عامرة بالخضوع والتّسليم للّه تعالى طائعين أوامره ومجنبين نواهيه»(14) .
فالفعل المقرون بالنّية الخالصة التَّعبديّة يحقّق السّعادة التي مدارها كما رأينا الوجود الدّنيوي والوجود الأخروى.
الهوامش
(1)  فتحي التريكي ، فلسفة الحياة اليومية، تونس: الدار المتوسطية للنّشر، 2009، ص 17.
(2)   أفلاطون، محاورة تييتييت، أورد النّص محمد سبيلا و عبد السلام بنعبد العالي، ضمن كتاب ، التّفكير الفلسفي، المغرب: دار توبقال للنّشر، 2008، ص 30. 
 (3)  أرسطو، الميتافيزيقا، المرجع السابق، ص 32
(4)  حسن حنفي ، النّظر و العمل و المأزق الحضاري العربي و الاسلامي الراهن، ضمن سلسلة حوارات لقرن جديد، سوريا: 2003، ص 2004.
(5)   عبد العزيز العيادي، فلسفة  الفعل، تونس : مكتبة علاء الدين، ، 2007. ص 121.
(6)  طه عبد الرحمن، سؤال العمل بحث عن الأصول العملية للفكر و العلم  ، المغرب، بيروت: المركز الثقافي العربي 2012، ص 16.
(7)   أورده، زكريا إبراهيم، مشكلة الحياة، مصر : مكتبة مصر، ص 63.
(8)   المرجع السابق، ص 65.
(9)   مقتبسات من كتاب الفارابي ” كتاب تحصيل السعادة، أوردها ، فتحي التريكي، مرجع سابق، ص 21.
(10)   أبو حامد الغزالي، ميزان العمل، تحقيق سليمان دنيا، مصر: دار المعارف، 1964، ص 192.
(11)   أبي حامد الغزالي ، مجموعة الرسائل، بيروت : دار الكتب العلمية، 2003، ص 266.
(12)   طه عبد الرحمن، سؤال العمل، بحث عن الأصول العملية في الفكر و العلم، المغرب ، الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2012، ص 14.
 (13)  ابن عطاء الله السكندري، الحكم الكبرى و الصغرى والمناجاة الإلهية و المكاتبات، بيروت : دار الكتب العلمية، 2006، ص 5.
(14)  سيّد محمد نقيب العطاس، السعادة ومعناها في الاسلام، ترجمة دكتور حسن ابراهيم النقر، ماليزيا : المعالمي للفكر و الحضارة الإسلامية، 1995، ص 4.