نقاط على الحروف

بقلم
د. محمد البشير رازقي
تشكيل الحضارات: قانون التوازن وصناعة الضدية التاريخ وصناعة سياسات المستقبل الحضاريّة
 الممالك الحيوانيّة والتّوازن وتشكيل الضّديّة
تتقاسم «المجتمعات الحيوانيّة» عدّة خصائص مع المجتمعات البشريّة مثل التّنظيم والقواعد وتوزيع المهام والعقاب أحيانا(1). ولهذا يحتاج الاجتماع الحيوانيّ لدراسات معمّقة سواء للاستفادة من طرق تنظيمه أو طبيعة تعامله مع الأزمات(2). تشتمل المجتمعات الحيوانيّة على استراتيجيّات عديدة للتّعاون والتّنافس والصّراع من أجل ضمان البقاء. يعتمد بعضها على التّعاون والإيثار، وأخرى تفضّل العيش والصّيد منفردة مثل النّمر، كما تختلف الأساليب الإنجابيّة بين الحيوانات وطرق الحكم، مثل حالة طيور يعتمدون على الزّواج الأحادي والتّرابط الزّوجي مدى الحياة، ورعاية الوالدين الذّكور والجهود التّعاونيّة من قبل كلاّ الوالدين في بناء العشّ ورعاية الكتاكيت، مع امكانيّة نشوب صراعات منزليّة غير متوقّعة بين الزّوجين ممّا يهدّد أحيانا سلامة الكتاكيت أنفسهم(3).
يمثّل دراسة سلوك الحيوان ذات أهمّية بالغة في فهم زماننا(4). تُبرز لنا مجلّة «ناشيونال جيوغرافيك»، المؤسّسة سنة 1888، الأهمّية الفائقة المُستخرجة من السّلوكيّات الحيوانيّة. شُيّد مبنى في «زمبابوي» مخصّص للمحلّات التّجارية يحتوي «نظام تكييف منخفض التّكلفة، يكافح الحرّ الاستوائي في زيمبابوي» وقد حاكى المهندسون «البراعة الهندسيّة للنّمل الأبيض المحلّي»، باعتماد منهج «المحاكاة البيولوجية»(5). كما أثبتت دراسات أخرى احتواء مملكة النّمل على فصائل عسكريّة هدفها إنقاذ بقيّة النّمل خلال معاركه وإسعاف الجرحى ونقلهم إلى المملكة للتّعافي، وقد رُصدت مثل هذه الممارسات لدى أجناس من الرّئيسيّات كالقرود وأخرى من الثّديّيات كالفيلة والفئران والدّلافين(6).
تعتمد الممالك الحيوانيّة على مسألة التّوازن بطريقة حيويّة سواء التّوازن بينها وبين بقيّة الحيوانات، أو مع الطّبيعة أو مع البشر. وللحيوان وسائل لإدارة حالات الصّراع والتّعاون. كما تتميّز الممالك الحيوانيّة بالهرميّة ويتحكّم أفرادها بالأنشطة ويوزّعون المهام ويستفيدون من امتيازات غذائيّة وجنسيّة (التّكاثر). يُمارس الحيوان الحيازة والهيمنة لا على بقيّة الحيوانات بل على الموارد والأشياء والمكان. ومن هذا المنظور يمكن اعتبار السّلطة وظيفة تتعلّق بالخصائص الأساسيّة للحياة، أي: الحفاظ على نفسها وتنظيمها وإعادة إنتاجها. ومن هذا المنطلق فإنّ الحياة الاجتماعيّة الحيوانيّة تأخذ شكل تضارب المصالح بين الأفراد. كما لاحظ علماء الحيوانيّات ظواهر التّعاون الكثيرة في المجموعات وبروز سلوكيّات الاسترضاء والمصالحة وتجنّب الصّراع والسّعي إلى تماسك المجموعة تجنّبا للأخطار الخارجيّة بأنواعها، والإقدام على الدّخول في تحالفات(7). ولهذا تحتاج كلّ هذه الأمور لتحقّقها إلى مسألة التّوازن وتشكيل صورة للعدوّ الخارجي، وفي بعض الأحيان الدّاخلي. أي وحدة الدّاخل تمرّ عبر التخلّص من خطر الدّاخل والخارج، ويعتمد هذا على ابتكار الضّديّة. كما يعتمد العالم الحيوانيّ على مسألة التّوازن وعلاقتها بمجاله الذي يعيش فيه، أي توازن بين العدد/الموارد، والمخاطر/الامتيازات(8)، ولهذا فإنّ عالم الحيوان ليس مجرّد مكان للمنافسة القاتلة بل هو مزيج بين التّعاون والتّضامن الدّاخلي(9). أي علاقة عضويّة بين قانون التّوازن والوحدة الدّاخليّة للمجموعة في مواجهة العدوّ الخارجي سواء حيوان أو إنسان أو طبيعة.
شغلت مسألة التّوازن الطّبيعي فكر علماء النّبات والحيوانات ورجال الدّين أيضا باعتبار أنّ التوازن هو ركيزة أساسيّة للتّاريخ الطّبيعي(10). ولهذا تتضرّر الممالك النّباتيّة والحيوانيّة من اختلال التّوازن الدّاخلي والخارجي مثلها مثل النّظم الحضاريّة. فاشتداد الحوار على مسائل من قبيل انقراض بعض الحيوانات أو النّباتات وتأثيرات التّغيّرات المناخيّة، والأضرار التي يلحقها الإنسان بمحيطه إن هي إلاّ أدلّة كثيرة مُثارة حول هاجس واحد وهو: اختلال التّوازن(11).
من ناحية أخرى، بيّنت الدّراسات اعتماد العالم الحيواني على مسألة العدوّ/الخطر سواء كان داخليّا أو خارجيّا، بل تعتمد المملكة الحيوانيّة في وجودها على هذه المسألة ممّا ينجرّ عنه المنافسة وما ينتج عن ذلك من نشأة الحلول للمشكلات، ويحضر هنا عامل «التّوازن» الدّاخلي والخارجي لتخفيف وطأة الأعداء وترسيخ ممارسات المقاومة والبقاء(12).
التاريخ وتشكيل خُطاطة المستقبل
تتميّز علاقة المستقبل بما جرى في الماضي بالنّسبيّة والإمكانيّة، وتتراوح صحّة التوقّع بين جدليّة الممكن والمؤكّد، كما أنّه من المهمّ أن نفهم التّاريخ من منطلق مفهوم الضّرورة(13). فإن كانت فرضيّة قدرة التّاريخ على إنتاج قواعد سير واضحة للمستقبل محلّ نقاش وجدال، فإنّ دور التّاريخ في إنتاج احتمالات يمكن العمل بها والاعتماد عليها في الحاضر والمستقبل ثابتا ومؤكّدا(14). وقد بيّن جون سي. هولسمان John C. Hulsman الدّور الحيوي لعلم التّاريخ في فهم صحيح وسليم لطبيعة السّياسة الدّوليّة حاضرا ومستقبلا وطبيعة شبكات القوّة والنّفوذ(15).
قدّمت الحضارات قراءات مختلفة لحركة التّاريخ، منهم من اعتمد على المنهج الدّائري والعود الأبدي، ومنهم من ارتكز على المراحل سواء ثلاثيّة أو خماسيّة أو ثمانيّة(16). من المهمّ عند ممارسة استشراف المستقبل أن يكون للباحث فهم واضح وجليّ للماضي ورؤية ثاقبة لسيرورة تطوّر المجتمعات. تساعد مهنة المؤرّخ على اكتشاف القوانين والأنظمة العامّة وفهم سيرورة الحركة المدروسة عبر أسئلة (كيف؟، لماذا؟، أين؟، متى؟). حاول «جاك أتالي» أن يفهم من خلال مؤلّفه «قصّة موجزة عن المستقبل» الثّوابت والقوى الدّافعة للتّاريخ، واستقرار هذه التّحوّلات والحركة سعيا لاستقراء التّغييرات المقبلة واستباقها. حصر «أتالي» قراءته للمستقبل في الرّهانات الاقتصاديّة للرّأسماليّة ممّا سيرسّخ الفردنة والخصخصة. أمّا إذا ما تمرّدت البشريّة على الولوج للمستقبل ونبذت العولمة، فإنّ ذلك يعرّضها لحروب «بربريّة» ونشأة الإرهاب والجماعات المتطرّفة. الحلّ هو عولمة مُسيطر ومُتحكّم فيها ومُراقبة من قبل مرتكزات الدّيمقراطيّة (الحريّة، المسؤوليّة، الكرامة، التّسامح، احترام الآخر)(17). كما يمثّل السّيطرة على الأراضي (الخصبة والغنيّة بالثّروات المعدنيّة) مرتكزا أساسيّا لترسيخ القوّة والنّفوذ والهيمنة. مثّلت الأرض تاريخيّا موضوعا للصّراعات والرّغبات واندلاع الحروب الأهليّة ونشأة الامبراطوريّات وانهيارها (18). 
حاول الإنسان دائما أن يستشرف مستقبله استنادا إلى ماضيه وحاضره، وقد أنتج كلّ سياق تمثّلاته وأفكاره الخاصّة تجاه مستقبله(19). ويتخلّل فكرة بناء قواعد تاريخيّة تمكّننا من الاستشراف خطران أساسيّان: الحتميّة، والغائيّة التّاريخيّة. ولهذا تشتمل عمليّة استقراء المستقبل استنادا للتّاريخ على مجموعة من المخاطر والمحاذير المعرفيّة والأخلاقيّة منها مسألة الحتميّة (نهاية التّاريخ المثلا) والتّقسيم المرحلي للتّاريخ الإجباري والتّعسّفي أحيانا والموظّف سياسيّا عادة، هذا إن لم يُوظّف أنثروبولوجيّا وأخلاقيّا (تصنيف تحقيرية للحضارات)(20). وليس من الغريب في هذا السّياق المعرفي أن يّوظفّ «فرانسيس فوكوياما Francis Fukuyama» القراءة الهيغليّة للتّاريخ للتّنظير لمسألة نهاية التّاريخ وانتصار الحضارة الغربيّة، أي توظيف التّاريخ لرسم خطّة واضحة للمستقبل، وأنّ للتّاريخ سيرورة مضبوطة لا مناص عنها ومخطّط للتّطوّر العام للمجتمعات البشريّة(21). 
تمثّل هذه القراءة خطرا على الإنسان نفسه، فهي قراءة ذات رهانات لا تتردّد أبدا في ليّ عنق الحقيقة وممارسة تأويل تاريخيّ خاضع لطبيعة توازنات القوّة والنّفوذ، بل ومشرعنة للظّلم وإنتاج الوصم الاجتماعي والصّور النّمطيّة. فالحتميّات عموما، سواء تاريخيّة أو أنثروبولوجيّة أو جغرافيّة وغيرها تُنتج بالضّرورة عن شبكة مصالح وتهدف أساسا إلى تحقيق فوائد وتتحقّق عادة عبر الظّلم.
اعتمد المؤرخون والفلاسفة التّاريخ كوسيلة لاستشراف المستقبل لصكّ نظريّات خطيّة أو دوريّة أو مرحليّة، وقد اعتمد المفكّرون مسألة الاستشراف إمّا اعجابا بحاضرهم أو توقا لمستقبل أفضل أو مجرّد تنظير تقني/حتمي مرحلي للسّيرورة التّاريخيّة سواء باعتباره تطوّرا أو انحطاطا(22).
بالمقابل جادل عدد من المفكّرين، مثل «برغسون Bergson»، بعدم قدرة التّاريخ على رسم خطاطات دقيقة للمستقبل، لفقدانه للقوانين العلميّة عكس العلوم الصّلبة التي تعتمد أساسا على علاقات ثابتة وضروريّة، فلا يمكن اختزال التّاريخ البشري في منطق التّطوّر البيولوجي لأنّه عرضة للتقلّبات والرّغبات والنّزوات والأطماع الشّخصيّة ورهانات الفاعلين، والصّدفة أحيانا(23). 
وقد حاول مفكّرون آخرون تفادي نقطة الضّعف هذه عبر اعتماد تاريخ الأمد الطّويل للتّنبّؤ عوض تاريخ الأمد المتوسّط وخاصّة القصير(24). فالجغرافيا والمناخ والبنى الذّهنيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة لا تتغيّر بسرعة، بل تحتاج لأجيال كثيرة وهذا ما يمكّن المؤرّخ وعالم المستقبليّات من معطيات راسخة بطيئة التحوّل تسمح له باستقراء المستقبل قصير ومتوسّط الأمد، مع تجنّب استقراء المستقبل بعيد الأمد.
يمكّننا الاستشراف من استيعاب «إرث الماضي ودروسه» وإيجابيّات الحاضر وسلبيّاته وبناء «جسور مع المستقبل»(25). يساهم التّاريخ في فهم جوانب مهمّة من المستقبل، ونبقى هنا مع الرّباعيّة التي ناقشها Herfried Münkler لنشأة الامبراطوريّات وبقائها. بدون تاريخ لا يمكن لنا تشكيل شرعيّة سياسيّة واجتماعيّة للنّظام السّياسي(26)، وفهم موقعة الحقوق والحرّيات والاقتصاد السّياسي والتّكنولوجيا في بناء الحضارة(27).
تواجه الحضارة العربيّة تحوّلات جذريّة في ممارساتها الحياتيّة وتمثّلاتها المعيشيّة، حيث اشتدّ النّقاش عن طبيعة بعض التّطوّرات من قبيل الصّراع المجتمعي حول مسألة القتل الرّحيم، وتأجير الأرحام، ورعاية الحيوان، والذّكاء الاصطناعي، وطرق مكافحة تغيّر المناخ. نُشر سنة 2023 تقرير فيشي (Le Rapport Vigie 2023) وهدفه استشراف المستقبل الغربي وتحديد معنى أن «تكون إنسانا» على مدى الثّلاثين سنة المقبلة. وقد ناقش التّقرير سبعة مسائل وهي: الكائنات الحيّة، مناطق الحياة ومجالاتها وفضاءاتها، الولادة والموت، التّفاعلات بين الإنسان والآلة، النّوع، المعرفة والوقت والزّمن. وقد قدّم التّقرير قراءة استشرافيّة لكلّ مسألة(28).
يساعدنا الاستشراف على فهم مشكلات مستحدثة والتوقّي منها كأنواع الجريمة الحديثة، وطبيعة التحوّلات الديمغرافيّة وعلاقة الجغرافيا السّياسيّة بالتّحوّلات المناخيّة(29)، حيث نعتمد على الماضي لفهم الحاضر واستشراف المستقبل. نأخذ كنموذج تفسيريّ الحرب الرّوسيّة الأوكرانيّة عبر توظيف منهج «الدّورات التّاريخيّ» وخاصّة دورات الحرب والسّلم. طُرح قانون الدّورات التّاريخيّة للنّقاش كثيرا مثل فقدان العصبيّة والتّماسك الاجتماعي (ابن خلدون) ودورة الحياة الطّبيعيّة (شبلنجر)، والتّحدّي والاستجابة (توينبي). ويتشابك ذلك مع الدّورات الاقتصاديّة (كونراتيف) حيث أنّ الحروب والثّروات هي نتيجة للحركات الدّوريّة الاقتصاديّة، وقُدّمت نظريّات أخرى لانهيار الحضارات  حيث أنّ التّقدم الصّناعي والتكنولوجي يأتي عادة على حساب زيادة التّعقيد البنيوي لتكاليف الطّاقة والتّكاليف الاجتماعيّة الهائلة؛ وكلما زاد التّقدّم كلّما زاد التّعقيد، وزادت بالتّالي الموارد اللاّزمة للحفاظ عليها، ممّا يؤدّي إلى انهيار الحضارة المشرفة على هذا التقدّم، ولهذا يُعلّمنا التّاريخ أنّه يجب أن لا نسقط في كراهيّة الأجانب وفخّ الصّور النّمطيّة والحماسة القوميّة والمراهنة أساسا على الإنسانيّة(30).
يتبيّن لنا إذا أهميّة الماضي لفهم الحاضر واستشراف المستقبل، وقد بيّن لنا التّاريخ أهميّة عنصر التّوازن لا في الممالك البشريّة فقط، بل في الممالك الحيوانيّة نفسها في تشكيل النّظم الحضاريّة. كما يبرز لنا الماضي أهميّة فهم رهانات الفاعلين الاجتماعيّن عند تشكيل منطق الضّديّة، سواء عبر ابتكار عدوّ داخلي أو خارجيّ لتأسيس الهويّة ولما لا اختراع ماض وذاكرة وتاريخ لـ «النَّحْنُ» و«الهُمْ».
الخاتمة:
سعينا في هذا البحث إلى التّركيز على عنصرين أساسيين في نشأة الحضارات: قانون التّوازن، وقانون صناعة الضّديّة. وقد تبيّن لنا ارتباط هذه النّماذج لا فقط بالممارسات الإنسانيّة بل بالعلوم الصّحيحة والممالك الحيوانيّة. ولهذا برزت لنا مجموعة من الاستنتاجات الأساسيّة وهي:
* يتشارك علم التّاريخ مع العلوم الصّلبة في مجموعة من المرتكزات المتوفّرة أيضا في بُنى نشأة الحضارات مثل مسألة الفعل وردّ الفعل وغيرها. وقد تبيّن لنا تأثّر الحضارات بل واعتمادها على ثنائيّة التّوازن والضّديّة في نشأتها وفي سيرورة حياتها.
* ليس من الضّرورة أن تكون هناك علاقة توجّس بين العلوم الصّلبة والعلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة وخاصّة التّاريخ، بل يمكن أن تتشابك هذه الحقول المعرفيّة وتتداخل وتُنتج باراديغمات حيويّة ومُفسّرة. فالتّجربة التّاريخيّة مُؤسّسة للحكمة مثلها مثل القواعد العلميّة والممالك الحيوانيّة.
* تُبيّن لنا القواعد الصّلبة والتّجربة التّاريخيّة أنّ ردّ الفعل مرتبطة بطبيعة الفعل، وأنّ صناعة الآخر المختلف هي ركيزة حضاريّة أساسيّة، وهذا ما يؤكّد حيويّة وإجباريّة تواجد متغيّرات أساسيّة مُتحكّمة في حدّة هذا التّوتّر تجنّبا لقيام توازن للقوّة لا توازن الأمر الواقع. أهمّ هذه المتغيّرات هي الأخلاق والفضيلة والخير. تصقل هذه المبادئ ثنائيّة التّوازن والضّديّة، حيث تحافظ عليها مع تجنّب كلّ سلبيّاتها. فالضّديّة تعتمد براغماتيّا على تشكيل صور نمطيّة ووصم اجتماعيّ تجاه «الآخر» مقارنة بـ«النَّحْنُ»، ويمكن أن يصل الأمر إلى شرعنةٍ للظّلم. ولهذا لا يمكن للحضارة أن تستغني عند البناء أو للمحافظة على وجودها عن ثنائيّة التّوازن والضّديّة، ولكن ديمومتها حضاريّة/ثقافيّا وتاريخيّا على أخلقة هذه الثّنائيّة.
* تعتمد مسألة التّوازن حضاريّا على ثنائيّة توازنات الفاعلين الاجتماعيّين المؤثّرين داخليّا وتوازنات أصحاب النّفوذ خارجيّا. فضعف توازنات الدّاخل يسمح باستباحة الحضارة، وضعف توازنات الخارج يحرم الحضارة من مبدأ المنافسة. ولهذا يطرح البحث فكرة أساسيّة وهي أنّ لحظة نشأة الحضارة هي نقطة الالتقاء بين توازنات الدّاخل وتوازنات الخارج.
* أخيرا، يمكّننا تداخل العلوم الصّلبة وعلم التّاريخ ودراسة الممالك الحيوانيّة من تسهيل عمل علم الاستشراف، حيث يتحوّل التّاريخ إلى دليل للمستقبل، وبالتّالي إلى أخلقة مستمرّة لممارسات الفاعلين الاجتماعيّين وسعي دؤوب إلى تجنّب كلّ سلبيّات ثنائيّة التّوازن والضّديّة، أي تجنّب لكلّ محاولة بناء توازنات داخليّة أو خارجيّة ظالمة، أو تشكيل ضديّة قائمة على صور نمطيّة وحيف. وهذه الفكرة هي لبّ رحى هذا البحث، حيث تتحوّل الأخلاق إلى دليل أساسيّ لتشكّل الممارسات الحضاريّة. فغاية الغايات بالنّسبة لعلم التّاريخ هي تنشئة الذّوات الأخلاقيّة، وبالتّالي يسمح تداخله بالعلوم الصّلبة وممارسات الممالك الحيوانيّة ودعمه لعلم الاستشراف بترسيخ هذه الفكرة.
الهوامش
(1)         William Morton Wheeler, “Animal Societies”, The Scientific Monthly, Vol. 39, No. 4 (Oct., 1934), pp. 289 -301
(2)            Margo DeMello, Animals and Society: An Introduction to Human-Animal Studies, Columbia University Press, 2012, pp.3- 31
(3)           Raghavendra Gadagkar, Survival Strategies: Cooperation and Conflict in Animal Societies, Harvard University Press, 1997, pp.139- 170
(4)     Stan Braude, Susan Margulis, E. Dale Broder, “The Study of Animal Behavior Provides Valuable Opportunities for           
             Original Science Fair Projects”, The American Biology Teacher, Vol. 79,No. 6 (AUGUST 2017), pp. 438 -441
(5)   موقع ناسيونال جيوغرافي العربيّة، الرابط:   من-وحي-النمل https://ngalarabiya.com/eye-on-earth
(6)   موقع ناسيونال جيوغرافي العربيّة، الرابط:   فصائل-من-النمل-تزحف-إلى-المعارك-وتنقذ https://ngalarabiya.com/eye-on-earth
(7)     Michel Kreutzer, «De la notion de genre appliquée au monde animal», Revue du MAUSS, 2012/ 1 (n°39) pp.218 -235
(8)                         Alain Clément, «Les références animales dans la constitution du savoir économique (17e-19e siècles) »,  Revue  d’Histoire des Sciences Humaines, 2002 /  2 (n°7) pp.69 -96   
(9)   Altruisme et solidarité S’entraider est-il naturel ?, Sciences Humaines, Éditions Sciences Humaines, 2020 / 6 , n°326  
(10)    Frank N. Egerton, “Changing Concepts of the Balance of Nature”, The Quarterly Review of Biology, Vol. 48, No. 2 (Jun., 1973), pp. 322 -350
(11)      Roger E. Ulrich, “Animal Rights, Animal Wrongs and the Question of Balance”, Psychological Science, Vol. 2, No. 3 (May, 1991), pp. 197 -201
(12)  M. E. Solomon, “The Natural Control of Animal Populations”, Journal of Animal Ecology, Vol. 18, No. 1 (May, 1949), pp. 1 -35
(13)                                                                                           Charles Morazé, La Logique de l’Histoire, Gallimard, Paris, 1967
(14)     Quentin Deluermoz, Pierre Singaravélou, Pour une histoire des possibles. Analyses contrefactuelles et futurs non advenus, Seuil, L’Univers historique, 2016
(15)   جون سي. هولسمان، لنتجرّأ بإقدام: قصّة جريئة في تحليل المخاطر السياسيّة، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجيّة، أبو ظبي، 2023
(16)                                                                             Igor M. Diakonoff, The Paths of History, Cambridge University Press, 1999
(17) جاك أتالي، قصّة موجزة عن المستقبل، ترجمة: نجوى حسن، المركز القومي للترجمة، مصر، 2013، ص.8- 13
(18)                Pierre Blanc, Terres, pouvoirs et conflits. Une agro-histoire du monde, Presses de Sciences Po, Paris, 2018
(19)   Régis Bertrand, Maryline Crivello et Jean-Marie Guillon (dir.), LES HISTORIENS ET L’AVENIR Comment les hommes du passé imaginaient leur futur, Presses universitaires de Provence, France, 2014
(20)  Christophe Bouton, « L’histoire de l’avenir. Cieszkowski lecteur de Hegel », Revue germanique internationale, n.8,    2008, pp.77- 92 
(20)     Bernard Cazes, « Francis Fukuyama ou le dernier philosophe de l’Histoire. Réflexions sur l›ouvrage de F. Fukuyama “La Fin de l’Histoire et le dernier homme” », Futuribles, n° 169, octobre 1992
(21)   فرانسيس فوكوياما، نهاية التاريخ والانسان الأخير، ترجمة: فؤاد شاهين/جميل قاسم/رضا الشايبي، معهد الإنماء القومي، بيروت، 1993
(22)    Michel Meyer, «La philosophie de l’Histoire est-elle encore possible?, in:Qu’est-ce que l’Histoire? Progrès ou déclin?  Presses Universitaires de France, Paris, 2013, p.9- 14
(23)     Henri Bergson, Le Possible et le Réel, Flammarion, Paris, 2021, Chapitre: Enjeu n°3. L’histoire humaine est-elle imprévisible ?, pp.119- 121
(24)            Jared Diamond, De l’inégalité parmi les sociétés Essai sur l’homme et l’environnement dans l’histoire, Traduit de l’anglais : Pierre-Emmanuel Dauzat, Gallimard, Paris, 2020, Chapitre : Epilogue. De l’avenir de l’histoire humaine considérée comme une science, pp.607- 641
(25)مستقبل الأمة العربية: التحديات والخيارات. التقرير النهائي لمشروع استشراف مستقبل الوطن العربي، إشراف: خير الدين حسيب، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1988
(26) مايكل هدسون، «الدولة والمجتمع والشرعيّة: دراسة عن المأمولات السياسيّة العربية في التسعينات»، ضمن: العقد العربي القادم. تحرير: هشام شرابي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1986، ص.17 - 36
(27) بعجت قرني، «الضيف الثقيل: الاقتصاد السياسي للعلاقات العربية مع القوى العظمى»، ضمن: العقد العربي القادم. تحرير: هشام شرابي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1986، ص.85 - 112
(28) لقراءة التقرير باللغة الفرنسيّة أنظر: https://www.futuribles.com/introduction-generale-du-rapport-vigie-2023
(29)   Mickaël R. Roudaut, « Une brève histoire du futur. Le monde criminel à l’horizon 2025 L’inconnu connu, l’inconnu inconnu et le connu inconnu », Sécurité globale, 2016/ 2, No. 6 pp. 21 -41    
(30)            Job Flores-Fernández, Francisco José Martínez-López, «Ukraine War and Historical War Cycles:Was It to Be Expected? Exploring The Futures of The War In Ukraine Through Historical War Cycles», Journal of Futures Studies, Vol. 28 No. 1, September 2023