تمتمات

بقلم
رفيق الشاهد
مفارقات (الجزء الأول)
 أسفاري خارج الوطن وإن تعدّدت كانت جميعها في إطار مهمّات عمل تتحمّل الإدارة نفقاتها طبقا لضوابط التّشريعات الجاري بها العمل. من موقعي داخل المنظومة الإداريّة، أتفهّم حرص الدّولة على التّقشّف في نفقاتها، ولكن ليس إلى الحدّ الذي يجعل الإطارات يتهرّبون من التّكليف لتمثيل بلدهم أو مؤسّساتهم في إطار برامج التّعاون الدّولي.  وكنت ممّن يشاركون في ندوات واجتماعات المنظّمات الدّوليّة في مجال الاختصاص، وكنت في كلّ مرّة أتأقلم مع الظّروف بالتّقشّف والاحتياط، فأقدّم الأهمّ على المهمّ حتّى أُحِدّ من التّكلفة التّكميليّة التي تكون من مدخّراتي أو ممّا تدبرتها سلفة على الحساب. 
تمرّ الأيام ويكبر الأولاد وتتغيّر المعطيات. فحينها يبدأ المرء في التّفكير في تعويض ما فات، ولكن هيهات «ما كلّ ما يتمناه المرء يدركه  ***  تجري الرّياح بما لا تشتهي السّفن». أو كما قالت والدتي عليها رحمة اللّه «لما حلت* حرّمت». ولكن في كلّ الحالات لم يكن حظّي أسوأ، بل أعتقد أنّني حظيظ ولست ممّن لا يفوتهم الشّكر اعترافا بفضل اللّه عليّ.
منذ سنوات وقبل أن يُحرَّمَ ما أصبح حلوا، وجدتني في باريس، ولم أحجز كالعادة في فندق رخيص ولا غرفة لأمّ عزباء توفّر من كرائها قليلا من المال يساعدها على تدبير حاجاتها ونفقات ابنها الرّضيع بعد أن انقطعت بسببه عن عائلتها. بل وجدتني عند إبني في شقّته التي اكتراها في قلب باريس، وإن كانت ضيقة وصغيرة في عينيه، إلاّ أنّها مرتّبة ولائقة وفسيحة اتسعت لبهجة اللّقاء بين الإبن ووالده، وقد تسرّبت حرارته الى خارج البيت ليصل إلى الجيران. بل كان ذلك البيت مركز المدينة وربّما لا يضاهيه برج إيفل الذي يطلّ علينا ما أن نزلنا وانعطفنا إلى الشّارع الرّئيسي.
سكنت عنده ووفّرت كلفة السّكن في مدينة شديدة الغلاء، ممّا جعلني أشعر بالرّفاه والغنى وأفكر هذه المرّة بجدّية في زيارة متحف اللّوفر الذي طالما كنت أتوق إليه. فخصّصت يوما طويلا استعددت له منذ الصّباح الباكر بعد أن اقتطع لي ولدي تذكرة عبر الموقع الإلكتروني. وانطلقت الرّحلة، وكنت بمفردي فاستحسنت الأمر حتّى أكون متحرّرا من كلّ شيء. 
دخلت إلى متحف اللّوفر وقد حدّدت مساري ورسمته على هاتفي باعتماد موقع دليل المتحف الالكتروني الذي تسلّمته مع التّذكرة البينيّة. ولما بلغت البوّابة التي نفذت من خلالها إلى الهرم الزّجاجي الذي يعدّ الجناح الإسلامي في المتحف، اقتنيت نسخة ورقيّة لخريطة الموقع ودليل زيارة أقسام المتحف يحتوي على بيانات تخصّ أهمّ اللّوحات الفنيّة والقطع الأثريّة التي تؤثّث هذا المتحف العريق، إذ حسب هذا الدّليل تحوي قاعاته على أكثر من مليون قطعة فنّية بين لوحة زيتيّة وتمثال، ويضيف أنّ من ضمنها مجموعة رائعة من الآثار الإغريقيّة والرّومانيّة والمصريّة ومن حضارة بلاد الرّافدين.
لم أكن أطمع في الحقيقة من كلّ هذا إلّا في مشاهدة مباشرة وتمعّن عن قرب في تحفة «ليوناردو دي فينشي» الموناليزا الشّهيرة. وفيما يتبقّى لي من الوقت من النّهار الذي قطعا لا يكفي لأجوب أروقة جناح واحد من أجنحة المتحف الثّرية بالآثار الفنّية النّادرة لعباقرة الرّسّامين والنّحاتين والتّوقف عند كلّ منها لاستيعاب كلّ هذا الزّخم التّاريخي الثّابتة وقائعه بفضل هذه الشّواهد لأحقاب بعيدة جدّا. 
ربّما ستقتصر زيارتي على أهمّ المعالم الأثريّة الشّرق أوسطيّة التي قام الأوروبيّون بسرقتها خلال حملاتهم الصّليبيّة والاستعماريّة على مدار القرون وخاصّة الأثار الفنّية المصريّة التي استولى عليها «نابليون بونابرت» في حملاته التّوسعيّة من أهدافها جعل باريس مركزًا للفنون والعلوم والثّقافة قبل العواصم المتسابقة الأخرى في نهب مقدرات الدّول الأفريقيّة وأمريكا اللاّتينيّة. فضمّ الأعمال الفنّية باعتبارها في خطر مثلها مثل الأعمال الإسبانيّة والنّمساويّة والهولنديّة والإيطاليّة التي استحوذت عليها فرنسا بدعوى حماية تراث وثقافة رعاياها وتأميمه.. «لا يسقط ميزان الرّطل إلاّ عيار الكيلو»، فبعد هزيمة «بونابرت» في مصر استولى الجيش البريطاني على الغالبيّة العظمى من الآثار المصريّة كتعويضات حرب وهي الآن تؤثّث المتاحف البريطانيّة. 
وبين العيارات الثّقيلة والأكثر ثقلا تلاشت ثروات بلداننا بين متاحف أرادوها أقطابا للتّراث العالمي يدعّم السّياحة ويدرّ عليهم أموالا طائلة.
وجدت طابورا طويلا جدّا لا رأس له في أفقه ومتوقّفا لا يتحرّك قيد أنملة. يتّجه نحوه كلّ الوافدين الرّاغبين مثلي في مشاهدة «الموناليزا». لم أطل النّظر في الدّليل السّياحي الخاصّ بالمتحف منذ وقفت في الطّابور التفتّ فلم أجد لذيله أثرا وتأكّد لي ما أفادني به أبني أنّ الكثير من السّياح زائري المتحف يبكرون ويتخذون أماكنهم في الطّابور قبل الفجر. ودون تردّد عدلت على الوقوف بالطّابور ربحا للوقت. وانطلقت الرّحلة في أروقة المتحف أدقّق هنا وأمرّ مسرعا هناك، أخرج من قاعة لأدخل أخرى وقد ضاع عنّي التزامي بالمسار الذي رسمته. كلّ قطعة أثريّة تستحقّ المكوث عندها والاستماع إليها تسرد ما سكتت عنه الوثائق التّاريخيّة، كما توحي إليك بحقائق تتطلّب النّبش والتّدقيق ليتبيّن الوجه الخفي لهذه الشّواهد التّاريخيّة والفنّية. وبعد فترة بدت لي قصيرة ارتبكت لمّا اكتشفت أنّني استهلكت من الوقت نصف الرّحلة، وزاد ارتباكي فكنت أجدني في أماكن مررت بها وكأنّني أدور في حلقة مغلقة. ثمّ لا أدري كيف وجدتني من جديد في طابور لم أعرف كيف وصلت إليه ولا كيف دخلت وسط أحد صفوفه على مرأى غير بعيد لرأسه يتسلّل إلى بوابة كبيرة. سألت إلى أين يفضي هذا الصّف؟ فكان الجواب: «القاعة الكبرى حيث لوحة الموناليزا» فركنت بالطّابور خجلان، ويبدو أنّني لم أكن الوحيد الذي تسلّل إليه فخفّف ذلك من اضطرابي واتبعت تقدّم الطّابور غير مبال بانزعاج من خلفي وبغمزاتهم. 
كان التّقدم بطيئا جدّا، كلّما تقدّم الزّمن منزلقا دون المكان كلّما قلّت فرص اكتشاف ما في المتحف من إبداعات فنّية تاريخيّة. بعد أكثر من ساعة بلغت بوابة القاعة وصار الطّابور داخلها في صفّين طويلين منعرجين لزيادة طوله وزيادة استيعاب لعدد أكبر من الزّوار يتقدّمون بين حاجزين من لفيفة حمراء قرمزيّة امتدّت على أعمدة بطلاء ذهبي حيث لا يمكن لأحد التّسلّل من خلالها ولا مجال ليتجاوز أحد من أمامه حتّى يبلغ الصّفّان مستوى اللّوحة الفنّية في نسختها الأصليّة. ويمرّ الزّائرون أمامها على مسافة أمان ضروريّة في خطّ مستقيم دون وقوف بل ببطء حتّى التّوقّف يقودهم في النّهاية إلى بوابة الخروج.
مرّت ساعة أخرى بين المنعرجات المتعدّدة والمملّة لأنّها تسلب من الواقفين بالصّف وقتا ثمينا مهدورا كان أولى توظيفه لاكتشاف أكثر ما يمكن من أسرار الإرث الإنساني الذي يؤثّث أروقة المتحف. وكنت في تقدّمنا البّطيء تتاح لي من حين لآخر رؤية جانبيّة للوحة «الجوكاندا» أسندت فوق كرسي خشبي عادي وبسيط. لا أظنّه عفويا فيؤخذ على أنّه استخفاف بالقيمة الاعتباريّة لهذه اللّوحة التي لا تقدّر بثمن، بل اختيار مدروس من مستشاري المعرض الذين توّجوا هذه القيمة الفنّية بالتّواضع، فزادها ألقا واحتراما. هذا بالإضافة إلى إمكانيّة علاقة هذا الإكسسوار باللّوحة أو بدافنتشي صاحب اللّوحة لهذا استحقّ هذا الكرسي أن يسلّط عليه الضّوء من خلف اللّوحة. ثمّ انتبهت وتوقّعت من خلال نسق تقدّمنا في الطّابور ألاّ يكون الخروج من القاعة قبل ساعة أخرى. وفي أثناء ذلك كان هاجس يراودني ويقرع طبلة حسّي بتواتر متزايد ومتسارع جعلني مضطربا فشديد الاضطراب ثمّ متأزّما فشديد التّأزم. «أنا لست فنّانا ولا أفقه تقنيات ولا أصول الرّسم ولا النّحت ولا علاقة لي من قريب أو بعيد بالنّقد الفنّي، فلماذا تأخذ منّي الموناليزا كلّ هذا الوقت وهذا العناء؟». 
زاد اضطرابي وغلبت رغبتي في الخروج الرّغبة في مشاهدة التّحفة الفنّية التي كانت في وقت ما حلما أراه اليوم يتحقّق. ولكن ما الذي جعل هذه التّحفة يقبل عليها النّاس من كلّ أطراف الدّنيا بهذه الرّغبة وبهذا الشّوق، ويصطفّون وينتظرون مثلي في هذا الصّفّ الطّويل صابرين على الملل والعناء؟ ألم تصبح هذه التّحفة بقيمتها الفائقة وما تحمله من شهرة باعتبارها واحدة من أفضل الأعمال الفنّية وأكثر اللّوحات التي أثارت جدلاً على مرّ تاريخ فنّ الرّسم هي التي رفعت من شأن صانعها الفنّان الإيطالي نفسه ليوناردو دافنشي Leonardo Da Vinci ؟ هل كان له أن يتمتّع بهذه المكانة لولا لوحة الموناليزا؟. وراودتني في زحمة هذه الأفكار التي ما فتئت تهزّني وتربكني أجوبة عن هذه الأسئلة لا أعرف كيف زادت من ارتباكي عوض أن تهدئني، فابتللت عرقا وارتعد بدني ولم أعد قادرا على الوقوف.  
أشرت إلى العون المراقب في بزته الرّسمية. اقترب منّي، فطلبت منه مساعدتي على الخروج. وفهم من ملامحي أنّني لست بخير، فلم يتردّد. فتح لي الحاجز الجانبي ورافقني إلى البوّابة وكان لابدّ أن أمرّ أمام اللّوحة التي لم أستطع إلاّ أن ألقي عليها نظرة أخيرة وجها لوجه وبمساعدة العون نفسه الذي تلطّف وبعفويته توقّف رأفة بي ودعاني للوقوف أمام اللّوحة كجميع الزّوار. خرجت مذبذبا لا أدري ماذا أصابني ولكنّني كنت متأكّدا بل على يقين أنّ الحجّ إلى لوحة «الموناليزا» إكبار من شأن «ليوناردو دافنتشي» نفسه الجالس على عرشه القديم.