التجديد الحضاري

بقلم
د. محمد المجذوب
إلا الصوم
 من الدّلالات التّزكويّة لفريضة الصّيام، التّذكير بالمعاني الخلقيّة والقيم الإيمانيّة في الصّدق والصّبر، فيكون من مقاصد فرض الصّيام الوصول بالمسلم إلى التّقـوى التي هـي جمـاع القيـم الفاضلـة، يقول تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾(البقرة :183)، ومن هنا نفهم دلالة قوله ﷺ:«ومن لم يدع قول الزّور والعمل به، فليس للّه حاجة في أن يدع طعامه وشرابه»(1). 
فالرّسول ﷺ يوضّح أنّ المقصد من الصّوم هو البعد عن الرّذائل الخلقيّة، يقول ﷺ:«...الصِّيَامُ جُنَّةٌ، وإذَا كانَ يَوْمُ صَوْمِ أحَدِكُمْ فلا يَرْفُثْ ولَا يَصْخَبْ، فإنْ سَابَّهُ أحَدٌ أوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ: إنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ...»(2)، فانظر كيف بيّن الرّسول ﷺ أنّ الصّوم جنّة أي وقاية للمسلم من القيم الذّميمة، وكيف نصح المسلم بأن لا يتكلّم بالفحش والجهل وأن لا يفعل القبيح وإن اعتدى عليه أحد فليقل إنّي صائم أي صومي يحجبني عن سوء الخلق.
وبطبيعة الحال فإنّ اختصاص اللّه تعالى للصّوم دون سائر العبادات الأخرى، لم يكن أمرا عبثيّا أو محض مصادفة؛ وإنّما لمجموعة من المبرّرات الأخلاقيّة، كون جميع الفرائض التي تخصّ الجوارح يتهيّأ للخلق أن ينظروا إليها إلاّ الصّوم، فإنّه عبادة بغير حركة الجوارح، بما يعنى أنّ الصّوم بهذه الخصوصيّة عبادة ذاتيّة صادقة لا تتعلّق بالظّاهر الاجتماعي فقط وإنّما بالمعنى القيمي. 
بيد أنّ الالتزام بهذه القيمة يحتاج إلى قوّة إيمانيّة دافعة يشعر بها الإنسان في طواياه، تُحرّضهُ على فعل الخير وتحذّره من فعل الشّر، فاستشعار الرّقابة الإلهيّة وتمثّلها في النّفس الإنسانيّة تبدو أكثر ما تبدو في عبادة الصّوم، ذلك أنّ تجربة الصّوم تجعل من رقابة اللّه تعالى حاضرة في ظلّ غياب رقابة البشر، وهنالك يمتنع الصّائم - مهما اشتد به الجوع أو العطش- عن أن يمدّ يده إلى طعام أو شراب يسدّ به رمقه أو يطفئ به ظمأه، لا خوفا أو حياءً من رقيب ولكن خضوعا لرقابة اللّه القدير، يقول تعالى:﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾(المجادلة :7).
كما أنّ الصّوم يكتسب صفة الكمال الأخلاقي، فإذا كانت حقيقة الحقّ سبحانه تستلزم التّنزه عن التّغذي، على عكس حقيقة المخلوق التي تقتضي التّغذي، مِمَّا يعني أنّه لمّا كان للصّوم هذه الصّفة فقد ترتّب على ذلك نسبة الحقّ تعالى إليه؛ مثلما يعني أيضاً أنّ في صيام الإنسان تشبّه بالخالق سبحانه وتعالى.
 هذا ويترتب على ما سبق كذلك أنّ جزاء الصّائمين، كما الصّابرين، بلا نهاية، يقول تعالى:﴿قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾(الزمر :10)، وبالتّالي يخرج الصّوم من عداد الحسنات المعدود ثوابها؛ لأنَّه صبر للنّفس عن مألوفاتها من المأكول والمشروب، وإمساك للجوارح عن شهواتها، ولهذا السّبب فالصّائمون من هذه الجهة هم الصّابرون.
 ويكفي للتّدليل على قيمة عبادة الصّوم قول النّبي ﷺ: «قالَ اللَّهُ: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ له، إلَّا الصِّيَامَ؛ فإنَّه لي، وأَنَا أجْزِي به...» (3). بما يعنى أنّ علّة الزّيادة في ثواب الصّائمين إنَّمَا ترتدّ إلى خصوصيّته بوصفه صفة من صفات الكمال، ومن هنا كان الصّوم من أشقّ الأمور على النّفس لأنّه خلاف ما جبلت عليه من حيث أنّ قوامها لا ينفك عن المادّة، واتساقا مع المعنى القيمي للصّيام، فليس مطلوبا من الصّائم مجرّد الإمساك عن المأكل والمشرب فقط، وإنّما لا بدّ من صوم قيمي كذلك، وبهذا المعنى يكون الصّوم قيما إيمانيّة تنمّي في جسد الإنسان وروحه إحساس الحاجة والحرمان والرّضى والشّبع في آن معا.
الهوامش
(1) أخرجه عن أبي هريرة: البخاري (1903)، وأبو داود (2362)، والترمذي (707) واللفظ له، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (3246)، وابن ماجه (1689)، وأحمد (10562) 
(2)رواه البخاري (1894)، ومسلم (1151) عن أبي هريرة
(3) نفسه