نافذة على الفلسفة

بقلم
أ.د. عبدالرزاق بلقروز
قيمة العقلانية عند محمد أركون في منظور طه عبد الرحمن (1/2)
    مُفتتح:في أن الخوض في ماهية العقل ليس مستحدثا
ليست مسألة الخوض في العقل وماهيته وحُدُوده، بالمشكلة المُستحدثة في مسائل الفكر العربي والإسلامي المعاصر، إنّما تضرب بجذورها في التّراث المعرفي الإسلامي وبمختلف أنساقه وفروعه المعرفيّة؛ فقد حدث اختلاف في بيان ماهية العقل، بين الطَّرح الفلسفي المُتأثّر بالموروث اليوناني، وبين الطَّرح المقابل الذي ينهل من مصادر متعدّدة؛ منها ماهو فقهي؛ ومنها ما هو كلامي، ومنها ما هو عرفاني صوفي، إلّا أنّ هذا التَّعدُّدَ يجوز لنا حَصْره في تحديدين للعقل هما:التَّحديد الجَوهراني الماهوي، والتَّحديد الفعّالي القَلْبيِ. ففيما يتّصل بالمستوى الأول؛ ثمّة هيمنة للمفهوم اليوناني للعقل على شُعب المعرفة في التّراث المعرفي الإسلامي المُتأثّرة بنظريّات العقل عند اليونان، أي القول بالدَّلالة الجوهرانيّة لقوى النّفس الإنسانيّة، فهذا الكندي (ت252)يعرف العقل بأنه:«جوهر بسيط مُدرك للأشياء بحقائقها»...أمّا الفارابي فإنّ فعل العقل عنده «العناية بالحيوان النّاطق، والتماس تبليغه أقصى مراتب الكمال، الذي للإنسان أن يبلغه وهو السَّعادة القصوى؛ وذلك بأن يعبّر الإنسان في مرتبة العقل الفعّال، بأن تحصل مفارقا للأجسام غير محتاج في قوامه إلى شيء آخر ممّا هو دونه من جسم أو مادّة أو عرض» (1) 
وواضح من خلال هذه النَّماذج، بماهي نماذج يتحدَّد فيها العقل في سياق الدَّلالات الجوهرانية، أنّ المُفردات المركزيّة المُهيمنة هي الجوهرانيّة والمُفارقة وسياسيّة النَّفس وتجاوز البدن، فضلا عن خلع المواصفات اليونانيّة في قسمته إلى عقول كثيرة، وتوطين نظريّة فيض العقول التي جاءت من الصُّوفيّات اليونانيّة، هذه القسمة التي تجد أصلها في تعدّد الآلهة عند اليونان ملمح خطير على تداخل البعدين الدّيني والفلسفي في التّراث المعرفي اليوناني، وغياب هذه الحقيقة عن أكثر متفلسفة العرب المتأثّرين بهذه النّظرة.
وبخلاف هذه النّظرة المتأثرة بالموروث اليوناني في بيان ماهيّة العقل، فإنّه ثمة نظرة أخرى لا تنساق خلف هذه المفاهيم بقدر ما تُبصر فيها عدم مُطابقة بين مُقتضيات اللّغة والمعنى القرآني للعقل، وقد طوّرت هذه الرُّؤى الدَّلالة القلبيّة لمفهوم العقل. وهي دلالة في مجموعها تنفي أوصاف الجسميّة والصُّوريّة والجوهرانيّة عنه، وهذا قصده ابن الجوزي في كتابه «ذمّ الهوى» بعد أن سرد مُجمل التّعريفات المُتداولة عند النّاس، «كالقول بأنّ العقل هو «ضرب من العلوم الضّروريّة»، أو هو غريزة يتأتّى معها درك العلوم، أو هو قوّة يُفضَّل بها بين حقائق المعلومات... والتّحقيق في هذا يُقال:العقل غريزة، كأنّها نور يُقذَف في القلب، فيستعدّ لإدراك الأشياء، فيعلم جواز الجائزات، واستحالة المستحيلات، ويتلمّح عواقب الأمور. وذلك النّور يقلّ ويكثر، وإذا قوي ذلك النّور قمع –بملاحظة العواقب-عاجل الهوى... وأكثر أصحابنا يقولون محلّه القلب، وهو مروي عن الشّافعي رضي اللّه عنه. ودليلهم قوله تعالى﴿فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا﴾(الحج:46)، وقوله ﴿إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ...﴾(ق:73) قالوا «المراد، لمن كان له عقل، فعبّر بالقلب عن العقل، لأنّه محلّه»(2).
وواضح هنا في هذه الدّلالة صرف المعنى من الدّلالة الجوهرانيّة والمفارقيّة والتحيُّزيّة إلى الفاعليّة الإدراكّية الخاصّة بالقلب، والقلب كما يُفهم هنا، ليس هو الجانب الجسمي الصّنوبري الموجود في الجهة اليسرى من الصّدر، إنّما هو لطيفة روحانيّة ربّانيّة موصولة بعالم الأمر الإلهي. من هنا فإنّ مفهوم العقل كما يتحدّد في سياق الممارسة الفلسفيّة الإسلاميّة يُطلق بالإشتراك على معان متعدّدة تجمع بين:المعنى المعرفي والمعنى الأخلاقي مؤطّرين وفق مقاصد الوحي الإسلامي، وليس جوهرا مفارقا. ويبدو أنّ المعنى الذي يتبنّاه طه عبد الرحمن في العقل ينهل من هذه المصادر التُّراثيّة التي بدورها تقبل بدلالة العقل القلبيّة والفاعليّة، وترفض الدّلالة الجوهرانيّة المأخوذة من التّراث اليوناني، ومن رؤية أخرى، فإنّ هذا الفهم القلبي للعقلانيّة هو الأداة التي توسّل بها طه عبد الرحمن في نقده لمفهوم العقلانيّة عند أركون والجابري، واللّذين برأيه تبنّيا المفهوم الجوهراني وما يتشعّب عنه من دلالات وأفكار.
1. مفهوم العقلانية عند طه عبد الرحمن:من مضائق التّجريدية إلى كمالات التأييدية
إنّ اللاّفت للانتباه  فيما حدّث به طه عبد الرحمن عن العقلانيّة هو تعدُّد دَلالاتها وتكاثر مفاهيمها، وتباين تصنيفاتها، والسّبب الكامن وراء هذه المُواصفات،  المفهوم الذي يتبنّاه طه عبد الرحمن للممارسة العقليّة، بما هي ممارسة لا تنطلق من اعتبار العقل جوهرا ثابتا قائما بالإنسان، محلّه عضو مخصوص، إنّما العقل ممارسة لا تستقل بنفسها، ويجوز أن تكون محلّ تقويم من غيرها، وهذا التّقرير احتراز جَليّ من طه عبد الرحمن، يجد مُسوّغه في مجانبة القول بالجوهرانيّة أو التّشيئيّة أو النّظرة التَّجزيئيّة التي تقسّم وحدة الإنسان إلى جواهر منفصلة ومتفاضلة في القيمة، فالإقرار باستقلاليّة العقل وتخصيصه بالمعرفة على النّحو الذي أدخله أرسطو إلى شعب المعرفة الفلسفيّة اليونانيّة، لا يستسيغه الذّوق الطّاهائي، ذلك أنّ أرسطو هو من أجرى هذه الصّياغة  المفهوميّة  للعقل، وجرى نقلها إلى شعب المعرفة الإسلاميّة، وأُخْرجت بعض معارفها وفق هذه الصّياغة المفهوميّة.
يقول أرسطو في«كتاب النّفس»: «ذلك أنّنا نميّز من جهة العقل الذي يُشبه الهيولي، لأنّه يصبح جميع المعقولات، ومن جهة أخرى العقل الذي يشبه العلّة الفاعلة لأنّه يُحدثها جميعا... وهذا العقل هو المُفارق اللاّمنفعل غير المُمتزج، من حيث إنّه الجوهر فعل، لأنّ الفاعل دائما أسمى من المنفعل، والمبدأ أسمى من الهيولي... ولا نستطيع القول إنّ هذا العقل، يعقل تارة ولا يعقل تارة أخرى، وعندما يفارق فقط، يصبح مختلفا عمّا كان بالجوهر، وعندئذ فقط يكون خالدا وأزليّا»(3).
إنّ مدار اعتراض طه عبد الرّحمن على التَّحديد الماهوي للعقل، هو انغراس هذا التّحديد في التّربة التّجزيئيّة والتّشيئيّة: «تشييئيّة لأنّها تُجمّد المُمارسة العقلانيّة بأن تُنزّل عليها أوصاف الذّوات مثل: «التحيُّز»و«التشخُص» و«الاستقلال»و«التّحدُّد بالهويّة»و«اكتساب الصّفات والأفعال»... وتجزيئيّة لأنّها تقسّم تجربة العاقل الإنساني المُتكاملة إلى أقسام مُستقلّة ومتباينة، فتخصيص العقل بصفة«الذّات»يجعله مُنفصلا عن أوصاف أخرى للعاقل لا تقلّ تحديدا لماهيّة الإنسان كـ «العمل»و«التَّجربة»مثلا، إن لم تكن أقوى تحديدا لهذه الماهية. فلو جاز التَّسليم بـ «جوهريّة» العقل، فلأن يجوز التّسليم«بجوهريّة»العمل و«جوهريّة» التّجربة أولى»(4). 
إلاّ أنّ مَقْصِدَ طه عبد الرّحمن يتعدّى هذا المستوى النّقدي، إلى المستوى البنائي أو التّأسيسي، أي محاولة تطوير مفهوم آخر للعقل والعقلانيّة، يختلف عن المُحدّدات اليونانيّة قديما وتجلياتها في الثّقافة الغربيّة حديثا، وأيضا المناحي التي تَأثّرت بفكرة جَوهرانيّة العقل في المعرفة الفلسفيّة الإسلاميّة. 
إنّ الدّلالة الجديدة للعقل والعقلانيّة هي الدّلالة الأخلاقيّة والتّصور الفعالي لهما، بحيث يصبح العقل فعلا من الأفعال ووصفا من الأوصاف على مقتضى التّصوّر الإسلامي وليس على مُقتضى التّصوّر اليوناني «فعلى هذا، لايعدو العقل أن يكون فعلا من الأفعال أو سلوكا من السّلوكات التي يطّلع بها الإنسان على الأشياء في نفسه وأفقه، مثله في ذلك مثل البصر بالنّسبة للمٌبصرات، فالبصر ليس جوهرا مُستقلّا بنفسه، وإنّما هو فعل معلول للعين، فكذلك العقل هو فعل معلول لذات حقيقيّة، وهذه الذّات التي تميّز بها الإنسان في نطاق الممارسة الفكريّة الإسلاميّة العربيّة، ألا وهي القلب؛ فالعقل للقلب كالبصر للعين»(5). 
ولا يخفى علينا هنا، أنّ الرُّؤية الإسلاميّة نسقا وإنتاجا فكريّا، هما الموجّهتان لهذا التّصوّر الفعّالي للعقل، وبيان ذلك رفض العُلماء المسلمين التّصوُّر الجَوْهراني للعقل واعتراضهم على مقدّماته، يقول الإمام الماوردي:«وهذا القول في العقل بأنّه جوهر لطيف فاسد من وجهين: أحدهما: أنّ الجواهر متماثلة، فلا يصحّ أن يوجب بعضها مالا يوجب سائرها. ولو أوجب سائرها ما يوجب بعضها لاستغنى العاقل بوجود نفسه عن وجود عقله. والثّاني:أنّ الجوهر يصحُّ قيامه بذاته. فلو كان العقل جَوهرا لجاز أن يكون عقلا بغير عاقل كما جاز أن يكون جسما بغير عقل، فامتنع بهذين أن يكون العقل جوهرا»(6) 
ويتوكّأ الماوردي على الدّلالة اللّغوية من أجل الانتقال إلى الرّؤية القرآنيّة التي ينبجس فيها التّصوُّر الفَعّالي للعقل ورفض التّصوّر الجوهراني: «وسمّي بذلك تشبيها بعقل النّاقة، لأنّ العقل يمنع الإنسان من الإقدام على شهواته إذا قبحت، كما يمنع العقل النّاقة من الشّرود إذا نفرت... وقد جاءت السّنة بما يؤيّد هذا القول في العقل وهو ما روي عن النّبي ﷺ أنّه قال:«العقل نور في القلب يفْرِقُ بين الحقّ والباطل»، وكلّ من نفى أن يكون العقل جوهرا، أثبت محلّه في القلب، لأنّ القلب محلّ العلوم كُلّها. قال اللّه تعالى: ﴿أفَلَمْ يَسِيروا في الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبُُ يَعْقِلوُنَ بِها﴾(الحج: 46). فدلّت هذه الآية على أمرين: أحدهما: أنّ العقل علم، والثاّني: أنّ محلّه القلب. وفي قوله تعالى: «يَعْقِلوُنَ بِها»، تأويلان: أحدهما: يعملون بها، والثّاني: يعتبرون بها»(7).
وارتكازا على هذه الرّؤية في النّظر إلى الأمور، يسلك طه عبد الرّحمن مسلك التّأسيس الأخلاقي للفاعليّة الإدراكيّة المعرفيّة، رافضا في الوقت نفسه تلك الثّنائيّة التي أدخلها الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط إلى حقول المعرفة الفلسفيّة؛ أي التّفرقة بين العقل النّظري والعقل العملي، وتخصيص الأوّل بالوظيفة المعرفيّة، والثّاني بالوظيفة التّشريعيّة للأخلاق.
لكن مع طه عبد الرحمن يستحيل العقل عقولا، والفعل الإدراكي مراتب لا يقيم على حال واحدة، بقدر ما يتجدّد على الدّوام ويتقلّب بغير انقطاع، ويرتقي في مراتب الكمال بقدر ما يكون متعلّقا بأفق الرُّوح، يقول طه عبد الرحمن في مقام الحديث عن مقاصده في تبنّي التّصوّر الفعالي للعقل: «وقد كان قصدي أن أبيّن كيف أنّ العقل ليس مرتبة واحدة، وإنّما مراتب متعدّدة بعضها أعقل من بعض، بحيث يكون أدناها عقلا ماكان موصولا بالرّتبة الأخيرة من رُتب الحسّ، لأنّه ما زال يحمل بعضا من خشونته وكثافته، ويكون أعقلها جميعا ما أشرف على الرّتبة الأولى من رُتب القوّة الرّوحيّة، إذ يكون قد لاح له مطلع من رقّتها ولطافتها، فانطبع به، إن كثيرا أو قليلا»(8).  
هكذا إذن، يكون مقصود طه عبد الرحمن في تبنّيه للتّصوُّر الفعالي للعقل، والتّوجيه القيمي له إقرار الحقائق التّالية:
1 - التّوجيه الروحي للفعّاليّة العقليّة، أو قوّة تأثير العمل في النّظر، وأنّ فعل التّجربة الرُّوحيّة أشدّ تأثيرا من التّجربة الحسيّة، وهذا الإقرار له قيمة توجيهيّة تعبّدية، ذلك أنّ العمل يخصّب الممارسة العقليّة ويفتح آفاق الإدراكات الجديدة، فـ  «المريد لابدّ له من الترقيّ... وأصلها كُلّها الطّاعة والإخلاص، ويتقدّمها الإيمان ويُصاحبها، وتنشأ عنها الصّفات والأحوال ثمرات، ثمّ تنشأ عنها أخرى وأخرى إلى مقام التّوحيد والعرفان... لأنّ حصول النّتائج من الأعمال ضروري وقصورها من الخلل فيها كذلك»(9).
2 - الصّلة التَّكَاملية بين الملكات الإنسانيّة وإنهاء التّعارض بينها، «بحيث ليس هناك قوّة حسّية خالصة ولا قوّة عقليّة خالصة ولا قوّة روحيّة خالصة، بل في القوّة الحسّية بعض من العقل كما في القوّة العقليّة بعض من الرُّوح، والعكس صحيح، ففي القوّة الرُّوحيّة من أثر العقل ما يضاهي ما في القوّة العقليّة من أثر الحسّ؛ وإذا جاز وجود هذا الاتصال بين مختلف القوى الإدراكيّة، جاز أن تكون التَّجربة الرُّوحيّة مكمّلة للنّظر العقلي، لا منقطعة عنه، ولا بالأولى مفسدة له كما زعم بعضهم عن باطل»(10).
 ولا يقتصر هذا المنظور التّكاملي على الملكات الإنسانيّة؛ إنّما يجوز خلعها فضلا عن هذه، على مصادر المعرفة لدى الإنسان، فالمعرفيّة الإسلاميّة يتكامل فيها الحسّ والعقل والوحي من أجل إنجاز وحدة الحقيقة، والمثال الذي نستجلي به هذه الحقيقة، نستخرجه من تاريخ الفلسفة نفسه، فسقراط مثلا كان همُّه عالم الإنسان وحده، وكان يرى بأنّ المعرفة الحقَّة تنطلق من النّظر في الإنسان نفسه، دون التأمُّل في عالم النَّبات والهوام والنُّجوم.
«وما أشد  هذا مخالفة لروح القرآن، الذي يرى في النّحل على ضآلة شأنه، محلاَّ للوحي الإلهي، والذي يدعو القارئ دائما إلى النَّظر في تصريف الرّياح المُتعاقب، وفي تعاقُب اللَّيل والنّهار والسُّحب، والسّماء والنّجوم، والكواكب السّابحة في فضاء لا يتناهى. وكان أفلاطون وفياّ لتعاليم أستاذه سقراط، فقدح في الإدراك الحسّي، لأنّ الحسّ في رأيه، يفيد الظنّ ولايفيد اليقين، وما أبعد هذا القول عن تعاليم القرآن الذي يعد(السّمع)و(البصر)أجلّ نعم اللّه على عباده، ويُصرّح بأنّ اللّه جلّ وعلا سوف يسألهما في الآخرة عمَّا فعلا في الحياة الدّنيا»(11).
3 - تعدُّد مراتب العقلانيّة وتفاضلها؛ فالفعل الإدراكي الحسّي وفق هذه النّظرة يكون في الرّتبة الأخيرة، ويترقّى في معراج الحقيقة من الكثافة والخشونة إلى الرُّتبة الأعلى من مراتب العقلانيّة، أي رتبة الرّقة واللّطافة والقوّة الرّوحيّة، وما إجراء القِسمة بين العقل المجرّد والعقل المُسدّد والعقل المؤيّد، سوى أمارة على ترسيخ مبدإ تفاضل الفعاليّات العقليّة، والمُتخلّق بأخلاق الدّين وحده «من يُحصّل رتبة العقلانيّة المسدّدة، ثمّ كيف أنّه يرتقي منها إلى رتبة العقلانيّة المؤيّدة متى اتقى الآفات التي قد تدخل على عمله، وكيف أنّ واجبه هو أن يعمل جاهدا من أجل الارتقاء إلى هذه الرّتبة الثّالثة التي تجعل له عقلا كاملا، يُدرك ما لا يدرك غيره، ويُصيب حيث لا يصيب»(12).
4 - تحرير الفكر العربي من التبعية لعقلانيّة الغير، التي ليست سوى تجلّ من تجليّات الممارسة العقليّة، وليست مبدأها أو مثالها الأسمى، وفي المقابل حفز الهمم نحو الاجتهاد في تطوير عقلانيّة من لدن هذا العقل العربي، وتجديد العطاء الفكري المنقطع، منذ اللّحظة التي جرى فيها ترسيخ نموذج العقلانيّة (الكوني).
جليّ إذن، استنكاف طه عبد الرحمن عن الأخذ بالتّصوُّر الجوهراني للممارسة العقليّة، والأخذ بالتّصوّر الفعّالي القلبي بمراتبه المتفاضلة، وهذا التّصوُّر الجَوهراني الذي ناهضه، هو الذي وجده من جديد ومرّة أخرى؛ مبثوثا في شُعب الإنتاجيّة الفِكريّة المُهيمنة على الواقع العربي الرّاهن، وهي على كثرتها، ليست واعية بحدود هذه العقلانيّة المجرّدة عن التّوجيه القيمي والمنفصلة عنه، هذا ما دفع بطه عبد الرحمن إلى التّصدي إلى هذا النّموذج العقلاني بخاصّة على النّحو الذي بدا في المدونة الفكريّة الخاصّة بمحمد أركون.
الهوامش
(1) أوردها، رضوان السيد، مسألة العقل وسلطته في النقاشات الإسلامية القديمة، مجلة التسامح، العدد 16، 2006، ص 11-12.
(2) ابن الجوزي، ذم الهوى، تحقيق خالد عبد اللّطيف السبع العلمي، بيروت، دار الكتاب العربي، ط1، 2004، ص 61-62.
(3) أرسطو، كتاب النّفس، ترجمة أحمد فؤاد الأهواني، القاهرة: دار إحياء الكتب العلمية،  ط1، 1949، ص 112. ويقول أرسطو في مقام آخر «ويظهر على كلّ حال، أنّ هناك قوّتين محرّكتين، النُّزوع والعقل، هاتان القوّتان، النّزوع والعقل، محرّكتان بحسب المكان، أعني العقل الذي يستدلُّ لبلوغ الغرض، وأعني العقل العملي، الذي يختلف عن العقل النّظري بالغاية، وكلّ نزوع فهو من أجل غاية، لأنّ موضوع النّزوع هو مبدأ العقل العملي، ونهاية التّفكير هي بداية العمل».
(4) طه عبد الرّحمن، العمل الدّيني وتجديد العقل، الدّار البيضاء، بيروت: المركز الثقافي العربي، ط2، 1997، ص 18.
(5) المرجع نفسه، الصّفحة نفسها.
(6) الإمام الماوردي، أدب الدّنيا والدين، الجزائر: الشركة الجزائرية اللّبنانية، ، ط1، 2006، ص 12.
(7) المرجع نفسه، ص 12.
(8) طه عبد الرحمن، حوارات من أجل المستقبل، بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنّشر، ، 2011، ص 140.
(9) ابن خلدون، المقدّمة، اعتناء ودراسة، أحمد الزعبي، بيروت: دار الأرقم بن أبي الأرقم،2001، ص 518.
(10) طه عبد الرحمن، حوارات من أجل المستقبل، مرجع سابق، ص 139.
(11) محمد إقبال، تجديد التفكير الديني في الإسلام، سوريا: النّاقد الثقافي، ط1، 2008، ص 31.
(12) طه عبد الرحمن، سؤال الأخلاق(مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية)، بيروت: المركز الثقافي العربي،الدار البيضاء،ط1،2000، 76.