همسة

بقلم
محمد المرنيسي‎
الإبداع في الصراع بين الاتهام والدفاع(*)
 في فترة الهيجان والغليان بين الأحزاب السّياسيّة وساكنة المدن والقرى على اختلاف أعراقهم وألوانهم ومستوياتهم العلميّة والاقتصاديّة؛ للفوز بمناصب المجالس التّشريعيّة في الحواضر والأرياف، كانت قوافل الشّباب تملأ الشّوارع والدّروب، بأقمصة مزيّنة بشعارات الأحزاب التي تمثّلها، وتوزّع لوائح المترشّحين المنتمين لها، مع بيان الأهداف التي ستعمل على تحقيقها إن منحت لها الثّقة في الدّائرة الانتخابية المعنيّة.
في هذه  الفترة حدث بإحدى المدن العربيّة، أن كسا شخص معروف بالمرح والدّعابة كلبه بقميص يحمل شعار أحد  الأحزاب المشاركة في الانتخابات، وصار يتجوّل به  في الحيّ الذي يسكنه، وصل الخبر بسرعة الى الحزب المعني ومترشّحيه،  فأسرعوا  بإخبار السّلطات المحلّية،  وصدر الأمر باعتقال الشّخص صاحب الكلب.
وفي جلسة المحكمة نُودي على  المتّهم، وقُرئ عليه المنسوب إليه من تهم التّحقير والإهانة للحزب والقانون والنّظام العام، فنفى ذلك. سأله القاضي  عن المحامي الذي سيقوم بالدّفاع عنه،  فقال أنّه لم يتّخذ أيّ محام؛  نظرا لفقره وعوزه، فأصدر القاضي أمرا بتعيين محام للدّفاع عنه في الجلسه القادمة.
تسلم المحامي أبو اللّيث التّعيين، واطلع على ملف القضيّة التي سيدافع عنها، وخرج غاضبا متشائما من تحقيق أيّة نتيجة مرضيّة. ركب سيّارته القديمة واتجه الى المقهى كعادته، وجد الجماعة تنتظره، فسلّم وجلس. وقف  النّادل أمامه وقال: «مرحبا أستاذي، قهوة سوداء كالعادة دون زيادة؟». فردّ عليه أبو اللّيث: «أرجوك أن تنساني زمنا، أنا أبحث عن مخرج للقضيّة الكلبيّة التي لم تكن في الحسبان، ولا خطرت لأساتذة القانون في الأذهان، وابتلي بها صاحبك من دون علم أو بيان، باللّه عليك ماذا تعرف عن الكلب؟ وكيف تدافع عن صاحبه؟ لم أجد نصوصا أو قضايا يمكن الاستئناس بها».
تركه النّادل وانعطف الى ممرّ آخر منكسرا يبحث عن الرّواد الجدد.
أخرج أبو اللّيث سيجارة وأخذ يمتصّها بنهم المغتاظ، وينفث أمامه؛ لعلّها تخفّف عنه التّوتر كما يأمل، ولكن..أحسّ بيد تربّت على كتفه وتنشد:
ليت الكلاب لنا كانت مجــــاورة *** وليتنا لا نـــرى ممّا نرى أحــدا
إنّ الكـلاب الهدأى في مرابضهـــا *** والنّاس ليس بهـاد شرّهم أبـــدا
فابدأ بنفسك واستانس بوحشتها *** إن السّعيد الذي قد عاش منفـردا (1)
صاح أبو اللّيث: «مرحبا بشيخ عكاظ، عنك أبحث لمساعدتي في القضيّة الكلبيّة، وما أدراك ما القضيّة؟ نادرة غريبة تطاردني منذ قرأتها. فهل عندك مخرج ياداهية، لمشكلتي المستعصية؟»
أجاب أديب الجماعة الذي لقّبوه بشيخ عكاظ باسما بعد سماع القصّة، وقال: «سأدلّك على مصدر قديم، يخفّف عنك الأثقال، ويفتح لك الأقفال والأغلال، وأنت يا أبا اللّيث - كما أعهدك - خبير في رصف الكلام، بارع في الجدل مع الأقزام والأعلام، حسن التّدبير، سريع التّأثير، في الجمع القليل والكثير، عليك بقراءة كتاب: «تفضيل الكلاب على كثير ممن لبس الثّياب» لابن المرزبان(2) وقد أورد المحقّق في مقدّمته نظرة تاريخيّة موجزة عن أصل الكلب، ومواقف بعض الشّعوب الشّرقيّة القديمة تجاهه، ومنها العرب في الجاهليّة، وأتى على ذكره في القرآن الكريم، وفي الحديث النّبوي الشّريف، وآراء الأئمّة والفقهاء، وكذلك العلوم الطبيّة وأمراض الكلب، ثمّ مواقف بعض المؤلّفين المسلمين في الدّفاع عن الكلب...
وقد اعتمد المحقّق على مصادر عربيّة وإسلاميّة مختلفة، منها بعض كتب الجاحظ، والدّميري، والقزويني، والقاضي التّنوخي، والميداني. وستجد في هذا الكتاب ما يغنيك لتدبيج مرافعة متميّزة، سيشهد لك القاصي والدّاني بقوّة الحجّة، في اتخاذ العدّة؛ لتجديد أسلوب  الدّفاع في البحث؛ لاكتشاف الحقّ ونصرته.
وفي الجلسة الثّانية للمحكمة تليت لائحة الاتهام الموجّهة لصاحب الكلب، وأهم ما ورد فيها: تعمّد السّخرية والاستهزاء والتّنقيص والاحتقار للحزب ومرشّحيه؛ بهدف تغيير مواقف المؤيّدين له، والتّصويت لأحزاب أخرى، بالإضافة الى الطّعن في مصداقيّة الانتخابات، والتّحريض على المقاطعة، وفي ذلك مساس بالنّظام العام.
وقد ركز محامي الادعاء على هذا التّوصيف، وعدّده ومدّده، وصال وجال ومال، وقال: «أطالب بتطبيق النّصوص التي أصدرها المشرّع في مرتكبي هذه المخالفات؛ للرّدع  والتّأديب من اجل احترام القانون».
أُعطيت الكلمة للدّفاع، فوقف أبو اللّيث متحمّسا؛ ليقدّم مرافعته في القضيّة المعروضة على أنظار المحكمة الموقّرة، وذكر أنّ موكّله كان يقصد من الفعل الذي يتابع من أجله هو المشاركة في الحملة الانتخابيّة بالتّأييد وتزكية المترشّحين عكس ما ذهب إليه الادّعاء، واعتماد مقولة «الكلب رمز للاحتقار والإهانة» غير مسلّم تاريخا وواقعا. فلو رجعنا للتّاريخ في الأمم السّابقة لوجدنا اختلافا واضحا بين الشّعوب في تقييم الكلب إيجابا وسلبا، ولكنّ المتّفق عليه عندهم أنّ له صفات ثابتة يتفوّق بها على بعض البشر، ومنها الوفاء والإخلاص والحماية.
وقد ورد ذكره في القرآن والسّنة، كما ورد ذكره كثيرا في التّراث العربي شعرا ونثرا، وهناك أقوال وأمثال وقصص يصعب احصاؤها في صفات الكلاب وخصائصها ومنافعها، حتّى أنّ بعضهم يدافع عن الكلب لبعض شيمه، وينفي عنه الإهانة والتّحقير. 
أورد ابن المرزبان مقطوعة شعريّة أنشدها بعض الأدباء من أحد عشر بيتا، وضع لها المحقّق عنوانا: «ما به سلبُ وما فيه سبّ» مطلعها:
تاه قلبــي وأين منــي قلــبُ  *** إن رد السرور ياقـــومُ صعبُ 
الى أن قال:
شيمة الكلـب حفظــه لــوليّ  *** وعن الحيّ في دجـى الليــل ذبّ
وما يزال يعدّد صفاته الحسنة الى أن ختم المقطوعة بقوله مخاطبا صديقه الذي يحاوره:
فلماذا بخستَه الحــظّ قــل لي *** ولما ذا شتْمُــه وما فيــه سبّ (3)
 
وفي قصّة الحارث بن صعصعة نجد أنّ الشّاعر يفضّل صداقة الكلب على صداقة النّاس، إذ يقول:
سأجعل كلبي ما حييت منادمـي
وأمنحـــه وُدي وصفْــوَ خليلي (4)
وقال صعصعة بن خالد في حادثة وقعت له:
الغدر شيمة كل نذْلٍ سفلــةٍ
والكلب يحفظ عهدَك الدهـرا
فدع اللئام وكن لكلبك حافظا
فلتأمنـنّ الغـــدر والمكْـــرا  (5)
ويروى أنّه كان لميمونة زوج النّبي ﷺ كلب يقال له مسمار، وكانت إذا حجّت خرجت به معها، فليس يطمع أحد بالقرب من رحلها مع مسمار(6) .
ولنعجب لما ختم به ابن المرزبان كتابه إذ يقول: «وليس في الحيوان أشدّ حبّا لربّه، ولا أحسن طاعة له منه، وليس شيء آثر عنده ممّن ينظر إليه صاحبه بوجه طلق». (7) 
ولا ننسى أنّ الفقه الإسلامي خصّص للكلب أحكاما شرعيّة نقف عند بعضها. يقول ابن عاصم صاحب تحفة الحكّام: «واتفقوا أن كلاب الماشية *** يجوز بيعها ككلب البادية» 
 مما يعني أنّ له قيمة.
وأخيرا هناك الحمار الذي اتخذ شعارا للحزب الديموقراطي المشهور بالولايات المتحدة الأمريكية، والكلب في بعض صفاته أرفع مقاما ومنزلة من الحمار الذي يوصف في المنظور الشّعبي بالبلادة والتّهور عند اتخاذ القرار.
إنّ موكّلي باتخاذه هذا الشّعار في الدّعاية الانتخابيّة يكون مبدعا في تبليغ رسالة الحزب للجمهور بدلا من المنشورات التي لا تقرأ، فهو إذن يستحقّ التّنويه والإشادة، لا التّنديد والإدانة.
على إثر هذه المرافعة رفعت الجلسة للمداولة، ثمّ صدر الحكم ببراءة المتّهم.
خرج المحامي منتشيا، واتجه مباشرة الى المقهى، واحتضن شيخ عكاظ، وقبل رأسه، ثمّ جلس يحكي لأصحابه القصّة كما عاشها منذ أن كُلّف بالدّفاع عن صاحبها. وربّ ضارّة نافعة.
الهوامش
(*) قصة واقعية مع بعض التصرف صيغت بأسلوب قصصي
(1) تفضيل الكلاب عل كثير ممن لبس الثياب.ص: 82 
(2) ابن المرزبان، أبو بكر بن محمد بن خلف.ت 390 هجرية.  قدّم الكتاب ودرّسه وحقّقه الدكتور عصام محمد شبارو . دار التضامن للطباعة والنّشر والتوزيع 1992بيروت – لبنان.
(3) نفس المصدر .ص: 110 
(4) نفس المصدر .ص: 115 
(5) نفس المصدر .ص: 116 
(6) نفس المصدر .ص: 118 
(7) نفس المصدر .ص: 121