أهل الاختصاص

بقلم
أ.د.فوزي أحمد عبد السلام
المسافة صفر
 فرض الوقت
تفرض الأحداث الدّائرة في غزّة نفسها وبقوّة على القلب وعلى العقل، فليست هنالك برهة أو أقلّ لإضاعتها في عمل غير جاد. ولتقدّر الضّرورات بقدرها، فالحرب ليست على الأبواب بل هي مستعرة في عمق أعماق الدّار. ليس هناك فائض أو زائد من كسر درهم أو دينار عن الحاجة حتّى ينفق على التوافه، فأكثر من 10 مليار دولار تنفق على سوق التّجميل في الوطن العربي الذي لا يجد فيه شعب غزّة الأبي الماء ليشرب أو حتّى الهواء ليتنفّس، أفيقوا يرحمكم اللّه حتّى لا نكون ضمن من لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ في حديث أَبِي أُمَامَةَ رضي اللّه عنه الذي جاء فيه، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ لَعَدُوِّهِمْ قَاهِرِينَ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ إِلَّا مَا أَصَابَهُمْ مِنْ لَأْوَاءَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ». قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَأَيْنَ هُمْ؟ قَالَ: «بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَأَكْنَافِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ». وإن كان في إسناده مقال، إلاّ أنّ له شاهد من حديث مُرَّة بن كعب البهزي، رضي اللّه عنه، أنّه سمع النّبي ﷺ يقول: «لَا تَزَالُ طائِفةٌ مِن أُمَّتي عَلَى الحَقِّ ظاهِرِين على مَن نَاوَأَهُمْ، وَهُمْ كالإِنَاءِ بينَ الأَكَلَةِ حتَّى يَأْتِي أَمْرُ اللّهِ وهُمْ كَذَلِكَ». قلنا: يا رسول اللّه، وأين هم؟ قال:«بأَكْنَافِ بيتِ المَقْدِسِ».
مجزرة القرن
 كبر أطفال الحجارة والمسافة التي تفصلهم عن عزّ الجهاد صفر، كبروا وترعرعوا والمسافة التي تفصلهم أيضا عن الذّلة والاستعباد أبعد ما تكون، كبروا وهم يتلون القرآن ويقرؤون الحديث النّبوي الشّريف، وأخذوا بأسباب الدّنيا فبدؤوا بما قبل الحجارة، بدؤوا بتربية القلوب على حبّ الاستشهاد. يقرؤون تميم: «إذ اعْتَبَرْنَا المَوْتَ ضَيْفَاً زَارَنا، قُمْنَا وَقَدَّمْنَا لَهُ أَعْمَارَنا، وَمَا اسْتَشَرْنَاهُ وَلا اسْتَشَارَنا، نَخْتَارهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَخْتَارَنا». وعرفوا أنّ العدوّ مهما تدرّع بمدرعاته وتترّس بها فهو جبان، فبَعْضُ وَظَائِفِ الدُّرُوعِ مُخْزِيَة. يدمّر جيش الاحتلال من الجوّ ما فوق الأرض، لكنّ يهود الخزر هؤلاء لا يعلمون أنّ  فلسطين والفلسطينيين متجذّرون في المكان والزمان، في التّاريخ والجغرافيا، وستنبت بيوتهم وحضارتهم مرّة أخرى كما تنبت النّبتة في حميل السّيل.
يهود  الخزر 
بدأت قصّة يهود الخزر، بين بحر قزوين والبحر الأسود، وهي إمبراطوريّة تتاريّة أو تركيّة ولا يهمّ الخلاف في ذلك،  أصبحت يهوديّة تقريبا بين العامين 740 و865 م، خرج سكّانها جميعًا باتجاه الشّمال والغرب وذهبوا إلى روسيا وأوروبا الغربيّة وأوروبا الشّرقيّة وانتشروا هناك، وهؤلاء هم أصل اليهود الأشكناز، أي أنّهم ليسوا ساميّين ولا علاقة لهم بالسّامية أصلا، وحيثما حلّوا ببلد كانوا يمثّلون مشكلة كبرى لذلك البلد. بل إنّ «هتلر» زعيم النازيّة لم يقتلهم لكونهم يهودا، لكن لأنّهم عملوا كمرابين للمال ممّا أضرّ كثيرا بالاقتصاد الألماني. وقد تطابقت أمثال الأمم قديما وحديثا على ذلك؛ فالآشوريّون يقولون: «للشّيطانِ عدّة وجوه، أحدها وجه يهودي»، والرّومان يقولون: «إذا باض الدّيك، سيصبِح اليهودي إنسانا»، واليونانيّون يقولون: «إذا تحدّث اليهودي عن السّلام، فاعلم أنّ الحرب قادمة»، والفرنسيّونَ يقولون في التّشبيه: «إنّه وَسخ مثل اليهودي»، وأشهر الأدباء الفرنسيّين «فيكتور هوجو» يقول: «اليهود مرّوا من هنا، يعني: كلّ شيء خراب»، والبلغار يقولون: «حيثما وطئت قدم اليهودي، لن تنبت الحشائش»، والصّرب يَقولون: « يَبني النّاس، وَيخرِّب اليهود»، والأرمن يقولون: «اليهودي إذا لم يجد من يقتله، فإنّه يقتل أباه»، والأوكران يَقولون: «الدّجاجة ليست من الطّيور التي تطير، واليهود ليسوا من البشر»، والرّوس يقولون: «الضّيف الذي يأتي من دون دعوة حتما يهودي». ويهود  الخزر هؤلاء هم الأشكناز الذين قاد أسلافهم الحملة الصّهيونيّة لإنشاء الدّولة اليهوديّة وهم لا ينحدرون من القبائل العبريّة القديمة، فليسوا من أهل المكان جغرافيّا أو تاريخيّا، وقد أثبت ذلك جمال حمدان في كتابه اليهود أنثروبولوجيّا(1)، بالأدلّة العمليّة أنّ اليهود المعاصرين الذين يدعون أنّهم ينتمون إلى فلسطين ليسوا هم أحفاد اليهود الذين خرجوا من فلسطين قبل الميلاد، وكما يقول آرثر كويستلر في كتابه «القبيلة الثّالثة عشرة»(2) ، وشلومو ساند  في كتابه «اختراع الشّعب اليهودي»(3) إنّ أصول الأشكناز تركيّة وليست يهوديّة، وفي ذلك اعتراف من قبل باحثين يهود.
مدينة في الجذور
بعد أن ضيّق المغتصب بتأييد من صهاينة العالم الأرض على أهلها، أقام أهل الأرض مدينتهم في جذور أرض حضارتهم. وعندما يسقط الصّهيوني في الصّراع يتعفّن في مكانه وتلفظه الأرض المقدّسة، فالمسافة بين رفاته وبين تلك الأرض لا نهائيّة، بل وتذروه رياحها إلى أرضه فيهب أهله الحقيقيّون «الغرب» لنجدته، بينما حين يستشهد الفلسطيني تسقط كلّ ذرّة من جسده وتسقى بكلّ قطرة من دمه بماء السّماء، فتنبت شعبا بأكمله على الأرض المباركة، هذه فلسفة المسافة صفر، فليست هناك مسافة تفصل الفلسطيني عن أرضه، وكما يقال لكلّ شعب وطن يسكنه، إلّا الفلسطينيّين فلهم وطن يسكنهم. 
المسافة صفر مع الميركافا وما أدراك ما الميركافا
الحرب بالأسلحة الحديثة الفتّاكة المزوّدة بأحدث طرق المستشعرات في كشف الأجسام الغريبة والتّعامل معها أوتوماتيكيّا، حيث تتكامل كلّ العلوم تقريبا وعلى رأسها الفيزياء والرّياضيات ليس سهلا بالمرّة. لكنّ الفيزياء والرّياضيات هذه المرّة ويكأنهم علموا أنّ الجسم الغريب المفروض كشفه لصاحب الأرض هو الصّهيوني المغتصب للأرض، وكأنّه رؤية البشارة بأنّ الشّجر والحجر سيقاتلان ويخبران عن العدو «ورائي يهودي، تعال فاقتله». 
هذه  الأسلحة الحديثة الفتّاكة تعلم المحارب الجبن أكثر ممّا تعلّمه الشّجاعة، وتعلم المقاوم التّعامل معها بحرفيّة عالية. استراتيجيّة «المسافة صفر» تعتبر أحد طرق الحروب أو الاشتباكات داخل المدن، حيث يلتحم المقاتل مع جنود العدوّ وآلياته بحيث لا تفصل بينه وبينها أيّة مسافة، وهو تكتيك لمواجهة سياسة «الأرض المحروقة».. هذه الاستراتيجيّة يتمّ اللّجوء إليها عندما يحدث تداخل بين طرفي الحرب، فيكونان داخل بناية واحدة أو مربّع واحد أو يبعد أحدهما عن الآخر عدّة أمتار. لكن حين تعلم أنّ استراتيجيّة «المسافة صفر»  تمّ اعتمادها من طرف مقاتلي القسام في مواجهة دبابة «الميركافا» الإسرائيليّة،ويكون النجاح حليفهم، فإنّك ستقف لهم إجلالا وإكبارا لشجاعتهم واحترافيتهم في القتال. فدبابة «الميركافا» تعد من أفضل الدّبابات في العالم، خاصّة أنّ الصهاينة يقومون بتطويرها بشكل مستمر. وتمتلك «ميركافا 4» مدفعا رئيسيّا من عيار 120 ملم ومدفعا رشاشا من عيار 12.7 ملم، ودرعا فولاذيّا أقوى من النّسخ السّابقة، ونظام إدارة نيران رقميّا متطوّرا، ومن المفترض أن تكون «ميركافا 4» رأس الحربة لأيّ قوات متقدّمة في المعارك البريّة. وهي تصنّف ضمن الدّبابات الثّقيلة، التي يصل وزنها مع الطّاقم والعتاد إلى 66 طنّا، وتصل سرعتها إلى 46 كيلومترا في السّاعة ومداها 400 كيلومتر، ويصل طولها إلى 8.6 متر وعرضها 3.7 متر وارتفاعها 2.7 متر تقريبا. 
كما تمّ بإيمان المجاهدين وعلم العاملين المحاصرين من القريب والغريب تطوير قذيفة محلّية الصّنع أطلق عليها تسمية «الياسين 105» ليتمّ استخدامها لحصد الميركافا، وقد حدث هذا بالفعل منذ بداية الهجوم البرّي للجيش الصّهيوني وشاهده الجميع.
ليس بالإيمان وحده يجاهدون
الإيمان باللّه وبصدق القضيّة سلاح فتّاك امتلكته المقاومة منذ تأسيسها، وهو السّبب الرّئيس لاستمرارها وصمود مقاتليها طيلة عقود، لكن ورغم الحصار المفروض على قطاع غزّة منذ سنين عديدة، ورغم أنّها الطّرف الأضعف بالحسابات المادّية، طوّرت المقاومة من ترسانتها العسكرية حيث أصبحت تمتلك أسلحة تكفي لمواجهة المحتل. ولقد جرّبت المقاومة بالفعل مجموعة متنوّعة من التّكتيكات حيث أسقطت دفاعات الإحتلال في زمن سابق طائرة بدون طيار، ربّما كانت مسلّحة، حاولت عبور الأجواء إلى الأرض المحتلّة من غزّة. كما أنّ لدى المقاومة مخزوناً كبيراً من قذائف الهاون والصّواريخ قصيرة المدى مثل القسام (يبلغ مداه 10 كيلومترات) والقدس 101 (يبلغ مداه حوالي 16 كيلومترا)، ولديها نظام صاروخ غراد (ويصل مداه إلى 55 كيلومترا)، وصاروخ سجّيل 55 (ويصل مداه إلى 55 كيلومترا). ومن المحتمل أن تكون هذه الأنواع تمثّل الجزء الأكبر من مخزون حركة حماس. كما أنّه بحوزة كتائب الشّهيد عزالدين القسام الجناح العسكري لحركة حماس مجموعة متنوّعة من الأنظمة الصّاروخيّة طويلة المدى مثل إم - 75 (يصل مداه إلى 75 كيلومترا)، والفجر (يصل مداه إلى 100 كيلومتر)، و160 - آر (ويصل مداه إلى 120 كيلومترا)، وبعض صواريخ إم -302 إس التي يبلغ مداها 200 كيلومتر، لذلك من الواضح أنّ حماس تمتلك من الأسلحة ما يمكّنها من استهداف القدس وتل أبيب على حدّ سواء، وتهديد الشّريط السّاحلي الذي يضمّ أكبر كثافة سكانيّة في الأرض المحتلة.
الهوامش
(1) جمال حمدان، اليهود أنثروبولوجيا، دار الكاتب العربي للطباعة والنشر، (1967).
(2) آرثر كويستلر، القبيلة الثالثة عشر و يهود اليوم، ترجمة أحمد نجيب هاشم، الهيئة المصرية العامة للكتاب، (1991).
(3) شلومو ساند، اختراع الشعب اليهودي، الأهلية للنشر والتوزيع، (2008).