بحثا عن المشترك

بقلم
أ.د.احميده النيفر
حقوق الإنسان والطريق العربي المتعرج
 أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة منذ أربعة وثمانين عاما الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لكن مع تحفّظ أقليّة ثمانية أعضاء اختارت الإمساك عن التّصويت تجاه البيان. حصل هذا رغم أنّ الإعلان غير مُلزم ورغم أنّ الدّافع المُعلَن للبيان هو تلافي انتهاكات مريعة جديدة لكرامة الإنسان وحياته في السّلم والحرب كتلك التي عرفتها عموم بلاد العالَم في القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين وآخرها الذي يحدث أمام أنظار العالم في قطاع غزّة. 
اللاّفت للنّظر أنّه لم يكن يجمع بين المتحفّظين الثّمانية في المنظمة الأمميّة تعليل واحد يفسّر إمساكهم عن التّصويت. لم يتوفّر بين العضو العربي المسلم الوحيد، ممثّل المملكة العربيّة السّعوديّة، أيّ اتفاق مع دول المعسكر الاشتراكي السّت بقيادة الاتحاد السّوفييتي حول أسباب  التّحفّظ فضلا عن أن يلتقي الطّرفان، العربي والاشتراكي، مع العضو الثّامن المتحفّظ، ممثّل اتحاد جنوب إفريقيا، في الاعتبارات العنصريّة التي حَدَتْ به آنئذ إلى عدم المصادقة على الإعلان. لقد تباينت اعتبارات كلّ طرف من الأطراف الثّلاثة التي التقت عمليّا في إمساكها الرّافض للإعلان العالمي.  
حين نُمعن النّظر اليوم في ما آل إليه الأمر بالمتحفّظين الثّمانية بعد ثمانية عقود ونيف ندرك أنّ حركة التّاريخ كانت فاعلة بالنّسبة إلى الجميع لكن في مَناحٍ مختلفة. سقط نظام الميز العنصري في جنوب إفريقيا ليخلفه نظام وطني ديمقراطي انتقل فيه الحكم من الأقليّة البيضاء إلى الأغلبيّة السّوداء التي تجنّبت صراعا دمويّا أهليّا كان متوقّعا بين شعب «الزّولو» وأنصار حزب «المؤتمر الوطني». من ثمّ أمكن للدّولة النّاشئة تصدّر مجموعة دول إفريقيا الجنوبية والقيام بمهام التّحكيم في بعض النّزاعات الإقليمية. 
أمّا الطّرف الثّاني المتحفّظ فقد عرف انهيار نموذج الحكم السّوفييتي واختفاء المعسكر الاشتراكي ليحلّ محلّه نظام فيدرالي ديمقراطي متقبّل للمشروع اللّيبرالي الإصلاحي. لكنّ السّعي إلى فعاليّة اقتصادية معتمدة على اقتصاد السّوق لم يحل بين النّظام الرّوسي الجديد وبين قيم «الأمّة» و«التّاريخ» والمصالح الجيوسياسيّة ممّا دعّم نظريّة «الدّيمقراطيّة السّياديّة» التي تعتبر أنّ روسيا تبقى من «الشّعوب ذات رسالة في العالم».
بالنّسبة إلى الطّرف الثّالث، فإنّ العالم العربي الإسلامي لم يعرف تحوّلات جذرية لكن المؤكّد أنّ تحفُّظه القديم من موضوع حقوق الإنسان أخذ في التّراجع في المستوى المبدئي مع بقاء تحفّظات متنوّعة في مصدرها ودرجة موضوعيّتها. 
إنّها المسيرة على طريق متعرّج التي يعزوها العديد من الباحثين والمثقّفين العرب إلى أزمة مركّبة الأبعاد أدّت إلى حداثة عربيّة هشّة لم تتمكّن طوال العقود الثمانية من وضع إستراتيجيّة حضاريّة تركّز بها سبل النّهوض لتجاوز التّخلّف السّياسي والاقتصادي والثّقافي. 
لعلّ أفضل مثال يبيّن طبيعة هذه المسيرة العربيّة المتعرّجة منذ 1948 إلى الآن تكشفه البيانات العربيّة والإسلاميّة التي تبنّت مقولة حقوق الإنسان مع نعتها بالإسلاميّة أو ربطها بالشّريعة. من ذلك بيان المجلس الأعلى للشّؤون الإسلاميّة سنة 1981 وإعلان القاهرة لحقوق الإنسان في الإسلام سنة 1990، ثمّ إعلان الكويت في نفس الغرض. ضمن هذا السّياق لم يتردّد بعض الباحثين في اعتبار أنّ خطبة الرّسول ﷺ في حجّة الوداع كانت إعلانا لحقوق الإنسان رفعه الإسلام للإنسانيّة وتناول فيه حرمة الدّماء والأموال وتكريم النّساء وأنّ التّفاضل بين النّاس لا يعود إلى الجنس أو اللّون إنّما إلى ما يقدّمونه من عمل صالح.
تكشف هذه المواقف والبيانات المختلفة المصدر مدى الحرج الذي تجده عموم النّخب المثقّفة والحاكمة إزاء خطاب حقوق الإنسان منذ 1948 إلى اليوم. كيف لا والنّصوص الإسلاميّة المؤسِّسَة من قرآن وسنّة تجمع في تلازم مكين بين قاعدة التّوحيد وقيمة المساواة بما يجعل إحدى دلالات التّوحيد الكبرى هي رفض كلّ أصناف الطّغيان البشري وما يتولّد عنه من استهتار بالكرامة الإنسانيّة. 
كيف يمكن الإعراض عن مقولة حقوق الإنسان بينما النّصوص المرجعيّة القطعيّة الدّلالة أسّست لحقوق الذّات البشريّة وحقّ المجتمع في حياة كريمة خالية من أنواع المظالم والتّجاوزات المدمّرة لإنسانيّة الإنسان؟ 
ما يزيد في حرج الطّرف العربي الإسلامي أنّ المواثيق الحديثة لحقوق الإنسان هي ذات نزوع عالمي أي أنّها تتحدّى بذلك ذاتَ النّزوع الكوني لرسالة الإسلام التي خرج بها على النّاس.
ما يقدح فيما يصدر عن الجهات الرّسميّة العربيّة والإسلاميّة أو منظّمات كـ «المؤتمر الإسلامي» و«المجلس الإسلامي الأوروبي» و«مجمع البحوث الإسلاميّة»التّابع للأزهر ليست مصادقتها الجزئيّة أو المشروطة على المعاهدات الأمميّة والاتفاقات الخاصّة بالحقوق المدنيّة والسّياسيّة أو المتعلّقة بالحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثّقافيّة. 
ذلك أنّه لا يمكن رفض تلك التّحفّظات لأنّها ضروريّة عند مواجهة الخصوصيّات العربيّة الإسلاميّة لخطاب حقوق الإنسان في طرحه كمشروع للبشريّة قاطبة. ما يجعل بعض تلك التّحفّظات مقبولة هو أنّ ذلك المشروع رغم نزوعه الكوني يظل معبّرا عن خصوصيّة الحضارة الغربيّة متمثّلة لمفهوم ليبرالي لحقوق الإنسان.
لكن ما يقع تأكيده من جهة المتحفّظين العرب من أنّ الإسلام غير متناقض مع إعلان حقوق الإنسان وأنّ في الشّريعة الإسلاميّة قواعدَ أساسيّة تفضُل بها كلَّ المواثيق والاتفاقيّات الخاصّة بهذا المجال، مثل هذا الموقف فيه قصور فادح لأنّه يعبّر عن تمشٍ توفيقيّ تمجيديّ لا يمكن أن يودّي إلى فاعليّة في الواقع الخاصّ فضلا عن التّأثير الإيجابي في العالَم.
المعضلة في الجانب العربي فكريّة منهجيّة لا تتأتى معالجتها إلاّ بوعي للتّحولات العميقة التي لحقت ببنية المجتمع العالمي والتي بدأت في الغرب منذ قرنين وانتهت بظاهرة العولمة بأبعادها الاقتصاديّة والسياسيّة والثّقافيّة. من ذلك الحراك الذّاتي، الفكري-الاجتماعي، الممتد صيغت مبادئ حقوق الإنسان في الغرب واكتسبت قدرَتها على تخطّي الصّعاب لأنّها كانت نتيجة تفاعل بين الفكر والواقع المعيش. من ذات التجذّر في الواقع الفكري الاجتماعي استطاعت تلك الحركيّة الذّاتية والخصوصيّة الحضاريّة للغرب أن تجعل لنفسها أفقا إنسانيّا. أمّا نحن فمعضلتنا في حداثتنا الهشّة أي في الفكر التّوفيقي التّمجيدي الذي يحسب أنّه  سيكتسب فاعليّة بحراك لم يصنعه في الواقع الجديد.
بناء منهج فكري تجديدي كفيل بإنهاء المسيرة المتعرّجة المحدودة النّجاعة والعاجزة عن ردم الهوّة بين رسالة الإسلام وطموحه وبين واقع العرب والمسلمين الفعلي. هو أمر ضروري خاصّة إذا أدركنا أنّ الفكر اللّيبيرالي الذي أفرز إعلان حقوق الإنسان ذو توجه «فرداني» وأنّ مخاطره الاجتماعيّة والسّياسيّة والنّفسيّة في تفاقم جليّ وكاشف، غيرُ خافٍ تدميره عن أحد خاصّة في هذه الأيام الفاجعة.
مثل هذا الإقرار لا يقلِّل بحال من أهمّية الجهود التي تقوم بها منظّمات حقوق الإنسان في العالم. لكنّه يمثّل مسوِّغا لمعالجة حقوق الإنسان من منطلق مختلف يقدّم الإجابة عن السّؤال: ما هي القيمة المضافة لجهد تنظيري لحقوق الإنسان قائمٍ على مرجعيّات أخرى من بينها المرجعيّة الدّينيّة؟