تمتمات

بقلم
رفيق الشاهد
بورصة العيش في سوق الحياة (الجزء الثاني : ما أحوج الغني للفقير ليسعدا)
 أثبت العلماء أنّ للمادة نقيضها سمّيت مادّة مضادة وأنّ الخلط بينهما يؤدّي إلى فناء كلّ منهما ويتحوّلان في الحال إلى طاقة. لم أنشغل لا بالجزيّئات المكوّنة للمادّة المضادّة ولا بنشأتها وعدم تماثلها مع جزيئات المادّة على الأرض، ولم أذهب أبعد من هذه المعلومة لعدم الاختصاص، ولكنّني توقّفت عند نظريّة اينشتاين التي تعتبر أنّ الكتلة والطّاقة صورتان لشيء واحد حيث يمكن تحويل المادّة إلى طاقة، كما يمكن تحويل الطّاقة إلى مادّة. توقّفت عند ما لمسته من تشابه بين نظريّة فناء المادّة والمادّة المضادّة وفرضيّة ازدواجيّة التّقاطع والتّناقض التي أصبحت من أسس العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة ترتكز عليها تناقضات الشّخصيّة الازدواجيّة بين علمي النّفس والاجتماع وازدواجيّة التّقاطع والتّناقض في إدارة الصّراعات وكذلك التّناقضات السّياسيّة عند الأحزاب وتضاربها في الوقت نفسه وفي المجتمع ذاته.
 وتمتد فرضيّة ازدواجيّة التّقاطع والتّناقض إلى أسس الدّيمقراطيّة التي تعتمد على قبول الازدواجيّة الفكريّة بما تحمل من التّناقضات الفجّة ومن تنافر ممّا يدفع بالقول أنّ الفكر والمشاعر التي تتخبط بين التّناقضات العاطفيّة، ما هي إلاّ شعلات طاقة تنتج عن تفاعلات جزيئات الفكر والفكر المضادّ وجزيئات الشّعور والشّعور المضادّ، فتنطلق لتلهب العقول التي تدفع بالأجساد للتّحرّك إراديّا وتلقائيّا فتغيّر الأشياء وتعيد تشكيلها، وتصنع صورة أشمل للكون، وتبني فضاءات أخرى أرحب تتّسع للفكر المتفتق والواسع الانتشار. 
الفكر والمشاعر شعلات طاقة سمّيت «فنون وإبداعات» وهي تحوّل الشّعلة إلى كتلة وتحوّل الكتلة إلى شعلة طبقا لنظريّة اينشتاين. وإذا كان الكون في توسّعه الدّائم منذ الانفجار العظيم، فإنّ العقل في انفجار دائم ممّا يرفع من نسق اتساع فضاءات الفكر. 
فاز من لم يهتم بخير غير متوقّع ولم يأت أي بشر مرتقب لم يحدث. وإذا كان الخير ما يصل الفرد من عطاء أي ما أنعش قيمة الوحدة الزّمنيّة في رصيده اليومي، فالخير المضاد لا يدرك إلاّ بأثره الذي لا يحدّد إلّا بغياب أثر الخير الذي لم يحدث. وبذلك فالشرّ لا يكون مضادّا للخير ولا يبطله إذ يصل الفردَ أثرُهما معا مجتمعين أو منفصلين ولا يمحو أحدُهما الأخر. 
هكذا، كلّما واجهت شأنا من شؤون العيش لم يصبني منه خير ولا شر أكون أمام أمرين لا ثالث لهما، إمّا أنّي كنت في حضرة ملاك لم يرني ولم يصلني شيء من خيره أو أن أكون في حضرة شيطان حاد عني فكُفيتُ شره. وفي كلتا الحالتين قد أجدني في حيرة بين الفرح بتفادي أثر الشرّ الذي أسقط بمواجهة الشرّ للشرّ المضادّ وبين الخيبة من ضياع الخير الذي بطل فعله بحضور الخير المضاد. وعلى لسان أبي نواس القائل:
 «خير هذا بشر ذا   ،  فإذا اللّه قد عفا
فلقد فاز من محا   ، ذا عنه واكتفى»
فقد فاز فعلا من شكر اللّه على خير وإن لم يحصل وعن شرّ لم يصبه. والشّر ليس مضادّ للخير ولا الخير مضادّ للشرّ ولكن لكليهما مضادّ خاص به. فلا مضادّ لمادة الخير إلاّ «الخير المضادّ» وكذلك لا مضادّ لمادة الشرّ إلاّ «الشرّ المضادّ». ولكن لو حققّنا ودققّنا لتبين لنا أنّ السّعادة المتأتية من العطاء الذي ندركه جيّدا بالأخذ والمتمثّل في زوال الحاجة لا تفوق السّعادة الحاصلة من أثر العطاء المضادّ المقدم والمتمثّل في زوال الحاجة في العطاء. فما أحوج الغني للفقير ليسعدا وما أحوج العالم للجاهل ليثبت ذاته. وفي كلاّ الحالتين، فالسّعادة حاصلة بإنماء قيمة الوحدة الزّمنيّة في الرّصيد اليومي المعيش. 
إنّنا مازلنا لا نعير أهمّية لانتقال المادّة المضادّة ولا لأثرها فينا ويعود ذلك ربّما لندرتها في الكون الذي مازال في حالة تفتق أي بغلبة المادّة على المادّة المضادّة وكذلك الأمر بالنّسبة للنّفس البشريّة التي لم يكتمل عقلها طالما هو أيضا فكر وشعور مازال يتفتّق. 
لمّا ندرك انتقال المادّة من الفيض إلى الشّحة ومن المنبع إلى المحارة مثل انتقال الحرارة من الجسم السّاخن إلى الجسم البارد وبنسق مرتفع بقدر الفارق. فإنّنا لا ندرك من أعطى ومن تلقّى ولمن الفضل بين هذا وذاك. إن انتقال المادّة من الفيض إلى الشّحة يتزامن مع انتقال المادّة المضادّة من فيضها إلى شحّتها أيضا فيكون المرسل في نفس الوقت متلقٍّ والعكس بمثله. ونسجل في الحالتين المتزامنتين سعادة متلقّي الحرارة بإحساسه بالدّفء وزوال الحاجة إليه، وسعادة من أعطى لزوال الحاجة لإثبات فيض ما أعطى.  ويمكن بناء نفس الصّورة معاكسة لانتقال البرودة في الاتجاه المعاكس.
ما أحوج الغني للفقير ليسعدا، وما أحوج الحكيم للجاهل ليرتقيا، وما أحوج الأنسان للإنسان فقط لإثبات ذاته «La raison d’être».