الدولة في الحديث النبوي

بقلم
الهادي بريك
الحلقة السادسة - دولة الإسلام دولة ديمقراطية
  أمران ممّا تعلّمت : أوّلهما أنّ  الإسلام ـ خارج الإطار التّوقيفيّ : عقديا وتعبّديا ـ لا يحفل أيّ حفل بالأسماء والألقاب والعناوين. ومن ذلك أنّه لم يتعبّدنا بإسم هذا الكيان السّياسيّ الذي نحن ملزمون ـ تكافلا بالضّرورة ـ بإنشائه، أي الدّولة. لم يسمّه أصلا، هل يكون دولة أو خلافة أو ملكا أو إمارة. حتّى لو إستعملت مثل تلك العبارات فإنّها غير ملزمة من حيث أسمائها. كان ذلك منه لجعلنا محصورين كلّ الحصر فيما هو أهمّ وأبقى، أي مضمون ذلك الكيان ورسالته. كان هنا متشدّدا كلّ التّشدّد. لم؟ لأنّ أمر الرّسالة ومنهاج تحقيق الرّسالة أمر وحي وتعليم إلهيّ، ولذلك خصّص لهما آيتين متتاليتين في سورة النّساء، آية الرّسالة:﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا﴾(النساء:58) . وآية منهاج تحقيق الرّسالة وهي قوله سبحانه:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ﴾(النساء:59).  
الأمر الثّاني هو أنّ العبرة في الإسلام ـ خارج الإطار التّوقيفيّ إعتقادا وعبادة بمعناها الخاصّ ـ بالمقاصد والمعاني وليس بالأشكال والمباني. وهي أوّل قاعدة أصوليّة فقهيّة جعلها كلّ العلماء والفقهاء غابرا وحاضرا ـ ودون أيّ إستثناء منهم ـ على رأس زهاء مائة قاعدة بل أزيد من ذلك بحسب آخر من كتب في ذلك سفرا عظيما هو (الدّكتور مصطفى الزّرقاء). ذلك يعني أنّ رسالة الدّولة معان ومقاصد وحكم عليا كبرى وعظمى لا أمل لها في إكتساب الصّفة الإسلاميّة إلاّ بها. 
دعنا نكن واقعيين. هل تكتسب اليوم أيّ دولة لا تنفكّ تظهر صفتها الإسلاميّة بمجرّد ذلك؟ هل تكتسب تلك الدّولة ذلك بقولها أنّها تطبّق الشّريعة وهي ذات نظام وراثيّ؟ أو أن تكون علاقتها في قيم الولاء والبراء مع العدوّ المحتلّ ـ وليس حتّى مع غيره فحسب ـ علاقة مريبة، ولا نقول علاقة طيّبة. أليست العلاقة مع العدوّ المحتلّ لأرض قدّسها اللّه سبحانه بنفسه ما ينبغي إلاّ أن تكون علاقة متوتّرة على الأقلّ، إن لم نقل يجب أن تكون علاقة حرب حتّى التّحرير؟ ما الذي دهانا حتّى نهيل التّراب على كلّ هذا الكمّ الهائل من محكّمات ديننا وقواطع شريعتنا؟ هل يمكن أن تكتسب دولة اليوم الصّفة الإسلاميّة بمجرّد أنّها تحتوي على مجلس شورى معيّن ـ وليس منتخب من النّاس بأيّ حال ـ وهو مجلس تابع للأمير الأعلى يأتمر بأمره وينتهي بنهيه؟ 
إذا كان ﷺ قد ألزم نفسه بنتيجة الشّورى في ما لا وحي فيه (أحد ـ الخندق ـ بدر ـ وأمثلة أخرى لا تكاد تحصى) فكيف يكتسب نظام عربيّ الصّفة الإسلاميّة وهو يضع مجلسا للشّورى معيّنا وليس نابعا من إرادة النّاس ورأي ذلك المجلس الوضيع البئيس هو رأي غير ملزم للأمير الأعلى؟ نظام يقيم علاقة ودّية مع العدوّ المحتلّ ثمّ نسبغ عليه الصّفة الإسلاميّة؟ ليست الحرب مطلوبة، ولا حتّى المقاومة بدعوى إنخرام التّوازنات. ولكن هل أنّ المطلوب بديلا عن ذلك إقامة علاقات طيّبة ودّية وزيارات ومجاملات وتبادلات إقتصادية. ومع ذلك نكون أغبياء أو مسرفين حتّى نخلع عليه الصّفة الإسلاميّة؟ أين سورة الإسراء إذن منّا؟ وأين نحن منها؟ أرأيت كيف إنحدر وعينا الإسلاميّ إلى درجة موغلة في الرّثاثة والسّخف؟ 
مجرّد القول إنّ الشّورى معلمة لا ملزمة هو كفر بآية سورة الشّورى. هو إعلاء لمن لا يستحقّ فوق قيمة محمّد نفسه ﷺ. محمّد ﷺ الذي هو الأرجح عقلا ـ قبل النّبوّة ومع النّبوّة ـ لزم نتيجة الشّورى مرّات ومرّات. ولم يكن متوافقا مع نتيجة التّصويت في بعض الأحيان ولكنّه أذعن لرأي النّاس. دولة الإسلام إذن وبالضّرورة دولة شورّية بالمقام الأوّل. النّص الإسلاميّ جاء حاسما صريحا بأنّ الأمر يدار بين المسلمين بالتّشاور. جاء ذلك حتّى في قضية أسريّة صغيرة من مثل فطام الصّبيّ الرّضيع ﴿.. فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا..﴾(البقرة:233). وأنزل اللّه سبحانه سورة مكّية كاملة سمّاها سورة الشّورى، وقال فيها منزلا قيمة الشّورى في حدقة العين وسويداء الفؤاد بين الصّلاة وبين الإنفاق ﴿.. وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَُ﴾(الشّورى:38). وأثنى كلّ الثّناء على ملكة مشركة (هي بلقيس ملكة سبإ) لمجرّد لزومها قيمة التّشاور مع جندها تعاطيا مع رسالة سليمان عليه السّلام. والإستقراء الكلّيّ  الجامع للقرآن الكريم لا يعييه البتّة أن يستنبط أنّ من أكبر مقاصد اللّه من النّاس معالجة حياتهم بالعدل والقسط﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ ...﴾ (النحل:90). يأمر به أمرا باللّحم والشّحم والعصب. وأدار رسالة الأمّة كلّها على أسّ أداء الأمانة إلى أهلها، ثمّ فسّر ما هي الأمانة ومن هم أهلها. 
الأمانة هي : الحكم بالعدل بين النّاس، وأهلها هم الذين يجب أن يوسّد إليهم هذا الأمر، وهم الذين وصفهم سبحانه في موضعين بقوله مرّة على لسان بنت شيخ مدين﴿إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ﴾ (القصص:26) ومرّة على لسان يوسف عليه السّلام ﴿... إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾ (يوسف:55). كلّ ذلك أدلّة كليّة عامّة ملزمة على أنّ رجل الدّولة هو القويّ كفاءة وعقلا وعلما ومعرفة وتجربة (وهو العليم بتعبير يوسف) والأمين في الآن نفسه إخلاصا وورعا وتقوى ونصحا. محمّد نفسه ﷺ لمّا يجتمع أصحابه على رأي لا يخالفهم. وقال ذلك في شأن أسرى بدر لصاحبيه أبي بكر وعمر فيما أخرجه أحمد عن أبي موسى الأشعريّ «لو إجتمعتما على أمر ما خالفتكما». وقال في موضع آخر يرشد النّاس إلى عدم الإستبداد بالرّأي فيما أخرجه مالك عن عليّ إذ سئل ﷺ «الأمر ينزل بنا لم ينزل اللّه فيه القرآن ولم تمض فيه منك سنّة؟» قال: «إجمعوا له العالمين من المؤمنين فاجعلوه شورى بينكم ولا تقضوا فيه برأي واحد». وكعادتنا دوما نجمع في قراءة موضوعيّة ـ لا موضعيّة مبتسرة مجتزأة ـ القرآن الكريم مع الحديث النّبويّ ومع عمل الصّحابة حتّى نظفر بالحكم الشّرعيّ الصّحيح لأيّ قضيّة. 
ونجد الصّحابة ـ وهم خير من فقه الرّسالة الإسلاميّة ـ هبّوا مسرعين إلى سقيفة بني ساعدة والنّبيّ محمّد ﷺ مازال مسجّى لم يغسّل ولم يكفّن ولم يصلّ عليه (إذ عهد بذلك إلى آل بيته عليّ ومن معه) لبحث الأمر السّياسيّ. من يخلف محمّدا ﷺ في إدارة الدّنيا بالدّين؟ من أين علموا ذلك يا ترى؟ هل تجد آية واحدة تأمرهم بإنشاء كيان سياسيّ؟ أبدا. إلاّ بطريق قاعدة ما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجب. حديث نبويّ يأمرهم بذلك بصراحة؟ أبدا. إلاّ بما علموا من ثقافة عمليّة من سنّته وسيرته أنّ إقامة الدّولة التي ترعى الدّين وتحمي الأمّة لازمة من لازمات الإسلام. لم يتردّدوا أبدا البتّة في إنشاء مجلس طارئ يشارك فيه الأنصار والمهاجرون معا وفي حالة طوارئ قصوى حتّى لا يخيّم عليه اللّيل إلاّ وأمّتهم لها دولة وسلطان معروف هو فلان إبن فلان. لم يتخلّف منهم أحد ولم يعترض منهم على ذلك أحد. الأمر إذن محسوم عندهم كلّ الحسم، وطال حوارهم وربّما إحتدّ أحيانا. ولم يتبرّموا بشريعة ـ كما تفعل المتديّنة الجديدة ـ لم تعيّن لهم إماما يخلف نبيّهم. وتمخّض حوارهم على إختيار أبي بكر عليه الرّضوان. ولمّا مات إختاروا عمر، ولمّا مات إختاروا عثمان الذي كان لا يفوق عليّا بعدد الأصوات إلاّ بشيء قليل جدّا. ولما مات هذا إنتخبوا عليّا، ولمّا مات إنتخبوا إبنه الحسن. تلك هي الخلافة الرّاشدة التي كانت راشدة إذ لزمت النّظام الإسلاميّ في تصعيد الدّولة ورجالها. ما معنى أن يحذّر ﷺ كلّ التّحذير الأمّة من إنتقاض عروة الحكم؟ جاء ذلك فيما أخرجه أحمد عن أبي أمامة إذ قال ﷺ «لتنقضنّ عرى الإسلام عروة عروة أوّلها الحكم وآخرها الصّلاة». ما معنى الحكم؟ أليس هو إقامة الدّولة وسلطان الإسلام؟ أليس هذا التّحذير نبوءة أوّلا أنّ ذلك سيقع، وأنّه على الأمّة لزوم الحذر من ذلك، فإذا وقع عليهم تدارك ما فاتهم؟ لماذا الحكم أصلا؟ أليس لحماية الأمّة ودينها ورصّ صفّها وعمارة أرضها ودفع الصّائل ضدّها بعدوان ورعاية أمرها كلّها وتبليغ كلمة ربّها إلى النّاس؟ 
كيف نعدّ الشّورى مجرّد مستحبّ غير ملزم وليس فريضة إسلاميّة عليا عظمى، وهي أسّ سورة مكيّة كاملة، ولنا فيها نصوص ونصوص صحيحات صريحات من القرآن والسنّة. وبعد ذلك كلّه لزمها الصّحابة أنفسهم من أبي بكر حتّى الحسن؟ أليست هي العدل والقسط وتحقيق كرامة الإنسان والمقصد الإسلاميّ الأعظم؟ الذين قبلوا بحكم السّيف والمتغلّب إنّما فعلوا ذلك خضوعا للأمر الواقع وتجنّبا لإراقة الدّماء وقبولا بشرّ أدنى توقّيا لشرّ أعظم منه. لم يفعلوا ذلك نكوصا عن الإسلام ولا نكولا عن تعليماته. حاشاهم. فإذا إستمرأت الأمّة ذلك وأضحت الشّورى فيها تفاهة من التّفاهات التي لا عبرة بها هل نقرّ الأمر الواقع أم نعود إلى أصولنا؟ أليس العودة إلى الحقّ أولى؟ الكلمة الأخيرة والخطيرة فعلا في هذا المقال هي أنّ الشّورى آلة من آلات العدل والحكم بالحقّ والقسط بين النّاس. هي وسيلةوليست غاية. معنى ذلك أنّ اللّه لم يتعبّدنا بلفظ الشّورى ولا كلمة الشّورى. كما أنّه لم يتعبّدنا بكلمة الجزية التي عدل عنها اليوم بسبب وضع المواطنة المعروف. هل نطلب من اليهوديّ المواطن في أيّ بلاد مسلمة اليوم الجزية؟ طبعا لا. لم؟ لأنّ الجزية كانت مفروضة عليه يوم لم تكن الدّولة تأخذ منه شيئا كما تأخذ من المسلم الزّكاة. اليوم هي تأخذ منه ـ كما تأخذ من المسلم ـ معاليم ماليّة. فبأيّ حقّ يدفع هذه ومعها الجزية. الجزية ليست عقوبة كما يظنّ الجهلى والحمقى. الجزية كانت مساهمة من المواطن غير المسلم في الدّولة الإسلاميّة مساواة مع الزّكاة التي يدفعها المسلم. الجزية في مقابل حمايته ورعايته، سيما أنّه لم يكن مطالبا بالجهاد لأجل حماية الدّولة. الشّورى إذن هي آلة ووسيلة غايتها تحقيق العدل والقسط والكرامة والصفّ  الواحد المرصوص وغير ذلك من مقاصد الإسلام. أيّ حرج إذن إذا إستبدلناها بكلمة الدّيمقراطية؟. لا حرج البتّة. لم؟ لأنّها مثل كلمة الجزية وكلمة الإمارة والخلافة وغير ذلك. لم يتعبّدنا سبحانه البتّة بالكلمات والألفاظ والمباني. لم يقل لنا حتّى أقيموا دولة وأسموها دولة إسلاميّة. ولكن رتّب علينا من الواجبات ما لا يقام إلاّ بدولة. 
كلمة الدّيمقراطية أولى اليوم بسبب أنّ النّاس يفهمون ما معنى الدّيمقراطية وقليل منهم من يعلم معنى الشّورى. فلم ننشئ معارك حول لفظ يمكن إستبداله. العبرة هي بتحقيق مقاصد الإسلام في الشّأن العامّ بصفة عامّة ومنه الشّأن السّياسيّ. 
النّظام الإسلاميّ الذي جاء بمجموعة قيم ـ ولم يأت بشكل للدّولة أو هيئة لها ـ إنّما كانت الشّورى فيه آلة من تلك الآلات وقيمة وليست هي كلّ شيء. ليس بالشّورى وحدها تقوم الدّولة التي يريدها الإسلام. إستبدال كلمة الشّورى بكلمة الدّيمقراطية ليست تنكّرا لهويتنا. هويتنا خارج الدّائرة العقدية والتّعبّدية ليست كلمات وألفاظا ولا مباني وأشكالا، بل هي مقاصد. كلّ كلمة تحقّق مقصدي هي كلمتي وخاصّة إذا كانت ممّا عمّت به البلوى، حيث كلّ النّاس يعرفون معناها ويعرفون نقيضها ويرومون الدّيمقراطيّة وينفرون من الإستبداد والإكراه. 
لا ثمرة أمرّ من إيراء زوبعة في كأس حول مساحات الوصل والفصل بين الشّورى والدّيمقراطية ـ خاصّة بين النّاس وعامّتهم ـ عدا الإيحاء بأنّ الإسلام نظام لا ديمقراطيّ. أو هو نظام إكراهيّ أو هو نظام تيوقراطيّ. ألسنا أغنياء عن هذه الزّوبعة؟ في المجالس العلميّة ودور البحث ومكاتب الدّراسة يمكن بحث مساحات الوصل والفصل بين الشّورى والدّيمقراطية وهي موجودة يقينا. ولكن في النّاس ومعهم ـ وخاصّة مع غير المسلمين ـ لا مناص من التّعبير بالدّيمقراطية حتّى أصل إلى رسالتي بسرعة وقوّة. أنا اليوم الطّرف الأضعف، وعليّ البحث عمّا يجعل ديني مرغوبا فيه لا منفورا منه. 
الأمر هنا ليس عقديا ولا تعبّديا إنّما هو دنيويّ من جهة، وأصوله الدّينية لا يهمّ كلّ النّاس. ليس النّاس كلّهم يعلمون قضايا التّأصيل، فلم أسوقهم إلى سوق ينفرون منه أو يكون على بعضهم فتنة؟ كيف أنفي عن الإسلام الصّفة الدّيمقراطية لأقول للنّاس ـ وهذا الذي هو مفهوم قطعا ـ أنّ ديني لا علاقة له بالعصر، وأنّ ديني تيوقراطيّ يعدّ رجل الدّولة ظلّ اللّه في أرضه فهو يجلد الظّهور ويأكل الأموال ويغشى الحرمات واللّه يأمرني بالطّاعة. أليس هذا هو الأمر الذي يتّهم به الإسلام اليوم؟ أيّ حماقة عندما أؤكّد للنّاس ذلك ثمّ أقول أنّي لم أقصد ذلك. ولكنّهم فهموا ذلك؟ في مثل هذه الأمور المعوّل عليه هو ما وقر في أذهان النّاس وليس ما تقصده أنت. 
عندما تكون الدّيمقراطية آلة إداريّة أو سياسيّة تحدّ من سلطان الدّولة المتغوّلة المتغطرسة وتحاسب الدّولة في إدارة المال العامّ وفي الحرّيات وتأتي بأعظم مقاصد الإسلام من مثل العدالة والحرّية والكرامة والوحدة وحقّ التنوّع، عندما تكون الدّيمقراطية متكفّلة لي بذلك فبأيّ حقّ أركلها؟ ولكن شغبت علينا سلفيّة ممجوجة جامدة أزّها عقلها الفاسد على القول بأنّ الدّيمقراطية كفر. وفهم النّاس من غير المسلمين ذلك أنّ الإسلام هو نظام التّمييز العنصريّ البغيض. نظام لا حرمة فيه لكرامة إنسان ولا لمال إنسان ولا لبدن إنسان. 
العلم الشّرعيّ شيء مطلوب ولكنّه يكون نكبة عندما لا يصاحبه موقف شرعيّ يفقه الزّمان والمكان والحال والعرف ويميّز بين ما يمكن أن يتحوّل من الإسلام وما لا يمكن أن يتغيّر. هل مطلوب منّي ألاّ أصف النّظام الإسلاميّ السّياسيّ أنّه نظام ديمقراطيّ حتّى أجد في القرآن الكريم أو في السنّة لفظا يؤيّد ذلك؟ هل أجد كلمة السّياسة في ذينك المصدرين؟ إذن لا علاقة للإسلام بالشّأن العامّ وبالسّياسة. وهل أجد كلمة الإقتصاد؟ إذن لا علاقة للإسلام بالمال العامّ وبالإقتصاد. هذه ظاهريّة سخيفة عفت عنها حتّى المدرسة الظّاهريّة عند منظّر المذهب (الفقيه الإندلسيّ الثّائر إبن حزم). ألم يعدل الفاروق ـ ذلك العقل الأعظم ـ عن إستخدام كلمة الجزية ـ وهي كلمة قرآنيّة قحّة ـ إذ طلب منه ذلك نصارى تغلب (وهم عرب تنصّروا) إذ إشتعلت فيهم الحميّة العربيّة أنفة وكرها أن يكونوا في محلّ لدفع الجزية. وافق على ذلك التّجميد لتلك الكلمة مادام المقصد محصولا وهو دفع الجزية. سمّوها ما تشاؤون. هل تنصّل الفاروق من هويته إذ فعل ذلك؟ ولذلك اليوم أكثر الأنظمة محاربة لكلمة الدّيمقراطية بإسم الدّين هي الأنظمة العائليّة العشائريّة التي تجنّد ملايين مملينة من الشّباب الغرّ خوفا من إنتقال العدوى الدّيمقراطيّة إليها فتنسف أنظمتها المتهاوية. 
كيف نكون سخفا بلها تنطلي علينا حيل الماكرين بإسم الدّين؟ الإسلام مساحتان : مساحة عقدية تعبّدية لا مكان فيها عدا للتّعليمات الإسلاميّة مبنى ومعنى معا، حتّى لو نعلم على وجه اليقين المعنى. ومساحة عامّة واسعة فيها كلّ مساحات الشّأن العامّ. ولا ضير علينا البتّة في هذه المساحة من إختراع كلمات جديدة ولكن المطلوب كلّه هو تحقيق مقاصد الإسلام في هذه المساحة. لذلك لم يعيّن لنا الإسلام نظاما إسلاميّا سياسيّا ولا حتّى ماليّا ولا إداريّا. ترك لنا الحرّية بحسب تغيّر المكان والزّمان، وشدّد علينا كلّ التّشديد أن ترعى مقاصده في هذه المساحة : العدل والقسط والحرّية والكرامة ووحدة الصّف ورعاية حقّ التّعدّد.