بحوث

بقلم
رجاء موليو
الدين ونشأته (1/3)
 لاشكّ أنّ الباحث في مجال الدّين يجد أنّ المتخصّصين في هذا الميدان أعطوه عدّة تعاريف تختلف مع اختلاف اتجاه كلّ فريق منهم، فنجد أن تعريف الدّين عند العلماء  المسلمين، يختلف عنه عند علماء الغرب، بالإضافة أنّه لا يمكن تحديد  مفهوم دقيق وموحّد للدّين نظرا لاختلاف النّاس في مللهم ونحلهم، سواء الذين يعتقدون بدين وضعي أو بدين سماوي، وكذلك لاختلاف طبيعة هذا الدّين من شخص إلى آخر، ومن هنا فمن أراد أن يتعرّف على كنه دين الإسلام، أو المسيحيّة أو المجوسيّة، أو اليهوديّة، أو الوثنيّة أو غيرها من الأديان التي ظهرت في الوجود، عليه أن يتعرف أوّلا على المعنى الكلّي الذي يجمعها.
إنّ التّعريف بعلم من العلوم يقتضي منّا- قبل أن نعرّفه إجمالا- أن نعرف ألفاظه التي يتكوّن منها، لأنّ تلك الألفاظ هي مفاتيح هذا العلم، وهي مكوّناته الرّئيسيّة، وعليها مدار البحث والدّراسة.                  وبرجوعنا إلى المعاجم اللّغويّة العربيّة للبحث عن تعريف شامل لكلمة دين، نجد أنفسنا أمام عدد هائل من المعاني التي تشترك في هذه المادّة. فالذي يرجع إلى القاموس المحيط، أو إلى لسان العرب، أو غيرها من المعاجم العربيّة يضلّ في بيداء، ويخيّل إليه أن هذه الكلمة الواحدة يصحّ أن تستعمل فيما شئت من المعاني المتباعدة وكذا المتناقضة(1).                                                                                        
وهكذا يتضح بأنّ كلمة الدّين عند العلماء تّتخذ مدلولات عديدة انطلاقا من السّياق الذي تستعمل فيه؛ ممّا جعل أمر تحديدها يختلف من تخصّص إلى آخر انطلاقا من اتجاه كلّ فريق.
الدين في اللغة :
جرت عادة الباحثين على تعريف ألفاظ العلم قبل تعريف العلم نفسه فنجد أنّ اللّغويين في معاجمهم عرّفوا الدّين بعدّة تعاريف منها: 
جاء في القاموس المحيط: «الدّين بالكسر الجزاء (...)والإسلام (...) والعادة والعبادة والمواظب من الأمصار أو اللّين منها والطّاعة (...) والذّل والدّاء والحساب والقهر والغلبة والاستعلاء والسّلطان والملك والحكم والسّيرة والتّدبير والتّوجيه(...) والملّة والورع والمعصية والإكراه(...) والحلّ والقضاء». (2)                                 
ويأتي بمعنى الجزاء والمكافأة كما في قوله تعالى:﴿أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ﴾(الصافات:53)   أي مجزيون،  
وقال خويلد بن نوفل الكلابي للحرث بن أبي شمر الغساني وكان اغتصبه ابنته : 
«يا جار أيقن أن ملكك زائل *** واعلم بأن كما تدين تدان»  
أي كما تجازي تجازى (3).  
ويأتي بمعنى العادة والشّأن ، تقول العرب : ما زال ذلك ديني وديدني أي عادتي(4) 
وقال المثقب العبدي (5)  يذكر ناقته: 
« تقول إذا درأت لها وفيني *** أهذا دينه أبدا وديني» (6)  
ويأتي بمعنى الذّل، قال أبو عبيدة: «قوله دان نفسه أي أذلها واستعبدها» (7) ويأتي بمعنى الحال، كما في قول ابن شميل: «سألت أعرابيّا عن شيء فقال: لو لقيتني على دين غير هذا لأخبرتك»(8).                                                                                                 ويأتي بمعنى القضاء، وبه فسّر قتادة(9)قوله تعالى .﴿ .. كَذَٰلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ..﴾(يوسف:76) أي قضائه. 
والملاحظ أنّ السرّ في هذا التّعدّد هو أنّه تعدّد ظاهري، وهذا ما وصل إليه كلّ من الدّكتور عبد اللّه الشّرقاوي وعبد اللّه دراز وهو أنّ هذه التّعريفات تؤول إلى معنى واحد يجمعها ويوحّدها، فهي تدخل في علاقة خضوع وانقياد.
وأيضا الدين: «ما له أجل، الدّينة، بالكسر، وما لا أجل له ودنته بالكسر، وأدنته: أعطيته إلى أجل، وأقرضته»(10). وجا في لسان العرب لابن منظور: «الدَّيان: من أسماء الله عز وجل، ومعناه الحكم والقاضي. الدَّيان القهار، الدَّيان : الله عز وجل، وقيل الحاكم والقاضي وهو فعّال من دان النّاس أي قهرهم على الطّاعة» (11).     
نجد من خلال هذه التّعاريف أنّ اللّغويين لم يخصّوا الدّين بتعريف واحد وموحّد، بل كل واحد منهم يعرفه من منظوره ومعتقده الخاص. 
وجاء في كشاف اصطلاحات الفنون: «الدّين بالكسر والسّكون في اللّغة يطلق على العادة والسّيرة والحساب والقهر والقضاء والحكم والطّاعة والحال والجزاء ومنه قوله تعالى:﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾(الفاتحة:3)، «وكما تدين تدان»، والسّياسة والرّأي، ودان عصى وأطاع وذلّ وعزّ، فهو من الأضداد» (12). 
وفي مقاييس اللّغة لابن فارس : (ت 390هـ) «الدّال والنّون أصل واحد إليه يرجع فروعه كلّها. وهو جنس من الانقياد والذّلّ. فالدّين : الطّاعة، يقال دان له  يدين دينا، وإذا أصبح وانقاد وطاع. وقوم دين: أي مطيعون منقادون. قال الشّاعر : «وكان الناس إلا نحن دينا» (13)، فالدّين جمعه الأديان»(14). 
من خلال هذه التّعاريف التي وردت في المعاجم العربيّة لكلمة «الدّين» يتبيّن أنّها لم تعط تحديدا تامّا لهذه الكلمة، بل نجدها تعني عدّة معانٍ تتراوح ما بين التّناقض والتّقابل، ممّا يبرز أنّ كلمة الدّين لها معانٍ مختلفة تحملها من خلال السّياق الذي ترد فيه. 
وعند عبد اللّه دراز : «الدّين هو الملك، وهو الخدمة، وهو العزّ، وهو الذّل وهو الإكراه وهو الإحسان وهو العبادة، وهو التّذلّل والخضوع، هو الطّاعة، وهو المعصية، هو الإسلام والتوحيد، وهو اسم لكلّ ما يعتقد، أو لكلّ ما يتعبّد اللّه به...» (15) 
فرغم هذا الاختلاف المتباين فهو اختلاف ظاهري، لكن نجد أنّ لكلمة «الدّين» معان متقاربة تكاد تؤول إلى أن تكون متلازمة. «فإذا قلنا «دانه دينا» عنينا بذلك أنّه ملكه، وحكمه وساسه، ودبّره، وقهره، وحاسبه، وقضى في شأنه، وجازاه وكافأه. فالدّين في هذا الاستعمال يدور على معنى الملك والتّصرّف بما هو من شأن الملوك من السّياسة والتّدبير، والحكم والقهر، والمحاسبة والمجازاة. وإذا قلنا «دان له» أردنا أنّه أطاعه، وخضع له. فالدّين هنا هو الخضوع والطّاعة والعبادة والورع. وإذا قلنا «دان بالشّيء» كان معناه أنّه اتخذه دينا ومذهبا، أي اعتقده أو اعتاده أو تخلّق به. فالدّين على هذا هو المذهب والطّريقة التي يسير عليها المرء نظريّا أو علميّا»(16).
وجملة القول فإنّ جميع هذه المعاني اللّغوية، ورغم التّباين والاختلاف فيما بينها، فكلّ طرف منها يخدم الطّرف الآخر، فإذا قلنا «دانه – دان له – ودان به» فدانه تشير للخضوع والانقياد، ودان له تشير للحكم والالتزام والرّابط والجامع بينهما هو الدّستور المنظّم لتلك العلاقة (17).  
من هنا يتّضح أنّ هذه التّعاريف المتنوّعة التي أعطيت للدّين ؛ تؤول كلّها إلى معنى واحد وهو لزوم الانقياد، لكنّ التعريف الذي وضعه الدّكتور عبد اللّه دراز(18) هو تعريف جامع ومانع لمختلف هذه التّعاريف. 
وقد حاول عبداللّه الشّرقاوي(19) أن يجمع شتات هذه المعاني، محاولا توحيدها في منظور موحّد يقرّ بخصوصية مفهوم الدّين بقوله : «ونلاحظ أنّ معنى من هذه المعاني يعبر عن جانب من جوانب الدّين، وهذه المعاني في مجموعها تصوّر الدّين في كليته، فالدّين شعور وإقرار بالقوّة المطلقة القاهرة، وما ينبغي لها من عبوديّة وتسليم يتمثّل في الطّاعة والخضوع والعبادة، رجاء الفوز بالمكافأة والجزاء، ومن شأن ذلك أن يجعل المتديّن على حال خاصّ به وسمت مميّز له» (20).  
 أمّا في اللّغات الأوروبيّة، فإنّ لفظ (Religion) قد اختلف في أصله اللاّتيني الذي اشتق منه بين الإسم  (religio) والفعل  (religare)، والأشهر أنّه قد اشتق من الأوّل، ولهذا نجد أغلب المعاجم العربية تشير إلى هذا الأصل عند تعريفها لكلمة (religion) ومن ذلك: 
Religion : N.F(lat religio) Ensembles de croyances et de dogmes définissant le rapport  de l’homme avec le sacré(21)é     
أي أنّ الدين هو مجموعة من المعتقدات والعقائد المحدّدة للعلاقة بين الإنسان والمقدّس.                    
 Religion : N.F, Lat religio « attention scrupuleuse, vénération…»(22)n 
وترجمتها هي «الاهتمام الدّقيق مع التّبجيل».
انطلاقا مما سبق ذكره، نرى أنّ التعاريف العربيّة والأجنبيّة لكلمة الدّين «religion»، تجتمع في كونه مجموعة عقائد وعبادات وطقوس مقدّسة تحدّد العلاقة بين الخالق والمخلوق.
الهوامش
(1) الدين بحوث ممهدة  لدراسة تاريخ الأديان، الدكتور عبد الله دراز، مطبعة الحرية، بيروت ص : 57 بتصرف.
(2) القاموس المحيط، الفيروز آبادي مجد الدين محمد بن يعقوب، 1344، المطبعة الحسينية المصرية ج 4 باب النون مادة (دين)، ص 57.
(3) لسان العرب، جمال الدين ابن منظور، مجلد13، مادة دين، ص : 169.
(4) لسان العرب، جمال الدين ابن منظور ، ص 169.
(5) العبدي : العائد بن محصن بن ثعلبة، من بني القيس، من ربيعة شاعر جاهلي، من أهل البحرين اتصل بالملك عمرو بن هند، وله فيه مدائح. شعره جيد فيه حكمة، الزركلي خير الدين، الأعلام، 2002 دار العلم للملايين بيروت، ج.3 ص : 239.
(6) تاج العروس من جوهر القاموس، محمد مرتضي الحسيني  الواسطي الزبيدي الحنفي، الطبعة الأولى بالمطبعة الخيرية النشأة بمصر المحمية سنة 1306، ج.9، مادة دين ص : 208.
(7) لسان العرب، ابن منظور، الجزء الثالث عشر 13، مادة دين ص : 170.
(8) تاج العروس، محمد مرتضي الحسيني، ص : 208.
(9) قتادة بن دعامة الحافظ العلامة أبو الخطاب السدوسي البصري الهزير الأكمه المفسر كان يقول : ما قلت لمحدث قط  
أعد علي، وما سمعت أذناي قط شيئا إلا وعاه قلبي قال : ابن سرين قتادة أحفظ الناس وقال معمر: سمعت قتادة يقول : ما في القرآن من آية إلا وقد سمعت فيها شيئا تذكرة الحفاظ/ ج 1، ص : 92.
(10) القاموس المحيط مجد الدين بن يعقوب الفيروز أبادي، تحقيق مكتب تحقيق التراث مؤسسة الرسالة – بيروت 1413هـ - 1993م الطبعة الثالثة، ج.4 مادة دين ص : 1546.
(11) لسان العرب، أبي الفضل جمال الدين محمد بن مكرم ابن منظور الإفريقي المصري، دار صادر بيروت،  
المجلد الثالث، مادة (دين) ص : 166 – 167.
(12) كشاف اصطلاحات الفنون ، محمد علي بن شيخ علي بن قاضي محمد حامد بن محمد صابر الفاروقي التهانوي، 
 دار صادر بيروت، 549-1080، جزء 2، مادة دين ص : 503. 
(13)معجم مقاييس اللغة ، أبي الحسين أحمد بن فارس بن زكريا ، تحقيق عبد السلام محمد هارون، دار إحياء الكتب  
العربية عيسى البابي الحلبني وشركاه، 1322، الطبعة الأولى الجزء 2، مادة (دين) ص : 319. 
(14) معجم العين، الخليل بن أحمد الفراهيدي ، تحقيق الدكتور المهدي المخزومي، ,إبراهيم السامرائي، دائرة الشؤون الثقافية والنشر دار الطباعة، بغداد سنة 1404هـ - 1985م، الجزء 8، ص : 73.
(15) الدين بحوث ممهدة  لدراسة تاريخ الأديان، الدكتور عبد الله دراز، مطبعة الحرية، بيروت ص : 192 بتصرف.  
(16)  الدين ، الدكتور عبد الله دراز ، ص : 192.     
(17)  نفسه ،  ص : 62 بتصرف. 
(18)عبد الله دراز: ولد سنة 1894 م   بمصر ، أديب وباحث ومحدث  وفقيه مالكي، أتم حفظ القرآن  وهو دون العشرين، حصل على العالمية من الأزهر، أتقن اللغة الفرنسية ودافع من خلالها عن الإسلام، حصل على الدكتوراه من السوربون وزاول عدة مهام وله مؤلفات كثيرة، توفي سنة 1377هـ الدين عبد الله دراز ص : 61-62. 
(19)عبد الله الشرقاوي : من مواليد مصر سنة 1950 درس في الأزهر ودار العلوم والجامعة الأمريكية ، صدر له أكثر من عشرين كتابا بين تأليف وتحقيق وترجمة، وتولى العديد من المناصب أهمها رئيس قسم مقارنة الأديان في الجامعة الإسلامية العالمية.
(20) في مقارنة الأديان بحوث ودراسات ، محمد عبد الله الشرقاوي، دار الفكر العربي، القاهرة 2002، ص : 9.
(21) Le petit Larousse, grand format, 1996, Paris cedex.  L : R.  887
(22) le petit Robert, 60000 mots et leurs 300000sens, Edition Juin 2000, Dictionnaires le Robert, Paris, L : R, P : 2151.