في الصميم

بقلم
د.عثمان مصباح
القصص القرآني من منظور جديد (18) يونس عليه السلام وأسئلة الاستثناء
 قصة يونس عليه السّلام قصّة مطوّقة بالاستثناءات، منها استثناءات قرآنيّة جاءت لتعليم الحكمة، ومنها استثناءات أسطوريّة مضادّة لحكمة القرآن. سنحاول التّعرّف في هذا المقال على مقاصد الاستثناءات القرآنيّة، والردّ على ما تكلفه المفسّرون وتقوّله القصّاص بشأن يونس وقومه، من أجل تحرير التّاريخ الإنساني من الأسطورة، وإغنائه بأصدق الشّهادات، وهي شهادة العليم الخبير.
العرض القرآني لقصّة يونس
مفتاح قصّة يونس يوجد في قوله تعالى: ﴿فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ ‌كَصَاحِبِ ‌الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ، لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ، فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ (القلم: 48-50)، وهذا يفيد أنّ يونس وقع في خطيئة الاستعجال، فلم يصبر كما أُمر، ومقابل هذا التّحذير من مثال يونس أمر اللّه محمّدا أن يقتدي بغيره فقال: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا ‌تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ﴾ (الأحقاف: 35)، وفي ذلك إشارة إلى رسل آخرين لم يصبروا لحكم اللّه، واستعجلوا عقوبة قومهم، فكانوا بذلك ظالمين، وتأمّل قوله تعالى: ﴿إِنِّي لَا يَخَافُ ‌لَدَيَّ ‌الْمُرْسَلُونَ، إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (النمل: 10-11).
والاستعجال ناشئ عن ظنٍّ بأنّ اللّه أخلف وعده بالنّصر، والحقّ أنّ هذا الظنّ لم يسلم منه نبي من الأنبياء ما عدا ﴿إِبْرَاهِيمَ ‌الَّذِي ‌وَفَّى﴾ (النجم: 37)، قال سبحانه: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ، مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ، وَزُلْزِلُوا، حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ: ‌مَتَى ‌نَصْرُ اللَّهِ؟ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ (البقرة: 214) ويؤكّد هذا قولُه تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا ‌اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِّبُوا، جَاءَهُمْ نَصْرُنَا، فَنُنجي مَنْ نَشَاءُ، وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ﴾ (يوسف: 110). والفرق الذي أحدثه يونس عليه السّلام هو أنّه سارع إلى اليأس، ثم إنّه لم يكتف بظنّ السّوء، والسّؤال عن النّصر الذي رآه تأخّر عن أوانه، بل اتخذ قرارا بالتوقّف عن دعوة قومه، لأنّهم استحقّوا في نظره الهلاك، فلمّا لم يهلكهم اللّه غضب يونس، وقرّر التّخلّي والفرار، فوقع بذلك في غضب اللّه، وهذا هو معنى المغاضبة في قوله تعالى: ﴿وَذَا ‌النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ﴾ (الأنبياء: 87) 
وهل يغاضب نبيٌّ ربّه؟ وكيف يظنّ نبيّ أنّه يستطيع الإفلات من قدرة اللّه؟ هكذا تساءل في استنكارٍ القائلون بأنّ الأنبياء معصومون من الخطأ، فجرّدوهم بذلك من بشريّتهم التي طالما أكّدها القرآن، ولكنّهم بعثروا بالمقابل قصّة يونس، وملؤوها إكراها وحشوا، ولم يقدّموا أي تفسير معقول للعقوبة التي أوقعها اللّه بيونس، ولا للتّوبة التي أقرّ فيها بظلمه، وعبّر عنها بصيغة تؤكّد أنّه أساء الظّنّ باللّه: ﴿فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ! فَاسْتَجَبْنَا لَهُ، وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ، وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ (الأنبياء: 87-88) فالتّسبيح هنا كان تنزيها من يونس لربّه عن الظنّ بأنّه أخلف وعده، وأنّه لن يقدر عليه إذا فرّ من واجب الدّعوة التي أمر أن يصبر عليها، وقد حكى اللّه لنا عن رجل صالح وقف موقفا ظنّ فيه ظنّا لا يليق بقدرة اللّه، مع أنّه كان يعلم أنّ اللّه على كلّ شيء قدير: ﴿أَوْ كَالَّذِي مَرَّ ‌عَلَى ‌قَرْيَةٍ ‌وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ: أَنَّى يُحْيِي هَذهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا؟ ... فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ: أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (البقرة: 259)
وهذا الدّرس يعلّمنا التّفريق بين الإقرار العلمي النّظري بالكمالات الإلهيّة الموصوفة وحيا، وبين استحضار ذلك في معترك البلاء، فعهد الإيمان يتحقّق بمجرّد الإقرار النّظري، وأمّا الظّنون النّاقضة العارضة في الكسب بسبب الكرب والخوف والحزن والغضب وشدّة الفرح، فإنّها لا تخرج صاحبها من الإيمان إلاّ إذا أصرّ عليها، وارتدّ على عقبيه، وهذا نفسه ما وقع لأصحاب محمد في معركة الأحزاب حيث قال سبحانه: ﴿إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ ‌وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا، هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا، وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ: مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا﴾ (الأحزاب: 10-12) 
ويونس أيضا ظنّ بربّه الظّنون، وبادر مبادرات بناء على تلك الظّنون، وحسبك أنّ القرآن عبّر عن خروجه من طاعة ربّه بلفظ يُستعمل للتّعبير عن فرار العبد من سيّده، ألا وهو لفظ (الإباق)، قال تعالى: ﴿إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ، فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ، فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ، فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ، لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ (الصافات: 140-144)، والقصّ القرآني لهذه الواقعة مليء بقرائن الذمّ الدّالة على غضب اللّه، ومن ذلك:
أنّ الآبق خارج بنيّة عدم الرّجوع، ليس كالعاصي الآمل أن يغفر له. 
• استعمال الدّحض في الإلقاء إشعار بالإهانة، وإلحاقه بالمدحضين فيه مضاعفة الهوان. 
• وصفه بأنّه مُليمٌ، أي أنّه كان مستحقّا للعقوبة، فيه تقريع شديد. 
• المكوث في بطن الحوت إلى يوم يبعثون لا يكون عقوبة على مجرّد اجتهاد كما زعم القائلون بالعصمة، بل لا يكون إلاّ لعظيم من عظائم الذّنوب.
• قوله تعالى: ﴿لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ ‌لَنُبِذَ ‌بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ﴾ ‹القلم: 49) فيه قرائن إضافيّة أوّلها أنّ توبته لم تنفعه إلاّ في النّجاة من بطن الحوت، وعليه كان سينبذ بالعراء، والنّبذ ترك مع إهمال وإعراض
• وهو مذموم، أي لم تزُل عنه لا عند اللّه ولا عند النّاس مَعَرّةُ الفرار من ربّه، والتّقصيرِ في إصلاح شأن قومه، فما فائدة النّجاة من بطن الحوت إذا كانت إلى بطن الغمّ؟
برحمة اللّه نجا يونس من بطن الحوت، ولولا نعمته لما نجا من الغمّ، ولكنّه تعالى أكرم عبده من جديد بالنّبوة التي كان ضيّعها من قبل، وهاهنا تبيّن ليونس كم كان ظالما لقومه حين تمنّى هلاكهم، ﴿وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ، فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ﴾ (الصافات: 147-148) 
الرّواية الإسرائيليّة لقصّة يونس
يعرف يونس عند النّصارى باسم (يونان) ويسمّيه اليهود (يونَهْ)، وفي كتبهم المقدّسة سِفْر صغير خاص به يقدِّر الدّارسون أنّه كتب بين 400 و200 قبل الميلاد(1) ، وكأنّ كاتبَه كان ضدّ الرّؤية العنصريّة التي أصّلها عُزير حين أعاد صياغة (أسفار موسى) فأنتج دين اليهوديّة المحتكر للعناية الإلهيّة، ويزعم كاتب هذا السّفر أنّ يونس رجل إسرائيلي تلقّى أمرا من اللّه بالرّحلة إلى نينوى عاصمة الأشوريّين، لينذر أعداءَ قومه عذابا قريبا، لكنّه أبى هذا التّكليف من باب التّعصّب القومي، وركب البحر فارّا من وجه ربّه، فعاقبه بأن جعل أصحاب السّفينة يلقونه في اليمّ الهائج، وبأن جعل الحوت يلتقمه، وفي بطن الحوت أعلن توبته، فطرحه بأمر من اللّه على الشّاطئ بعد ثلاثة أيام، ثمّ كُلّف بتبليغ أهل نينوى أنّ خرابا سيحلّ بمدينتهم العظيمة بعد أربعين يوما، ففعل، لكن حدث ما لم يكن في حسبان اللّه! ولا في أمنية يونس! إذ خاف أهل المدينة، وأنابوا إلى اللّه سائلين العفو والمغفرة، «فَلَمَّا رَأَى اللهُ أَعْمَالَهُمْ أَنَّهُمْ رَجَعُوا عَنْ طَرِيقِهِمِ الرَّدِيئَةِ، نَدِمَ اللّهُ عَلَى الشَّرِّ الَّذِي تَكَلَّمَ أَنْ يَصْنَعَهُ بِهِمْ، فَلَمْ يَصْنَعْهُ»(2)، وأمّا يونس فقد اغتمّ لعدم وقوع العذاب الموعود، وأخذ يعاتب ربه الذي أخلف الوعد، ثم خرج وجلس شرق المدينة تحت ظُلّة صنعها لنفسه، فأنبت اللّه يقطينة أظلّته، فأعجب يونس باليقطينة، وفرح بها فرحا عظيما، لكنّ اللّه سلّط عليها فجرَ الغد دودةً ضربتها فيبِستْ، فعاود الغمُّ يونسَ وتمنّى الموت لنفسه، وهنا خاطبه الرّبّ قائلا: «أَنْتَ شَفِقْتَ عَلَى الْيَقْطِينَةِ الَّتِي لَمْ تَتْعَبْ فِيهَا وَلاَ رَبَّيْتَهَا، الَّتِي بِنْتَ لَيْلَةٍ كَانَتْ، وَبِنْتَ لَيْلَةٍ هَلَكَتْ. أَفَلاَ أشْفقُ أَنَا عَلَى نِينَوَى الْمَدِينَةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي يُوجَدُ فِيهَا أَكْثَرُ مِنِ اثْنَتَيْ عَشَرَةَ رِبْوَةً مِنَ النَّاسِ الَّذِينَ لاَ يَعْرِفُونَ يَمِينَهُمْ مِنْ شِمَالِهِمْ، وَبَهَائِمُ كَثِيرَةٌ؟»(3) .
هل كان يونس نبيّا إسرائيليّا؟
لا شكّ أنّ نسب يونس يتّصل بإبراهيم الخليل، لقوله تعالى في مسرد ذريته: ﴿... وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ ‌وَيُونُسَ وَلُوطًا، وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ (الأنعام: 86)، لكنّ القرآن لم يبيّن من أيّ فرع إبراهيمي كان يونس، وعليه فقد يكون من ذريّة لوط، وقد يكون من ذريّة إسماعيل، وقد يكون من ذريّة إسحاق المولودة ليعقوب، أو من ذريّة إسحاق المتحدّرة من فرع آخر لم يصرّح به القرآن، لكنّ اليهود يزعمون أنّه من بني إسرائيل، نشأ فيهم، ثمّ كلّفه اللّه فجأة أن يسافر إلى الأشوريّين لينبّئهم عقوبة ستحلّ قريبا بعاصمة ملكهم. 
أما الابتعاث الفجائي فمردود، لأنّ القرآن أضاف القوم المُنذَرين إلى يونس، وهي إضافة دالة على انتمائه إليهم، وهذا الانتماء يمكن أن يكون قد وقع على وجه من إثنين: 
الأول: أن يكون قد نشأ فيهم، بعد أن هاجر أحد آبائه إلى مدينتهم، ويحتمل مع هذا أن تكون أمُّه من القوم.
الثّاني: أن يكون قد وفد على القوم، وأصهر إليهم، وساكنهم قبل بعثته مدّة كافية لأن تجعله معدودا منهم، ومتكلّما بلسانهم، ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا ‌بِلِسَانِ ‌قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾ (إبراهيم: 4)، وهذا الوجه هو الذي وقع للوط عليه السّلام.
وهكذا تتهافت دعوى الابتعاث الفجائي، وأمّا نسبة يونس إلى بني إسرائيل فاحتمال في غاية الضّعف، خاصّة مع حرص اليهود على حصر النّبوّة في آل يعقوب، ويزيد هذا الاحتمال ضعفا الاعتبارات الآتيّة.
متى كان يونس؟
زعم اليهود أنّ يونس كان بعد سليمان، وأنّ اللّه أرسله إلى أهل نينوى عاصمة الأشوريّين، وهذا زعم يدلّ على بطلانه القرائن القرآنية التّالية:
أولا- أنّ يونس من الرّسل الذين بعثوا في أهل القرى، حينما كانت الدّولة لا تتجاوز حدود المدينة، أي قبل نشأة الدّول الإمبراطوريّة، والدّولة الأشوريّة هي من أعظم الإمبراطوريّات القديمة، وقد كان فرعون أوّل من أسّس هذا النّوع من الدّول كما سنبيّنه في حينه، والقرآن ينصّ على انتهاء مرحلة النّبوّات القرويّة قبيل موسى عليه السّلام كما في قوله تعالى: ﴿تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا، وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ، كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ، وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ، وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ، ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ ‌بَعْدِهِمْ ‌مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ﴾ (الأعراف: 101-103) وبهذا يتبين أنّ يونس كان قبل موسى.
ثانيا- الذي يؤكّد أنّ يونس من الرّسل الذين بعثوا في أهل القرى هو قوله تعالى: ﴿فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا ‌قَوْمَ ‌يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ﴾ (يونس: 98)، فاستثناء قوم يونس من سنّة الهلاك الذي حاق بأهل القرى دالّ على أنّه كان في المرحلة التي انتهت ببعثة موسى. 
واستثناء قوم يونس من الهلاك كانت له أسباب معقولة، فقد تظافرت عدّة عوامل على إضعاف التّطرّف الوثني الذي بدأه قوم نوح، وبلغ غايته في قصّة إبراهيم مع قومه، وعلى رأس تلك العوامل نشأة طريق التّجارة واقترانها بدعوة إبراهيم العابرة للقوميّات، وقد كان قوم يونس يقطنون مدينة على صلة وثيقة بدرب البخور.
في أيّ بلد وقعت القصّة؟
تدلّ المعطيات القرآنيّة على أنّ قوم يونس كانوا أصحاب سوق تجاريّة كبيرة، ويمتلكون ميناء حيويّا على ساحل البحر جنوب الجزيرة العربيّة، وتفصيل ذلك فيما يلي:
أولا- أنّ إباق يونس بدأ بركوب السّفينة وليس قبل ذلك: ﴿إِذْ أَبَقَ إِلَى ‌الْفُلْكِ ‌الْمَشْحُونِ﴾ (الصّافات: 140) ممّا يدلّ على أنّ المدينة كانت شاطئيّة خلافا لما ذكره كاتب سفر يونان، فإنّ نينوى تقع شمال العراق، ولهذا سيبدأ إباق يونس إن صدّقنا هذا السِّفر بالخروج من المدينة بَرّا لا بحرا، ولن يركب السّفينة في مرفأ يافا إلاّ بعد سَفر شهر أو أكثر.
ثانيا- (الفلك المشحون) قرينة على أنّ المدينة كانت سوقا للتّبادل التّجاري، ولعلّها كانت همزة وصل بين جزيرة العرب وبين فارس والهند وغيرهما من البلدان الآسيوية. 
ثالثا- قوله تعالى: ﴿وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ﴾ (الصافات: 147)، فمائة ألف نسمة عدد لا تتحمّله إلاّ المدن التّجاريّة، والزّيادة المُبهمة عليها دالّة على عدد إضافي غير مستقر بسبب حركة دخول وخروج يقتضيها النّشاط التّجاري.
رابعا- الحوت الذي التقم يونس لا يعيش في البحر الأبيض المتوسّط، ولا في البحر الأحمر، ولا في الخليج العربي-الفارسي، لأنّه لا يستوطن إلاّ المحيطات، ولهذا يكون في بحر العرب الذي هو جزء من المحيط الهندي.
خامسا- الرّاجح أنّ مدينة قوم يونس كانت من بلاد عُمان كما ذهب إلى ذلك الدّكتور كمال الصّليبي، ورحلة الإباق كانت باتجاه السّواحل اليمنيّة(4)، لأنّ الحوت لا يكون في بحر العرب إلاّ في فصل الشّتاء، وهو الفصل الذي تهبّ فيه الرّياح من الشّمال الشّرقي إلى الجنوب الغربي، ومعلوم أنّ الملاحة كانت تعتمد يومئذ على الرّياح الموسميّة.
يونس في بطن الحوت
لم يذكر القرآن مدّة بقاء يونس في بطن الحوت، ولهذا يحتمل أن تكون جزءا من يوم، لكنّ الرّواية التّوراتيّة صرّحت بأنّه مكث ثلاثة أيّام، وقد أشكل على كثير من المؤمنين بكُتب اللّه أكان ذلك من المعجزات أم من الممكنات؟ أم كان مَجازا وتخييلا لا حقيقة له؟ 
ينبغي أن يُعلم أوّلا أنّ وجود يونس في بطن الحوت لا يعني بالضّرورة أنّه استقر في معدته، فإنّ بطن الحوت الذي قد يمتد لأكثر من 30 مترا يتكوّن من عدّة أقسام، يشكل تجويف الفم ما يقرب من ثلث ذلك الامتداد، وهو أوسع تجويف في جسم الحوت، فحين يفتحه لاصطياد فرائسه يسع تقريبا 90 طناً من الغذاء والماء، أضف إلى ذلك أنّ الحوت يتنفّس كما يتنفّس الإنسان، لذا يبقى قريبا من سطح البحر ليتزوّد حاجته من الهواء، وهذا النّوع من الحيتان يعتبر صديقا للإنسان، ويمكن أن يتدخّل لحمايته ضدّ الضواري.
وقد وردت في القرآن عبارتان تصفان وضع يونس في بطن الحوت، الأولى في قوله تعالى: ﴿‌فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ﴾ (الصافات: 142)، والحوت الأزرق – وهو أكبر الحيتان حجما -ليست له أسنان، بل يلتقم غذاءه ثم يحوله كما هو إلى المعدة، فإذا علمنا أنّه يعيش في بحر العرب ترجح أنّ هذا الحوت هو الأنسب لقصّة يونس.
أمّا العبارة الثانية فهي المذكورة في قوله تعالى: ﴿إِذْ نَادَى وَهُوَ ‌مَكْظُومٌ﴾ (القلم: 48)، وهي دالّة على أنّ الحوت كَظَمَ يونسَ، أي حبَسه في مجرى النّفَس ولم يبتلعه، في انتظار الأمر الإلهي، والعبارة دالّة أيضا على أنّ الحوت كان ضائقا بيونس، وأنّ يونس كان في وضع حرِج، ويؤكّد ذلك ما حصل له من سقم: ﴿فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ ‌وَهُوَ ‌سَقِيمٌ، وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ﴾ (الصافات: 145-146) 
وبهذا يتبيّن أنّ خروج يونس من بطن الحوت حيّا لا يتوقّف على معجزة، ولقد شهدتْ كثيرٌ من الأحداث الموثَّقة على ألطاف إلهيّة نجا فيها الإنسان من موت محقّق، كما وقع للأطفال المفقودين الذين ربّتهم حيوانات، ومنها الضّواري المفترسات، أو الأطفال الذين نجوا بأعجوبة في حوادث سير مميتة، أو بعد السّقوط من شاهق، وهي وقائع لا يمكن إعادتها في تجارب مخبريّة، ولهذا فليس من العلم في شيء إنكارها باسم العلم، بل علينا الإقرار بإمكان التّماس بين العادة المطردة والاستثناء النّادر في مجريات الحياة، ولعلّ ذلك هو المشار إليه في قوله تعالى: ﴿لَهُ ‌مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ﴾ (الرعد: 11).
خاتمة
من اللاّفت للنّظر أنّ القرآن تحدّث عن يونس عليه السّلام أكثر ممّا تحدث عن قومه، وكأنّ القصدَ الأول من قصّته هو تحرير العقل من أثر السّرد الأسطوري الذي حوّل الأنبياء إلى أبطال خارقين، وكذا التّحذير من الغلوّ في طلب الكمال على طريقة المتصوّفة.
وقد سجّل القرآن من خلال هذه القصّة أيضا حالة استثناء من هلاكٍ أحاط بكلّ الأقوام الذين جاءهم رسول في مرحلة الاختلاف الأول، وهو الاختلاف الذي وقع في فطرة اللّه، لا في كتاب اللّه، وكان ذلك علامة على انتهاء مرحلة القرى، وعلى استعداد البشريّة لاستقبال مشاريع إصلاح ذات بعد عالمي.
 ومن الحقائق التي أكّدتها قصّة يونس أنّ النّبوّات بعد إبراهيم الخليل ارتبطت كلّها بدرب البخور، وإذا كانت بلاد قوم لوط مجرّد ممرّ تجاري بريّ، وكانت مَدْين سوقا مركزيّة في شبكة التّجارة العالميّة، فإنّ قوم يونس كانوا أهل مدينة تجاريّة كبيرة بفضل مينائها الذي ربط جزيرة العرب بشبه الجزيرة الهنديّة وشرق آسيا، وفي القرآن ما يؤكّد أنّ ارتباط النبوّات بطريق التّجارة قد استمر إلى زمن الختم.