التجديد الحضاري

بقلم
د. محمد المجذوب
جوهر الدعوة الى تجديد الاصول
 إنّ الاجتهاد الظّرفي الذي انتهي إليه الإمام الشّافعي في التّرتيب الهرمي لطرق الإثبات في أصول الفقه الإسلامي، القائمة على مسلّمة القول: بأنّ القرآن أوّلاً والسّنّة ثانياً، مفهوم غير دقيق من النّاحية العلميّة، أوجد إشكالات معرفيّة كبيرة في الفكر والاجتماع الإسلامي، إذ هو قد أوجد محافظة هي العقليّة الرّوائيّة لدى الفرق الإسلاميّة المختلفة السّنيّة والشّيعيّة والأباضيّة...الخ، - مهما تباينت عقائدها- وأعني بها تلك العقليّة ذات المنحى الرّوائي التي تنتهي عمليّاً إلى اعتبار أولويّة الرّواية الحديثيّة على القرآن، وكون أنّ حاجة القرآن إلى السّنّة أشدّ من حاجة السّنّة إلى القرآن، وبالتّالي فإنّ فهم القرآن الكريم خارج نطاق السّنّة مستحيل، وقد استند هذا الاتجاه كأساس لما استند إليه لتبنّي رؤيته هذه، إلى الرّواية نفسها، فوقع في نوع من الدّور المنطقي. 
فهي بذلك عقليّة روائيّة، تعترف للخطاب القرآني بالمكانة في صدر الهرم الأصولي، الذي يحتلّ فيها مركز الصّدارة، بيد أنّه يمارس بنية علميّة روائيّة مفرطة على الصّعيد العملي، في حين أنّ المقصود الصّحيح من مقولة «السّنّة» هو أنّها الاستجابة العمليّة والواقعيّة لدلالة من دلالات القرآن ثمّ لا تستقل عنه بتشريع، فمفهوم «السّنّة» يعني الاستجابة التّطبيقيّة والعمليّة والفعليّة لهدي قرآني ما، والتي واظب عليها الرّسول ﷺ ، وداوم على فعلها وتكرارها حتّى صارت طريقة له في العمل والحياة في تعامله إزاء خطاب ما من القرآن، وفهم الصّحابة من ذلك أنّهم ملزمون بمتابعته فيها.
وعندنا أنّ التّعريف الضّيق لمفهوم «السّنّة» وعلى خلاف تعريف القرآن لها بوصفها كلّ ما أُضيف إلى النّبي ﷺ من قول أو فعل أو تقرير، فإنّ ذلك أمر شاع وانتشر بعد عصر التّدوين الرّسمي للمعارف الإسلاميّة في العهد العباسي وما بعده، وجرى تداوله بعدها ولم يأخذ شكلاً مستقرّاً - حتّى بعد ذلك- حيث أطلقه المحدّثون واللّغويّون والفقهاء والأصوليّون والمؤرّخون تبعاً لاشتغالاتهم المعرفيّة على معاني حدّدوها، توسّعاً في المفهوم ليغطّي روايات «الأحاديث» الضّعيفة والمتناقضة، وأخبار الآحاد المشكوك في صدورها عن النّبي ﷺ، والتي كانت تنتشر وتتكاثر في القرون الثّلاثة الأولى وبلغت مئات الألاف.
 ثمّ تحوّل مفهوم السّنّة إلى معنى عقائدي واجتماعي وسياسي، بعد أن كان الأخذ بهذا المسمّى في البداية مقتصراً على «أهل الحديث» أو الحنابلة فقط، ولم يكن يشمل جميع المذاهب التي حملت اسم «السّنّة» فيما بعد، كالأحناف، والمعتزلة «أهل الرّأي» الذين كانوا يعتمدون على القرآن والسّنّة العمليّة المتواترة فقط، ويتحفّظون على الانفتاح الواسع على أخبار الآحاد. إذ لم يدخل هؤلاء في إطار «أهل السّنّة» إلاّ في القرن الخامس الهجري في فترة الخليفة العباسي القادر، وإلى ذلك الوقت فقد كان المقصود بـ «السّنّة» أخبار الآحاد التي كان يتداولها « أهل الحديث» والحنابلة بالدّرجة الأولى.
عندما استقر هذا التّعريف لعلاقة السّنة بالقرآن، انتهى الفقهاء إلى الاعتقاد بأنّ سنّ «السّنن» قد توقّف بانقطاع الوحي وانتقال الرّسول ﷺ إلى الرّفيق الأعلى، وعندئذٍ أخرجوا من نصوص الوحي أحكاماً اعتبروها محكمة دائماً، بحيث لا يصحُّ تشابهها مهما تبدَّلت الظّروف، وقد كانت نتيجة تلك الإشكالات أن وصل علم أصول الفقه «المصلحي» إلى حالة الأزمة المعرفيّة التي تمثّلت في عجزه عن القدرة على توظيف دلالة الكلام الإلهي المطلق في الاستجابة المتجدّدة لمتطلبات العصور اللاّحقة، ومدّها بالهداية اللاّزمة، وتوقّف الاجتهاد عند نقطة حرجة لم يعد قادراً على تجاوزها، وبدأ عصر الجمود والتّكرار والتّقليد، وبدأت اجتهادات الفقهاء وفتواهم «المصلحيّة» تحلّ محل خطاب القرآن، كما الحال عند الطّوفي والغزالي.
وبالنتيجة جمود البحث الأصولي، وتحوّله إلى نوعٍ من مختصرات معقّدة ومستغلقة للمختصرات، إلى درجة تحوّلها إلى ألغاز لا تكاد تفهم وحدها لذلك احتاجت إلى الشّروح، واحتاج الشّرح إلى حاشية، كحاشية ابن عابدين. لنصل إلى حالة ووضعيّة الأزمة التي تظهر تراجع الحقيقة القرآنيّة عن الواعيّة العلميّة والفقهيّة والدّعويّة، بل وحتّى الإصلاحيّة.