نحو أفق جديد

بقلم
أ.د.عبدالجبار الرفاعي
الفهمُ ضربٌ من تحقّق الموجود
 أبديّةُ الكتب المقدّسة لا يحقّقها في مختلف الأزمان إلاّ تعدّدُ قراءتها وتنوّعُ فهمها. تفسيرُ النّصوص الدّينيّة لا يمكنه أن يواصلَ الحضورَ إن لم يتأسّس على تعدّد الفهم وتنوّعه، تبعًا لتعدّد وتنوع الأحوال والأزمان، لذلك تتوقّف المعرفةُ عندما تكفُّ عن الاستمرار في توالد الفهم وتعدّد المعنى وتنوّعه. رفضُ التّعدّد والتّنوع في الفهم يعني أنّ الواقعَ يلبثُ ساكنًا، والقرآنَ يظلُّ صامتًا، لا يبوحُ برؤية يتكشّف فيها المعنى الذي يستجيبُ لما تفرضه حياةُ الإنسان وأنماطُ عيشه المتغيّرة. كأنّ الإنسانَ مكثَ منذ لحظة وجوده في الأرض كما هو؛ لا يتحرّك، لا يتحوّل، لا يتغيّر، لا يتطوّر. واقعُ حياة الإنسان في الأرض يكذِّب ذلك. الإنسانُ يختلفُ عن الحيوان، الحيوانُ يستمرُ كما هو في حياته مهما كان عمره، لا يخرجُ على ما فعله نوعُه بأيّ شيء. كلُّ نسخة من ذلك النّوع مطابقةٌ لأوّل نسخة منه بكلِّ شيء، لا يتغيّرُ سلوكه، حتّى لو مضت آلافُ السّنين ولبثَ حتّى نهاية الحياة في الأرض. طبائعُ النّمل مثلًا وسلوكُه في: تأمينِ قوته، وحمايةِ نفسه، وحفرِ ملاذاته، كانت ومازالت وتبقى كما هي، منذ وجدت أوّل نملة في الأرض.
في الدّين الحقيقةُ واحدةٌ في ذاتها، إلاّ أنّها نسبيّةٌ في معرفتها. نسبيّةٌ بمعنى تنوّعِ وجوهها، وتتعدّدِ الطّرقُ إليها، ويختلفُ تصوّرُها باختلاف الطّرق الموصلة إليها. يحتكرها مَنْ يقول بأنّ الطّريقَ إليها واحدٌ لا يقبلُ التّعدّد، عندما يرى كلَّ طريق آخر، خارج ما يؤمن به، لا يوصلُ إليها. يعودُ هذا الموقفُ إلى فهمٍ لا يقبل التّنوعَ في إدراك صور اللّه. التّصوّرُ المتعدّد لإدراك الحقيقة الدّينيّة ينشأ من القولِ بتنوع إدراك صور اللّه، وعدمِ احتكار طرق الوصول إليه بطريق واحد. يرى هذا القولُ الأديانَ طرقًا تتكشّف فيها تجليّاتٌ متنوّعة للحقيقة الدّينيّة، يقرأ فيها كلُّ دينٍ تعبيراتٍ متنوّعة لوجوه هذه الحقيقة، ويتّخذ أساليبَه الخاصّة للتّعبير عنها. على أساس هذا الفهم يمكن القولُ بتنوّع طرق الوصول إلى اللّه. هذا هو معنى الاعتراف بحقّ الاختلاف في المعتقد، الذي هو أساسُ قبول التعدّديّة الدّينيّة والعيش المشترك.
تفسيرُ القرآن وكلّ الكتب المقدّسة في الأديان، أفهمه فلسفيًّا بوصفه تحقّقًا أنطولوجيًّا لذاتٍ تمارس الفهم. الفهمُ ضربٌ من ظهور الموجود وانكشافه، إنّه تحقّقٌ للذّات بطور وجوديّ جديد. تكرارُ الفهم ذاته في كلّ زمان تعبيرٌ عن تكرارِ الموجود لذاته، وتعطّلِ حركته الجوهريّة وصيرورته الوجوديّة. وهذا يعني توقفَ توالد المعرفة ونموّها، بعد أن يكفَّ الفهمُ عن التّعدّد والتّنوع. تكرارُ فهمٍ واحد لآيات الكتاب الكريم في كلِّ زمانٍ ينتهي إلى تكرار المعرفة. تكرارُ المعرفة يعني توقّفَها، وتوقّفُها يعني غيابَ آيات الكتاب عن مواكبة الواقع المتغيّر، وجفافَ منابع إلهام المعنى الدّيني الذي تتطلّبه الحياةُ في مختلف الأزمان والأحوال والوقائع.
أبديةُ معاني القرآن وعبورُها الزّمان والمكان قائمةٌ على تعدّد قراءتها وتنوّع فهمها، وتعدّد المعنى الذي يتلقّاه القارئ لها، بالانطلاق من تساؤلات الذّات الواعية لمناهج الفهم والقراءة. لا ديمومةَ لفهمٍ يدّعي الفهمَ النّهائي والأبدي للقرآن.
مفهومُ الذّات يتوفّرُ على إمكانٍ وجوديّ، يوفِّر هذا الإمكانُ الفهمَ، وعمليّاتِه المختلفة: التّفكير، التّساؤل، مكوّنات التّساؤل، الأفهام العلميّة السّابقة لهذا الفهم، شبكة العلاقات بين مكوّنات الفهم، بنية الفهم، منطق الفهم، وغيرها. يبدأ الفهمُ بفهمنا لذواتنا، الذّاتُ بوصفها مرآة تنكشف فيها لنفسها. هذا النّحو من الانكشاف للذّات هو وجودها بطورٍ جديدٍ في كلِّ عمليّة فهمٍ، وتحقّقها داخلَ عمليّة الفهم الذي تنتجه وجوديًّا، أي إنّ الذّات تشتبك وجوديًّا مع النّصّ حالةَ الفهم. الفهمُ يشاكلُ الذّات، الفهمُ ضربٌ من تحقّقِها بوجودٍ جديد. هذه هي تجربةُ الفهم بما هي صيرورةٌ وجوديّة يعيشها قارئُ النّصّ الحاذق.
كلُّ ذات في الوقت الذي تكتشفُ فيه النصَّ تتكشّفُ هي أيضًا فيه، لذلك تتغيّر انطلاقًا من الفهم الجديد الذي تنتجه هي. نرى هنا معادلةً أطرافها ثلاثة: «الذّات – الفهم – التّغيّر».
تبتني صيرورةُ الفهم على منظارين عميقين أنطولوجيًّا:
1. اختلاف الذّوات.
2. اختلاف المنظورات.
ما تقدّمَ ملخّص شديد لرؤيتي لتنوّعِ فهم القرآن الكريم وتفسيره، ومواكبةِ المعنى الدّيني فيه لتنوّع وتعدّد العصور. ومن دون ذلك لا يمكننا القولُ باستمرار القرآن لإنتاج معنىً روحيّ وأخلاقيّ وجماليّ للحياة، تبعًا لاختلاف الأحوال والأزمان والواقع. وهي رؤية تتكشّف فيها الإمكاناتُ المعرفيّة والإبستيمولوجيّة لكلّ القرّاء، لبناء فهمهم المتجدّد لآيات القرآن، وهكذا غيره من الكتب المقدّسة في الأزمنة المتوالية.
يستمدّ كلُّ إنسان فهمَه من ذاتِه ووجوده الخاصّ، وأحكامِه السّابقة، وأفقِ انتظاره. يتلوّن الفهمُ على الدّوام بفضاء الذّات وخبراتها. لا يُفهم الإيمانُ إلاّ في فضاء الإيمان، ولا تُفهم الحياةُ الرّوحيّة إلاّ في فضاء الحياة الرّوحيّة، فما لم يتحقّق الإنسانُ بهذه الحياة ليس بوسعه تقديمُ فهمٍ لها. مثلما لا يفهم طبيعة الحُبّ إلاّ من يتذوق الحُبّ، ولا يفهم البهجةَ إلّا من تشرق نفسُه ابتهاجًا بالنور، ولا يفهم القلقَ إلاّ من يمزّقه القلق. تفشلُ الكلمةُ في الإخبار عن ذاتها، فكيف تُخبِر عن تجربة الرّوح. يستمدّ العشّاقُ أشواقَ الرّوح من الحقّ، تضيء قلوبَهم أنوارُ الحقّ، تمتلئ أرواحُهم بوجود الحقّ، يغيبون في حضرته، يحضرون في غيبته، تصير غيبتُهم عن رؤيته رؤيةً، ورؤيتُهم غيبتَه غيبةً. كلُّ محبوب سواه هو، وكلّ ما تحسبه العينُ ليس هو، ببصيرة أنواره يراه القلبُ هو، وإن تمثّلَ بوجودٍ سواه. يرتوي ظمأ العشّاق، فيفيضون على سواهم، حيث يخطّ الحقُّ الأسرارَ على قلوبهم، تتحوّلُ عناصرُ وجودهم إلى صفات الحقّ، لتكونَ بها هي. يفتقر سواهم لكلِّ ذلك، فيغرقون في الوهم، ويتهافتون على كلِّ ما هو زائف، بغيةَ إرواء ظمئهم الأنطولوجي، الذي لن يرويه الغيرُ أبدًا.
مَنْ يعيشُ حالاتِ الرّوح النّورانيّة وإشراقاتِها البهيجة يجدُ العباراتِ تختنقُ في التّعبير عن الحالات. الكلمةُ لا تبوحُ بمضمونها، فكيف تشي بحالاتِ الرّوح وتساميها. يتسامى أحيانًا بعضُ أصحاب التّجارب الرّوحيّة إلى حالاتِ نورٍ بهيج في باطنهم، بنحو يتلمّسون فيه، أنّه كلّما أمعن يقينُهم في أن يكونَ يقينًا، رأوا ببصيرتهم أنّ ما يحدثُ لهم هو الارتواءُ من حوض النّور الذي لا ينضب. كأنّهم اغتسلوا بالنّور، وأبصروا بالنّور، وعشقوا بالنّور، بل صاروا نورًا، تلك هي رحلةُ العاشق إلى الحقّ. هكذا يتذوّقون مراحلَ نموّ صيرورتهم وتخلّقهم، تبتسم لهم حنايا الكون كلّما تأمّلوها. يشعرهم وجودُ الحقّ بفرحة قدومهم للارتواء من النّور، تدلّهم بصيرتُهم على البؤرِ المضيئة في الإنسان، وتجلياتِ جمال الوجود. يرون الظّلام، لكنّهم قادرون على أن يشيحوا عنه نظرَهم. ذلك النّورُ هو منجمُ الصّبر والصّمت، وهو منبعُ السّلامِ في أرواحهم والطّمأنينةِ في قلوبهم. يرون الوجودَ مشرقًا بهيجًا، تترسّخُ أُلفتُهم له وتذوقُهم لتجلياته كلّما اتسعت بصيرتُهم. تداوي تجلياتُه أحزانَهم، وتخفّف وحشتَهم وغربتَهم في الأزمات والصّراعات والحروب والأوبئة.