الأولى

بقلم
فيصل العش
في حتمية الإصلاح الثّقافي (6)... الحرية الموؤودة
 (1)
تغيير واقع الإنحطاط الذي تعيشه أمّتنا أمر في غاية الصّعوبة والتّعقيد، والخروج من نفق التّخلّف لا يمكن أن يحصل إلاّ عبر إحداث إصلاح ثقافي يهدف إلى تغيير جذريّ في ثقافة مجتمعاتنا حتّى تتحرّر من العوامل المكبّلة لعمليّة نهوضها. وعمليّة الإصلاح الثّقافي المرغوب فيها ليست عمليّة يتمّ إنجازها في مخبر معزول عن العالم وليست ملفا تتمّ دراسته نظريّا والبحث فيه في غرف مغلقة، وإنّما هي فعلُ تفكيرٍ وتنفيذٍ داخل المجتمع نفسه بتركيباته المعقّدة، في واقع يتأثّر بما حوله باستمرار. ولهذا فإنّها تتطلّب إلماما بمختلف المؤثّرات السّلبيّة والإيجابيّة الممكنة، حدّدناها في مقالات سابقة (1) في أربعة عناصر(2)، كما تتطلّب عمليّة الإصلاح هذه العمل عبر  مراحل أساسيّة ثلاث(3) واعتماد وسائل ذات فعاليّة وتأثير(4). أمّا محاور هذا الإصلاح  فهي عديدة، لكنّ أهمّها سبعة (5) تبنى من خلالها أسس العمليّة الإصلاحيّة ويحدّد مضمونها، ولا يمكن بحال من الأحوال تغييب أحدها، حتّى نضمن بناء ثقافيّا صلبا وناجحا قادرا على تغيير المجتمع ودفعه نحو التقدّم والازدهار، وقد كنّا ذكرناها سابقا باقتضاب(6)، وسنحاول في هذه السّلسة من المقالات معالجتها محورا محورا، وأوّلها «الحرّية».
(2)
إنّ من يراجع تاريخ نهضة الأمم والشّعوب يكتشف أنّ وراءها إيمانًا بفكرةٍ ورغبةً في تحقيقها. هذا الإيمان وهذه الرّغبة لا يجتمعان إلاّ في إنسان متشبّع بالحريّة. فالحرّية هي القاسم المشترك بين أغلب الأمم التي تمكّنت من بناء نهضتها، لأنّ الحرّية على المستوى الفردي والجماعي هي أساس قويّ وحيويّ للعمل والإبداع، فالقدرة على العطاء تتناسب طرديّا مع وعيّ الإنسان وشعوره بحرّيته، فكلّما كان الإنسان حرّا كانت قدرته على التّفكير في التّغيير ومن ثمّ الإبداع والابتكار والرّغبة في تحسين العمل والأخذ بزمام المبادرة أكبر. أمّا الإنسان المسلوبة حرّيته فهو عاجز حتّى عن تسيير أموره الشّخصيّة، فما بالك بالمساهمة ضمن المجتمع في عمليّات التّغيير. ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَىٰ مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ  وَهُوَ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ (النحل:76)
ما فعله الرّسول ﷺ وواصل تحقيقه أبو بكر وعمر من بعده في زمن قياسي، لدليل قاطع بأنّ «الحرّية» كانت أهمّ الأسس والقيم التي قام عليها المجتمع المسلم. فقد أسّس الرّسول ﷺ دولة انطلقت من المدينة ببضعة أعشار من المهاجرين والأنصار لتتمدّد طولا وعرضا، مهيمنة على امبراطوريتين كبيرتين كانتا تتقاسمان العالم وهما الفرس والرّوم. ما كان ذلك ليحصل لولا شخصيّة «المسلم» التي بُنيت في رحاب القرآن الكريم على أساس الحرّية والإرادة بعد أن خضعت إلى ثورة معرفيّة شاملة شعارها «لا اله إلاّ الله» تحت إشراف النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ الذي أرسله اللّه لـ ﴿يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾ (الاعراف:157). ثورة وضعت الأغلال عن النّاس أي حرّرتهم من كلّ القيود، فكانت الحرّية شرطا للإيمان ﴿فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾(الكهف:29) و﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾(البقرة:256) و«فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ، لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ﴾ (الغاشية:20-21)، وكانت أيضا شرطا لتجسيد خلافته على الأرض لأنّ هذا التّجسيد يقتضي أن يكون الإنسان مسؤولا ولا يمكن أن يكون مسؤولا إلاّ إذا كان حرّا في إرادته ﴿وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾(الاعراف:129)، فالخلافة لا تتحقّق إلاّ بذات فاعلة حرّة موجّهة لحركة التأريخ. والإنسان الحرّ هو الوحيد القادر على التّغيير ﴿إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِرُ مَا بِقَوم حَتَّى يُغَيِرُوا مَا بِأَنفُسِهِم﴾(الرعد:11). وكانت الحرّية شرطا في تحقيق التّعايش على قاعدة السّلم ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً﴾(البقرة:208)وتجسيدَ مبدإ التّعارف مع الآخر، المختلف في العقيدة ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾(الحجرات:13) فكانت حرّية العقيدة هي أساس الدّعوة المحمّدية ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾(الكافرون:6). 
فمالذي حدث لأمّة المسلمين؟ وكيف نفسّر التخلّف والانحطاط الذي هيمن عليها منذ قرون؟ لماذا غابت الحرّية من الفضاء الجغرافي الإسلامي وانعدمت؟ وكيف يمكن أن نقود عمليّة إصلاح ثقافي من خلال الدّين ونرفع شعار «الحرّية» في مجتمعات مسلمة من المفروض أن تكون الحرّية إحدى ميزاتها وقيمة أساسيّة في بنائها ومحرّكا أساسيّا لها ؟ 
(3)
مع تحوّل الحكم من خلافة على منهاج النّبوة إلى ملكٍ عضوض بداية من العهد الأموي تعرّضت «الحرّية» للمصادرة، ثم تكرّست تلك المصادرة مع الدّولة العباسيّة التي بنت دعوتها بغطاء ديني(7)، تحوّل بمرور الوقت وبتزكية من فقهاء السّلطان وتأويلاتهم(8)  إلى واقع ثابت توسّعت فيه دائرة المقدّس ليتمّ خنق «الحريّة» من طرف سلطتين واحدة سياسيّة مستبدّة والثّانية روحيّة من أهمّ أدواتها «مصنفات العقائد التي هي منظومات دَجْمًا (*) تأويليّة للقرآن والسّنة تريد أن توثّن أحد الفهوم على أنّه حقيقتها المطلقة حتّى باتت بديلا عن القرآن والسّنة»(9) ومن ثمّ ضاعت «الحرّية» واختفت بين طيّات مدوّنات تراثيّة امتلأت بنصوص تحثّ على طاعة الاستبداد والاستسلام له بتعلّة اتقاء الفتنة، وتأويلات مغلوطة للقرآن تحوّلت بمرور الزّمن إلى نصوص مقدّسة، تمّ تسويقها كصورة رسميّة للإسلام، فكان غلق باب الاجتهاد والقتل باسم الدّين واتّهام المجتهدين بالردّة والكفر والزّندقة، واختلاق مفهوم سدّ باب الذّرائع للتّضييق على النّاس انطلاقا من العبادات ليشمل بقيّة المجالات. 
هذه الصّورة التي لا تؤمن بالحرّية ولا توليها أهمّية تذكر، ترسّخت فى الأذهان مع انحطاط الأمّة الاسلاميّة وتآكلها وتداعي بقيّة الأمم عليها وهي اليوم أكثر تأكّدا مع بروز الحركات المتطرّفة من جهة وتحالف المؤسّسات الدّينية التقليديّة وعدد لا يستهان به من العلماء مع أصحاب السّلطتين السّياسيّة والاقتصاديّة من جهة أخرى عبر استثمار مفهوم مغشوش للمقدّس من أجل ضمان خضوع الشّعوب سياسيّا واستغلالها اقتصاديّا استغلالا فاحشا(10). وبالرّغم من المحاولات العديدة خلال العقود الأخيرة لبعض المصلحين وبعض المفكّرين المنتمين إلى ما  يسمّى بالاسلام المعتدل، لطرح قضيّة الحرّية في الإسلام ومحاولة إبراز  أهمّيتها وإيجاد مخارج توفيقيّة بين الحرّية كما تطرح في عصرنا والمصادر الدّينيّة التي يلتزمون بها، بقيت مسألة الحرّية تراوح مكانها وتتّسم بالضّبابيّة وعدم الوضوح نتيجة تعدّد التّأولات للنّصوص الدّينيّة وتوسيع دائرة المقدّس التي حصلت عبر التّاريخ.
(4)
يمكن أن نخلص إذن إلى أنّ الفكر الدّيني التّقليدي الذي ازداد تكلّسا مع مرور الزمن والذي تلاعب به السّاسة وأصحاب النّفوذ لم ينجح في تقديم موقف واضح من مسألة «الحرّية» ولم يجب على سؤال  وضع الحرّية ضمن مرجعيّة الشّريعة الإسلاميّة أو في ظلّ تطبيق قوانين الشّريعة التي لا يحقّ للمسلم تجاوزها ولا يحقّ له اقتراح تشريعات مغايرة لها. كما لم يقدّم هذا الفكر موقفا واضحا في مسائل كالردّة وحقّ التّعبير والحرّية الفكريّة. ولم يستطع وضع حدّ للالتباس التّاريخي والثّقافي المتعلّق بوضع مسألة الحريّة في سياق علاقة اللّه بالوجود وإدارته له وإرادته ومشيئته في مقابل إرادة الإنسان.
وبعد فشل التّيار الوضعي بشقيه الفردي اللّيبرالي والطّبقي الاشتراكي في تمكين الإنسان المسلم من حرّيته وحقوقه(11) بعد تجربته في المجتمعات العربيّة والإسلاميّة باستيراد أفكاره ومشاريعه وفرضها على هذه المجتمعات، من خلال الاستعمار المباشر ثمّ الدّولة الوطنيّة ثمّ العولمة، ممّا أدّى إلى مزيد من تعقيد حالة هذه المجتمعات وضياع الإنسان فيها، وجب علينا كمسلمين - إذا ما فكّرنا في عمليّة إصلاح حقيقيّة - أن نبحث عن طريق آخر بعيدا عن طريق الفكر الوضعي الغربي وعن طريق الفكر الإسلامي التّقليدي يستطيع أن ينتج إنسانا حرّا قادرا على الفعل والإبداع وليس عبدا ذليلا تابعا. 
الحلّ يكمن في العودة إلى المنبع الأصلي وهو القرآن الكريم باعتباره الكتاب الخالد والمهيمن على الفكر البشري كلّه، فقراءة القرآن قراءة منهجيّة غير محكومة بما جاء به المفسرون وبعيدة عن دغمائية المقلّدين، يمكن أن تقدّم البديل وتزيل كلّ الإشكالات، ولكن كيف؟ 
هذا ما سنحاول تقديمه للقارئ الكريم غي الحلقة القادمة إن شاء اللّه. 
الهوامش
(1) أنظر مقالنا «في إلزاميّة الإصلاح الثّّقافي...أي إصلاح في ظلّ عولمة طاغية وثورة رقميّة هائلة؟»مجلة الإصلاح، العدد 183، اكتوبر 2022 ومقالنا «القوى المضادّة للتّّغيير ودورها في عرقلة الإصلاح الثّقافي» مجلة الإصلاح، العدد 184، نوفمبر 2022 ومقالنا «التّراث دافع للإصلاح وموجّه له» مجلة الإصلاح، العدد 185، ديسمبر 2022
(2) العولمة والغزو الثّقافي، هيمنة التّكنولوجيّات الحديثة والوسائط الرّقميّة، القوى المضادّة للتّغيير والمخزون الثّقافي للمجتمع (التراث). (3) انظر مقالنا «مراحل العمليّة الإصلاحية ومحاورها الرّئيسيّة» مجلة الإصلاح، العدد 187، فيفري 2023
(4) أنظر مقالنا «أي وسائل للإصلاح؟» مجلة الإصلاح، العدد 188، مارس 2023
(5) محاور الإصلاح السّبعة: الحريّة،الأخلاق، قيم العمل والاجتهاد، المواطنة والمساواة، العدل الاجتماعي ومحاربة الفساد، التنوّع والاختلاف وقبول الآخر و ثقافة العلم والتفكير العلمي
(6) أنظر مقالنا «مراحل العمليّة الإصلاحيّة ومحاورها الرّئيسيّة» مجلة الإصلاح، العدد 187، فيفري 2023
(7) تعتبر مدرسة عبد اللّه بن عباس الحركيّة والشّرعيّة هي المرجعيّة للدّعوة العبّاسيّة، وفي ذلك يقول الفخري صاحب الآداب السّلطانيّة: « واعلم أنّ هذه الدّولة من كبريات الدّول ساست العالم سياسة ممزوجة بالدّين والملك، فكان أخيار النّاس وصلحاؤها يطيعونها تديّنا، والباقون يطيعونها رهبة أو رغبة»(الفخري في الآداب السّلطانيّة والدّول الإسلاميّة، تأليف محمد بن علي بن طبطابا المعروف بابن الطقطقي، طبعة 1858م، ص.164) 
(8) منهم من أنكر وجود «الحرّية» في الإسلام أصلًا وحجبه عن الإسلام بقوله «لا حرية في الإسلام» زاعمين أنّه دين عبودية وخضوع للّه عزّ وجلّ، ومنهم من ضيّق واسعا فحصروا الحرّية في مصطلح يقابل مصطلح الرّق والعبوديّة، وقد أسهبوا في استحضار أدلّة الشّريعة في محاربتها للرّق وإعتاق العبيد متناسين عن جهل أو عن قصد مناقشة «الحرّية» كجوهرة قيميّة وإنسانيّة.
(*) دَجَمَ، يَدْجُمُ، مصدر دَجْمٌ ودُجْمةٌ، دَجَمَ اللَّيْلُ : دَجَنَ، أَظْلَمَ، الدَّجْم : الضَّربُ والنَّوعُ (معجم المعاني الجامع)
(9) أبو يعرب المرزوقي، حرية الضمير والمعتقد في القرآن والسنة -سلسلة الكوثرالدار المتوسطية للنشر ط.1 - 2009 - ص242-
(10) عادة ما يرتكز المستبد على حاشيته من علماء الدّين لإيجاد غطاء شرعي لما يقترفه من جرائم في حقّ معارضيه أو لتمرير قوانين تخدم مصالحه ومصالح ملئه من رجال أعمال وتجار ولا تخدم مصالح الشّعب.
(11) هذا الفشل يشمل أيضا الإنسان الأوروبي الذي أصبح يعيش أزمات متعدّدة أهمّها الأزمة الرّوحيّة والأخلاقيّة، ويحيا حريّة مشوّهة ومزوّرة. يقول الفيلسوف والعضو السّابق في البرلمان الإيطالي عن الحزب الديمقراطي، يوجينيو ماتسريلا، مؤلف كتاب «مصنع الاستغلال» و«فقدان الهويّة الجنسيّة»: «يبدو أن أوروبا اليوم تسعى إلى إنكار كل قيمها، حيث تتهافت على كلّ ما هو مادي ممّا أدّى إلى طمس هويّة الإنسان، وتجريده من كلّ القيم المتينة مثل الأسرة والدّين والعلاقات الاجتماعيّة، أدى ذلك إلى إلى ظهور ما يعرف بـ «المستهلك المثالي»، وهو الإنسان الذي يعيش من أجل الشّراء فقط. من ناحية أخرى، أدّت النّزعة الفرديّة وغياب التّعاليم الثّقافيّة والرّوحيّة إلى إضعاف ثقافة المواطن الأوروبي وجعلها هشّة أمام تأثير الأيدولوجيّات الأخرى، حتّى أصبح كورقة شجر في مهب الرّيح». أنّ «الغرب أصبح ميّتا إكلينيكيا بالفعل، بعد أن فقد هويته الرّوحية والثّقافيّة، تحت تأثير أزمة غير مسبوقة، أدخلته في نفق لا يمكن العودة منه، إذا لم يغير الغرب مفاهيمه قريبا» أنظر:  https://sputnikarabic.ae/20180406/1031371694.html