في العمق

بقلم
أ.د.عماد الدين خليل
مدخل إلى بناء الكون في المنظور القرآني (الحلقة الرابعة)
 بين العلم والدين
مهما يكن من أمر فإنّ القرآن الكريم وهو يستعرض معطيات الشّبكة الكونيّة، يمارس تحدّيه للخلائق بقدرته المطلقة على خلق الكون العظيم هذا ... ولا أظنّ أنّ أحداً من عباده بقادر على أن يردّ على تحدّيه هذا، خاصّةً عبر القرن ونصف القرن الأخير حيث وجد كبار علماء الرّياضيّات والفيزياء والكوزمولوجي وفلاسفة العلم، أنفسهم يفيئون إلى حظيرة الإيمان، وحيث يعود العلم بعد رحلة الشّكّ والضّلال لكي يلتقي بالدّين ويتصالح معه ...
إنّ الإنسان المعاصر اليوم بأمسّ الحاجة إلى يقين ديني يعيد إليه وحدته الضّائعة، وسعادته المفقودة، وأمنه المسلوب ... وما دامت القناعة المبنيّة على (الحقائق العلميّة) هي اليوم من أكثر القناعات فاعليّةً للتّحقق بهذا اليقين، وما دام كتاب اللّه يمنحنا هذا القدر الكبير المعجز من هذه الحقائق التي راحت تتكشّف عقداً بعد عقد، وقرناً بعد قرن، فلماذا لا نتحرّك على ضوء هذه المعادلة المؤكّدة لإنقاذ الإنسان المعاصر من ورطته بفقدان اليقين؟!
إنّ العلم الحديث لم يعد يرفض الحقيقة الدّينيّة أو يشكّك فيها، كما حدث في القرون السّابقة، وهو يعترف بأنّه ليست له الكلمة النّهائيّة في موضوع هو أكبر من حجمه بكثير. ثمّ يعود لكي يؤكّد –بامكاناته المحدودة- أنّ الحياة البشريّة لا تستحقّ أن تعاش إذا نحن جرّدناها من بعدها الكبير الذي يتجاوز حدود المادّة والحركة ... يعود العلم لكي يتعانق مع الدّين ويتوظّف لديه ... ذلك هو الانقلاب الكبير الذي شهدته فلسفة العلم المتمخّضة عن الكشوف الأخيرة في مجال البحث العلمي، وبخاصّة الطّبيعة والذّرّة وطريقة عمل الدّماغ البشري.
إنّنا نجد عدداً من رجال العلم البارزين يصرّون بمنتهى الحماس على حقيقة مؤدّاها أنّ العلم لا يقدّم لنا سوى معرفة جزئيّة عن الحقيقة، وبالمقابل فإنّ الأجزاء الأخرى من الحقيقة، الأجزاء الأشمل والأوسع والأعمق، تند بالضّرورة عن قدرة العلم على الإحاطة. وهنا تبدو القيمة الحقيقيّة للدّين ... وأنّ الذين يقولون هذا ليسوا أناساً عاديّين ولا فلاسفة ولا أدباء ... إنّما رجال علم بارزون وهم يقولونه (بمنتهى الحماسة) وهي عبارة تحمل دلالتها ولا ريب.
بعد رحلة طويلة وشاقّة في التّاريخ، يعود العلم، بعد أن نما وشبّ عن الطّوق، لكي يلتقي بالدّين، واستبعدت الفكرة التي ترفض قبول كلّ ما لا يخضع للفحص والتّحليل، لأنّ الأجسام الفيزيائيّة نفسها أبت أن تخضع للفحص والتّحليل، ولم تسلّم نفسها لكي نعرّيها ثوباً ثوباً. كلّ ما قدّمته لنا، كما رأينا هو ملامحها الخارجيّة أمّا في الباطن، على مستوى الحقائق النّهائيّة للتّركيب والماهية، فلا جواب. وإذا كان ذلك كذلك، إذا كنّا نحكم على الأجسام من خلال تأثيرها ومؤشّراتها، فإنّ هنالك في حياتنا البشريّة ظواهر لا يحصيها العدّ تؤثّر في صميم هذه الحياة، وتمدّ مؤشّراتها إلى كافّة الاتجاهات، كالدّين والجمال والأخلاق ... الخ ومن ثمّ فإنّ نكرانها لمجرّد أنّنا لم نعرف عن ماهيتها شيئا، لم نعرف سوى تأثيراتها، يقودنا بالضّرورة إلى إلغاء العلم نفسه، لأنّه لم يمنحنا سوى الكشف عن التّأثيرات والمؤشّرات، أمّا الماهيات فلا جواب. ومن ثمّ كان لذلك الكشف الخطير على مستوى العلم الذي بلور «أدينغتون» ملامحه النّهائيّة تأثير ايجابي عام على مستوى الحياة البشريّة ... إنّها إرادة اللّه سبحانه وتعالى التي ركّزت الإيمان به وحده في فطرة بني آدم، تعود بهم ثانيةً إلى ساحة الإيمان ... تعود بهم من ألف طريق ... وها هو ذا حشد كبير من العلماء يرجعون إلى اللّه والرّوح والجمال والحقّ والخير كحقائق موضوعيّة مستقلّة عن ذواتنا، يرجعون من خلال منهج علمهم نفسه!!
إنّ نظرات المتصوّفة لا تهمل، كما يقول «السير آرثر ادينغتون» في ختام كتابه عن كيان الدّنيا الطّبيعيّة، وأنّ ملكات الإنسان التي يمازجها الشّعور الدّيني هي من وقائع الكون، إذا كان الإنسان قد استبقاها بفعل الانتخاب الطّبيعي. وفي ختام كتابه (فلسفة العلم الطّبيعي) يقول: «نحن في العلم ندرك أنّ المعرفة ليست بالأمر الوحيد الذي نعتدّ به، ونسمح لأنفسنا أن نتحدّث عن روح العلم ... وأن أعمّق من كلّ قضيّة من قضايا النّكران لهي العقيدة التي هي قوّة خالقة أهمّ ممّا تخلقه ... وفي عصر العقل تظلّ العقيدة راجحةً لأنّ العقل بعض مادّة العقيدة ...» (1).
يقول «شرودنجر» في ختام رسالته «ماهية الحياة»: «أودّ أن أوضّح في هذا الفصل الأخير بالإيجاز أنّ كلّ ما علمناه من بناء المادّة الحيّة يوجب علينا أن نكون على استعداد لأن نراها عاملةً على مثال لا يمكن إخضاعه لقوانين الطّبيعة العادية، وليس ذلك على اعتبار أنّ التّركيب هنا يخالف كلّ تركيب درسناه في معامل العلوم الطّبيعيّة. ويختم «شرودنجر» رسالته بالتّساؤل عن الشّخصيّة والرّوح، فقرّر أنّ (الوعي) ظاهرة مفردة لا تقبل الجمع، لأنّ كلّ ما يمكن الجزم به هو أنّ الشّخصيّة لا تتكرّر، وأنّها قوام مستقل عن كلّ قوام»(2).
ويقول «ليكونت دي نوي»: «أنّ الإنسان الأمين الذي تنطوي نفسه على الشّوق العلمي لا يلزمه أن يتصوّر اللّه سبحانه وتعالى إلاّ كما يلزم العالم الطّبيعي أن يتصوّر الكهرب، فإنّ التصوّر في كلتا الحالتين ناقص وباطل. وليس الكهرب قابلا للتّصور في كيانه المادّي، وأنّه مع هذا لأثبت في آثاره من قطعة الخشب»(3).
وكان «رسل والاس» في شيخوخته يعتقد أنّ الكون هو مظهر للكون الرّوحاني، وأنّ في الكون الرّوحاني أنماطاً من العوامل الفعّالة من القوى العليا إلى الأرواح الكامنة في الخلايا الحيّة، وربّما تعذّر إثبات هذه التّقديرات بالبرهان القاطع، ولكنّها فيما نراه أصلح لتوضيح الوقائع من أيّ تقدير يأخذ به المادّيون(4).
ويعوّل «سير آرثر تومسكون» أستاذ التّاريخ الطّبيعي بجامعة ابردين، كثيراً على تخفّف الكثافة المادّية واقترابها من اللاّموزونات أي المعاني التي لا توزن كالفكر والعاطفة والعناية ... ويقول:«إنّنا في زمن شقّت فيه الأرض الصّلبة، وفقد فيه الأثير كيانه المادّي، فهو أقلّ الأزمنة صلاحاً للغو في التّأويلات المادّيّة» ... وفي جوابه للسائلين عن عقيدته في «مجموعة العمل والدّين» يقول: « ... إذا كان العلم صيغاً وصفيّةً، وكان الدّين في جانبه العقلي تفسيراً علويّاً أو خفيّاً، فلا موجب للتّعارض الحاسم بينهما»(5).
إنّ من القول الجزاف اليوم –يستخلص العقّاد- أن يقال: أنّ محسوسات المادّة هي وحدها الوجود الحقيقي وأنّ المتكلّمين عن أصول المادّة يأتون بشيء أثبت من الكلام عن الأرواح والمجرّدات!(6).
أمّا «سوليفان» فيخلص إلى القول بأنّنا «بحثنا حتّى الآن في حدود العلم باعتباره أسلوباً لاكتساب المعرفة حول الحقيقة، وقد رأينا كيف أدّت الحساسيّة الجديدة للعلم إلى الإقرار بأنّ ادعاءاته السّابقة قد بولغ فيها كثيراً. لقد جعلت الفلسفة المبنيّة على العلم من المادّة والحركة الحقيقة الوحيدة. وبهذا العمل فقد جرى استبعاد جميع العناصر الأخرى الواقعة في مجال خبراتنا. هذه العناصر التي تحمل المغزى الأكبر والتي تجعل الحياة في النّهاية جديرةً بأن تعاش، قد جرى استبعادها على أنّها محض أوهام. لقد بدا العلم لبعض المفكّرين، وربّما لغالبيتهم، أنّه قد جعل الحياة قاتمة على الرّغم من كلّ المنافع العمليّة التي قدّمها. وهكذا فإنّنا لا نجد ما يثير الدّهشة عندما نرى أنّ النّظرة العلميّة الجديدة كما شرحها رجالٌ من أمثال ادينغتون وجينز، قد لاقت اهتماماً واسعاً. لقد كانت المعتقدات الميتافيزيقيّة التي رافقت العلوم مدعاةً لليأس والقنوط»(7).
ويختتم «سوليفان» تحليله بالقول بأنّ الفلسفة العلميّة القديمة « جعلت الإنسان نفسه حاصلاً عرضيّاً محضاً للمادّة والحركة، والتي عرضت الكون على اتساعه وعظمته على أنّه مجرّد من الغرض تماماً ... إنّ المادّة لن تكون أحسن حالاً لو افترضنا أنّ العالم الحالي يتجدّد باستمرار، إنّ دوافعنا الدّينيّة لا يمكن أن يقنعها شيء أقل من الاعتقاد بأنّ للحياة مغزى خارقاً. وهذا الاعتقاد هو بالضبط، ما جعلته الفلسفة القديمة أمراً مستحيلاً. وهكذا يمكننا أن نستنتج أنّ الأهمّية الحقيقيّة للتّغيّرات التي حصلت في العلوم الحديثة ليست في قدرتها المتزايدة على دفع عجلة تقدّم الإنسان، بل في تغيّر الأسس الميتافيزيقيّة التي تقوم عليها»(8).
ومعنى هذا –باختصار- أنّ الإلحاد والعلمانيّة، قد أصبحا –على ضوء التّقدّم العلمي- أمراً رجعيّاً!!
تحطيم جدران المادّية
وثمّة مسألة أخرى لا تقلّ خطورة: أنّ الكشوفات العلميّة الأخيرة حطّمت جدار المادّة وأطلّت وهي توغل في صميم الذّرّة على عالم الرّوح الكامن في بنية العالم وتركيب الأشياء، إنّ العلم هنا يلتقي مع الدّين مرةً أخرى.
ولقد سبق لألبرت اينشتاين أن قال: «الدّين بدون علم أعمى والعلم بدون دين كسيح»(9). فأختصر المسألة بكلماتٍ قلائل. ولقد جاءت مقولته تلك استناداً إلى اعتماد العلماء في الرّبع الأول للقرن العشرين على نظريتين اثنتين: النّسبيّة والكم، وتولّدت منهما –بالفعل- معظم فيزياء القرن العشرين «لكن بسرعة وبساطة اعتمدت الفيزياء الحديثة نظريّة ليست كالنّماذج المعتادة، وبدت أنّها أفضل بكثير للعالم المادّي، وبدأ الفيزيائيّون يدركون أنّ غالبيّة النّظريّات الأساسيّة للواقع تتطلّب إعادة صياغة جذريّة وفقاً للاكتشافات الجديدة، حيث تعلّموا إعادة النّظر في بحوثهم وفقاً لطرق لم تكن مألوفةً، ولم تكن متوقّعة من قبل، وبدا الأمر قلباً للمنطق رأساً على عقب لصالح مفاهيم أكثر قرباً إلى الرّوحانيّات منها إلى المادّيّات. وبالكاد أدرك الفلاسفة نتائج هذه الثّورة، ووجد الكثيرون من عامّة النّاس أيضاً ممّن كانوا يبحثون عن معانٍ أكثر عمقاً لوجودهم، أنّ معتقداتهم عن العالم تتناغم مع الفيزياء الحديثة على نحو أفضل، وبدوره وجد الفيزيائي أنّ أفكاره أخذت تلقى تفهّماً أكثر لدى علماء النّفس والاجتماع لدى معالجتهم لموضوعاتهم، وللمفارقة فهم الذين يدعمون بشدّة المقاربة الشّموليّة»(10).
«لطالما لمست –يقول بول دافيز- في محاضرات عامّة ألقيتها، وأحاديث كثيرة أدليت بها، حول الفيزياء الأساسيّة، شعوراً متزايداً بأنّ أساس الفيزياء أخذ يشقّ طريقه نحو تقدير جديد للإنسان ولمكانته في الكون. إنّ التّساؤلات العميقة حول الوجود: كيف بدأ الكون؟ كيف ينتهي؟ ما الحياة؟ وما العمل؟ كلّها ليست بالجديدة وإنّما الجديد حصراً هو أنّنا، أو لعلّنا، بتنا أخيراً على عتبة الإجابة عنها. ويعود تحقيق ذلك الاحتمال المثير إلى التّقدّم المذهل الذي أتيح لنا، ليس من قبل الفيزياء الحديثة فحسب، بل بفضل علم الفضاء الحديث أيضاً»(11). 
«إنّني أرى العلم يطرح مساراً مؤكّداً نحو وجود الإله ... فالحقيقة تبقى بأنّ العلم يتقدّم بالفعل إلى منطقة كانت تعدّ سابقاً قضيّة محض دينيّة، وأنّ بإمكانه معالجة المسألة بجدّية. ويشير ذلك –في حدّ ذاته- إلى اتساع نطاق الفيزياء الحديثة، وحجم نتائجها بعيدة المدى ... وليس من دافع وراء إخراج هذا الكتاب، سوى قناعتي بأنّ هناك في العالم ما هو أكثر كثيراً ممّا تراه العين»(12).
«لقد شهد الجزء الأكبر من التّاريخ الإنساني، تحوّل الرّجال والنّساء إلى الدّين، ليس من أجل التّوجيه المعنوي فحسب، وإنّما أيضاً بحثاً عن أجوبة لأسئلة أساسيّة حول الوجود، كيف خلق الكون، وكيف ينتهي؟ وما أصل الحياة والجنس البشري؟»(13).
يقول «ستيفن هيلز»(1677-1761)م: «طالما تأكّد لنا أنّ الخالق الحكيم قد وضع، في صنع كلّ شيء، النّسب الأكثر دقّةً للأعداد والوزن والقياس، وبطريقة توضّح احتمال الحصول على معرفة طبيعة تلك الأجزاء من الخلق، ولهذا يجب إخضاع كلّ ما نلاحظه إلى التّرقيم والوزن والقياس»(14).
«إنّ الإله جدير بالثّناء لخلقه قوانين الطّبيعة، وخلق الأشياء، الذّرّات، النّاس ضمن أشياء أخرى تشتغل عليها كافّة هذه القوانين. إنّ سيناريو (الوليمة المجانيّة) يزعم أنّ القوانين هي كلّ ما نحتاجه، ويمكن للكون بعدها الاعتناء بنفسه بما يشمل خلقه أيضاً»(15).
«إن وجود العقل –على سبيل المثال- كشيء مجرد وكلّي وذي نمط منظّم وقدرة تحرّريّة أيضاً، يدحض فلسفة الاختزال التي حوّلتنا جميعاً إلى لا–شيء، سوى كوم من الذّرّات المتحرّكة»(16).
الهوامش
(1)عباس محمود العقاد، عقائد المفكرين في القرن العشرين، الطبعة الثانية، د.ت، القاهرة، ص 64-65.
(2)  المرجع السابق، ص 63.
(3) المرجع السابق، ص 105.
(4) المرجع السابق، ص 109.
(5) المرجع السابق، ص 113.
(6)  المرجع السابق، ص 97.
(7) سوليفان،حدود العلم، بيروت، الدار العلمية، 1972، ص 51-52.
(8) المرجع السابق، ص 53-54.
(9) دافيز، الله والفيزياء الحديثة، مرجع سابق، ص 6.
(10) المرجع السابق، ص 7.
(11) المرجع  السابق، ص9.
(12) المرجع السابق، ص .16
(13) المرجع السابق، ص 19.
(14) المرجع السابق، ص 173.
(15) المرجع السابق، ص 254. 
(16) المرجع السابق، ص 268.