الأولى

بقلم
فيصل العش
في حتميّة الإصلاح الثّقافي (5)... أي وسائل للإصلاح؟
 لكلّ عمل وسائله، وكلّما كانت تلك الوسائل متطوّرة ومتناغمة مع موضوع العمل تكون النّتائج أفضل. فالفائدة ليست في كثرة الوسائل أو في تطوّرها بل في كيفيّة استغلالها والاستفادة منها أثناء العمل. 
لو نعود إلى مثال الشّجرة، فإنّ نجاح غراستها ونموّها وبلوغها مرحلة الإنتاج مرتبط أساسا بكيفيّة استغلال الفلاّح للوسائل المتوفّرة لديه. فقد يكون للفلاح العديد من الوسائل المتطوّرة كالمحراث الصّناعي والجرّار وآلة الرشّ ... الخ، لكنّه يفشل في حماية الشّجرة وضمان نموّها، لأنّه ربّما استعمل إحدى الوسائل بطريقة غير مناسبة، فأدّى ذلك إلى اتلاف الشّجرة. وكذلك الإصلاح الثّقافي، فليس المطلوب امتلاك عدد كبير من الوسائل وإنّما المطلوب استغلالها بالكيفيّة المناسبة لإنجاح العمل.
 وعندما نتحدّث عن وسائل الإصلاح الثّقافي فإنّنا نقصد كلّ البنى التّحتيّة والأدوات التي من خلالها نستطيع التّأثير في النّاس وتغيير ثقافتهم. هذه البنى أو الوسائل عديدة وكثيرة، من أهمّها مؤسّسات التّربية والتّعليم، والإعلام بجميع محامله، والمؤسّسات الدّينيّة، ومؤسّسات المجتمع المدني والمؤسّسات الثّقافيّة والمسرح والسّينما.
1 - مؤسّسات التّربية والتّعليم: 
يعتبر مجال التّعليم من أكثر المجالات حيويّة وتأثيرا في عمليّة الإصلاح الثّقافي، فالمنظومة التّربويّة التّعليميّة تشمل جزءا كبيرا من المجتمع قد يبلغ الثّلثين بما أنّها تهتمّ بتربية الأطفال والشّباب من الجنسين وتعليمهم، وتساهم في صقل شخصيّاتهم وتأهيلهم قصد إدماجهم في الدّورة الاجتماعيّة والاقتصاديّة للبلاد. لهذا فإنّ الإصلاح التّربوي هو أحد وجوه الإصلاح الثّقافي، وإصلاح المؤسّسات التّعليميّة من «الروضة» إلى الجامعة مرورا بالمدرسة والمعهد، طريق للتّغيير الثّقافي. وبالتّالي وجب التّفكير العميق في مشروع «للإصلاح التّربوي» يقطع مع المشاريع السّابقة الفاشلة التي اقتصرت على معالجة ما ‏هو بارز دون الغوص في الجذور وملامسة عمق المأزق، واكتفت بترميم القديم، والبحث عن المسكّنات دون النّفاذ إلى المشاكل الحقيقيّة. تلك المشاريع التي تميّزت بخلفيتها التّوظيفيّة وتبنّي سياسة تربويّة تعتمد تعليما تلقينيّا منغلقا، انحصرت مهمّتها في شحن التّلاميذ بالمعلومات والمضامين النّظرية كما تشحن بطاقات الهاتف الجوّال، سرعان ما يُستهلك الشّحن وتصبح بلا فائدة، ممّا أدّى إلى تصحّر معرفي وتدهور للمستوى التّعليمي من جهة، وتسليع التّربية وتشييئها من جهة أخرى بمعنى تحويلها إلى سلعة تباع وتشترى، الأمر الذي أدّى إلى تشييء الإنسان، وإفراغ ثقافته من عالم الأفكار وملئها بعالم الأشياء، ممّا تسبّب في أزمة «قيميّة» كبيرة طبعت مختلف المؤسّسات التّربويّة، حيث انتشرت فيها مظاهر اللاّمبالاة والسّلبيّة، والغشّ في الامتحانات، والعنف العشوائي، والكذب، والنّفاق، والخداع، والرّشاوى، والسّرقات، وعدم الحياء ...وغيرها بالإضافة إلى تفشّي ظاهرة التّدخين وتعاطي المخدّرات والمسكِّرات وتسويقها بين التّلاميذ والطّلبة. 
المنظومات التّربويّة النّاجحة التي يمكن أن تكون سندا للإصلاح الثّقافي المنشود لها أسس ومناهج وأهداف ورهانات واضحة، ضمن أفق إنساني قيمي ‏مشروعي (ضمن مشروع حضاري). من أهمّ  هذه الأهداف إنتاج إنسان حرّ، مؤمن بقيمه، فخور بهويته، منفتح على القيم الكونيّة تبادلا وتثاقفا دون اتباع أو اجترار‎. فلا خير في منظومة تربويّة لا تدفع بالمتعلّم إلى تفجير ما لديه من طاقات خلاّقة وإبداعيّة، ‏وتنمية قيمه الفكريّة والرّوحية على حساب القيم ‏الشّيئيّة، وتخلق لديه قوّة تزيد من فعاليته، وتمكّنه من ترميم شبكة علاقاته ‏الاجتماعيّة وتطويرها في اتجاه خدمة المجتمع. 
خلاصة لما تقدّم، إنّ نجاح الإصلاح الثّقافي يمرّ عبر النّجاح في تغيير وظيفة المؤسّسة التّربويّة بصفتها فضاء معرفيّا، عمليّا وتربويّا يساهم في إعداد المتمدرسين ‏للحياة الإجتماعيّة ضمن ثلاثة أبعاد، أولها رمزيّ (التّكوين اللّغوي والأخلاقي وكلّ ما يجب ‏أن يلتزم به الفرد إجتماعيّا) وثانيها إبداعيّ (حيث تساعد على اكتشاف المواهب) وثالثها تقني (إتقان المهن والتمكّن من التكنولوجيّات ...).‏‎ وبذلك تتحوّل العمليّة الدّراسيّة من الدّراسة من أجل الامتحان إلى التّربية من أجل تكوين الشّخصيّة وتعزيز الذّكاءات المختلفة للمتعلّم، وربط التّعليم بالحياة في المحتوى والأساليب والتّوجهات. 
2 - الإعلام 
ولأنّنا في زمن «الميديا» حيث لا سلطة إلاّ لمن يحتكر تكنلوجيّات الإعلام والتّواصل ويُصَرِّفُ مضامينها وفق أجندته لا غير، سعى النّظام الرّأسمالي والنّيوليبرالي المتوحّش عبر وسائل الإعلام المختلفة والوسائط التّكنولوجيّة الحديثة إلى تسطيح كلّ ما هو عميق وتمييع كلّ ما هو جاد، وتغيير أذواق النّاس وتعطيل عقولهم مقابل تهييج غرائزهم وشهواتهم وترسيخ التّفاهة في نفوسهم، ففُرضت نماذج معيّنة من الفنون ورُفعت قيمة أشباه المواهب في كلّ المجالات، فأصبح فنّ الغرائز هو المهيمن، وكثر متابعوه وزاد أصحابه ثراءً وشهرة، بينما تحوّلت الفنون الرّاقية والأدب الهادف والفكر والعلم إلى بضاعة كاسدة، انصرف عنها النّاس، وتدهورت حالة أصحابها مادّيا ومعنوّيا.  
تبدّلت المعايير وتغيّرت المفاهيم التي تتحكّم في الإعلام بجميع أشكاله، ولم تعد مرتبطة بمنظومة المبادئ الإنسانيّة الرّفيعة، ممّا سمح للبسطاء فكريّاً وأخلاقيّاً بالارتقاء إلى مفاصل القرار وتحوّل الأقزام إلى عمالقة، فانخفض صوت العقلاء مقابل ارتفاع صوت الجُهلاء، وعمّت السطحيّة في سابقة لم تشهدها أي حقبة حضاريّة من قبل.
تجد النّاس يقضون أغلب ساعات أعمارهم في جدال حول أجمل قميص وأفضل حذاء وآخر صيحات الموضة وأفضل لاعب كرة ويتابعون بالملايين أخبار أشباه الفنّانين والرّياضيين على الواتساب والإنستجرام. وتقام المسابقات الخاصّة بأطول قُبلة وأعظم كسكاس وأجمل فتاة، وتقام السهرات التّلفزيّة لمناقشة ذلك فيجتمع كبار الخبراء للتّناظر حول أجمل النهود الخ... فلا عجب أن يملك من المال شابّ رياضي فاشل في الدّراسة، أو مغنية رشيقة القوام ما لا يمكن أن يملك جزءا منه كلّ مثقفي ومفكّري المجتمع طيلة حياة عملهم وكدّهم.
ولكي تنجح عمليّة الإصلاح الثّقافي المنشود لابدّ من خوض معركة الإعلام، وافتكاك موقع في السّاحة الإعلاميّة وعالم الميديا، والتحوّل من مستهلك تابع إلى منتج قادر على ولوج عقول العامّة قبل الخاصّة. وهذا الأمر ليس بالهيّن لكنّ العمل الذكيّ بعد الاستعداد اللاّزم له وإعداد البدائل المقاومة لثقافة الاستهلاك والتّفاهة، والصّبر على النّتائج التي لا تأتي سريعا، يمكن أن يفتح الطّريق نحو النّجاح، وبالتّالي التّأثير في الجماهير وتغيير الثّقافة السّائدة. أمّا استغلال الإعلام بنفس منهجيّة الآخرين وبالطّريقة ذاتها، فلن يحقّق إلاّ تغييرا طفيفا في الشّكل (القشرة الخارجيّة للثّقافة)، أمّا الجوهر فسيبقى عصيّا على التّغيير.   
3 - المؤسّسة الدّينيّة
ولأنّ الدّين مركّب أساسي في البناء الحضاري على رأي مالك بن نبي(1)، فإنّ الإصلاح الثّقافي لن يكون بحال من الأحوال ثورة على الدّين ولكن ثورة من خلاله. وبالرّغم من ابتعاد نسبة من النّاس عن التّديّن، فإنّ نسبة لابأس بها منهم مازالت مرتبطة بالمؤسّسات الدّينيّة وعلى رأسها المسجد الذي لا ينحصر دوره على تأدية العبادات وممارسة الشعائر الدينية وإنّما يقوم أيضا بجملة من الأدوار والوظائف المتنوعة تجاه المجتمع، من بينها الدّور التّربوي الثّقافي الذي يسير جنباً إلى جنب مع جملة من الأدوار الأخرى الاجتماعيّة والإقتصادية والسّياسيّة وغيرها. ويعتبر الإمام صاحب الدّور الأساسي في المساهمة في عملية التّغيير الثّقافي باعتباره من أهم الفاعلين فيها من خلال الخطاب الدّيني الموجه لمختلف الشّرائح الاجتماعيّة التي ترتاد المساجد خاصّة يوم الجمعة. 
ونجاح عمليّة الإصلاح الثّقافي للمجتمع يمرّ حتما بإصلاح هذا الخطاب الدّيني عبر الإرتقاء به وتطويره ليتحوّل إلى خطاب يتوجّه مباشرة إلى عقل الإنسان وفطرته السّليمة، فيحرك مشاعره وعواطفه في نفس اللّحظة التي يستثير فيها عقله. وإلى خطاب واقعيّ تتجلى واقعيته في التّركيز على قضايا المجتمع وهمومه وامتلاك الحسّ التّاريخي والإبتعاد عن اللاّتاريخيّة والماضويّة. 
عمليّة تجديد الخطاب الدّيني والارتقاء به، تمرّ عبر تحديد مفهوم الدّين والفصل بين ما هو وحي مقدّس وما هو تراث بشريّ، فصل في المنزلة وفصل في كيفيّة التّعامل معه. وهذا يحتاج حفرا معرفيّا عميقا يُزيل عن الدّين ما علق به من أفهام خاطئة وقصور في تنزيل الوحي في الواقع ويُبرز معانيه السّامية التي جاء ليصنع المسلم على أساسها، كقيم العمل والإخلاص والعدل والعلم والمساواة والحرية وصيانة كرامة البشر والرّحمة والبرّ والتّعايش والتّسامح ومقاومة التّناحر والتّواكل والاستكانة. كما يحتاج غوصا في عالم التّراث الفكري الغزير ليحيي جوانبه المضيئة للاستفادة منها وتطويعها في سبيل بناء وعي يدفع إلى الحركة ويقاوم الجمود. وبذلك تُرَدُّ للعقيدة الإسلاميّة فاعليّتها وقوّتها الإيجابيّة وتأثيرها في الفرد والمجتمع. 
وبالتالي يتمّ القطع مع النّموذج التّقليدي للخطاب الدّيني السّائد هذه الأيام والذي لم يعد قادرا على الاستجابة لتطلعات المجتمع ممّا يجعله يفقد مكانته الاجتماعيّة ويقزّم بذلك دور المؤسّسة الدّينية ثقافيّا وإجتماعيا.  
4 - المجتمع المدني
نقصد بالمجتمع المدني كلّ المؤسّسات المجتمعيّة غير الرّبحيّة التي تتمتّع باستقلاليّة حقيقيّة عن الحكومة،إداريّا وتنظيميّا وماليّا. وتشمل الجمعيّات بجميع أصنافها (الثّقافيّة، والرّياضيّة، والخيريّة، والرّعائية والخدماتيّة، والجمعيات التّنموية التي تساعد المواطن على تحسين وضعه بالاعتماد على ذاته، ...) والمنظّمات القطاعيّة واتحادات العمال، والمنظمات الحقوقيّة والدّفاعية التي تسعى لإرساء مفاهيم وممارسات حقوق الإنسان بالمعنى الواسع. وتكمن أهمية المجتمع المدني في مدى الإضافة النّوعية التي يُحدثها من خلال خلق حالة من التّواصل الفعال بين أفراد المجتمع، ممّا يساهم في توثيق العلاقات الإنسانيّة والاجتماعيّة بين أفراد المجتمع الواحد، وزيادة الوعي والثّقافة الاجتماعيّة من خلال وجود مجموعة الأندية المتنوّعة والمتخصصة، وإبراز المواهب والطّاقات البشريّة ورعايتها وتشجيعها وتقديهمها إلى الواجهة، والمساهمة في تحجيم بعض المشاكل الاقتصاديّة والاجتماعيّة عبر تنفيذ العديد من الأعمال الخيريّة وأعمال التّطوّع التي تُنظمها المنظمات والجمعيات الخيريّة والتّعاونيّات.
ونظرا لأهمّية المجتمع المدني، فإنّ عمليّة الإصلاح الثّقافي يجب أن تتمّ في جزء منها من خلال استغلاله والاستفادة من خصائصه  خاصّة قدرته على التّأثير في النّاس. وهذا لا يعني بالمرّة الهيمنة عليه وفرض خطّ فكري أو سياسي معيّن عليه، بل المطلوب دعم استقلاليته وحمايته من مختلف أنواع الفساد مع الدّفع نحو توفّر صفات الفاعليّة والإنجاز، والشّفافيّة والمشاركة، والالتزام القيمي والأخلاقي لدى العاملين بمكوّناته. وبذلك نضمن وجود مؤسسات قويّة فاعلة في المجتمع قادرة على الإصلاح والتغيير. 
5 - المؤسّسات الثّقافيّة: 
المؤسّسات الثّقافيّة هي أحد ميادين المعركة مع ثقافة الرّداءة والاستحمار، وهي رأس الحربة في عمليّة الإصلاح الثّقافي المنشود. وتشتمل هذه المؤسّسات جميع منصّات العمل الثّقافي كالمسرح والسّينما والرسم والموسيقى والمكتبات العمومية والخاصّة والمتاحف والمعارض الفنيّة، وغيرها من الأنشطة الثقافيّة. وتكمن أهمّية هذه المؤسّسات في قدرتها على استقطاب الشّباب من الجنسين حيث يجدون فيها ما يرضي تطلّعاتهم الفكريّة في ميادين الأدب والموسيقى والفنون التّشكيليّة والمسرح. 
ولذلك فإنّ نجاح عمليّة الإصلاح الثقافي تتطلّب جهدا كبيرا لتثوير واقع هذه المؤسّسات والعمل على:
*  خلق مناخ ثقافي داخلها يُحدث تفاعلاً ثقافيّاً حقيقيّاً يلتقي على بساطه المبدعون والمثقّفون من كلّ شعبة ووجهة، يناقشون فيه مختلف القضايا الفكريّة والثّقافيّة والاجتماعيّة والسّياسيّة. 
* توجيه مضامين الأنشطة داخلها نحو نشر المبادئ الإنسانيّة السّمحة كالتّعاون والتّسامح والحرّية باستعمال الكلمة الطيبة واللّحن الجميل واللّون المشرق بدل لغة العنف والإقصاء والحقد الايديولوجي والقذائف والرّصاص والمتفجّرات.
الخاتمة: 
هذه بعض البنى التّحتيّة والوسائل التي من خلالها يمكن تنفيذ عمليّة الإصلاح الثّقافي، ومن ثمّ إعادة بناء شخصيّة الإنسان ليكون عنصرا متوازنا يعيش عصره من دون فقدان هويته وفاعلا إيجابيّا في بناء المجتمع وتنميته.  وقد يلاحظ القارئ الكريم أنّنا أخرنا الحديث عن المؤسّسات الثّقافيّة وهو تأخير متعمّد لنبيّن أنّ إصلاح ثقافة المجتمع عمل معقّد لا يقتصر على العمل الثّقافي واستغلال المؤسّسات الثّقافيّة فحسب وإنّما يشمل جميع المؤسّسات التي لها تأثير مباشر وغير مباشر على الإنسان، كالمؤسّسات التربويّة بجميع أشكالها والمؤسّسات الدينيّة والاجتماعيّة. لأنّ الثقافة ليست فنّا ومسرحا وغناء بل هي طريقة عيش وتفكير وتعامل مع الآخر، وهي التي تشكّل شخصية الفرد ومن ثمّ شخصية المجتمع.
ولأنّ أصعب الأمور بداياتها، فإنّ المطلوب من المقتنعين بضرورة الإصلاح الثّقافي الانطلاق الفوري في العمل الجادّ كلّ حسب قدرته وطاقته وكلّ حسب الميدان الذي يشتغل فيه، مع التحلّي بكثير من الصّبر والمثابرة وعدم التّسرّع في طلب النّتائج.  
الهوامش
(1)  مالك بن نبي، شروط النّهضة ، ص. 61 - ترجمة عبد الصبور شاهين - دار الفكر 1986