في الصميم

بقلم
د.عثمان مصباح
القصص القرآني من منظور جديد (14) إبراهيم وقومه بعد النبوة
 سؤال النبوة
اكتشف إبراهيم في تجربته الأولى أنّ الحجج العقليّة لا تكفي وحدها لإصلاح المجتمع، فقد رأى كيف ينساق النّاس لكبرائهم انسياق الخراف للجزارين، فلا بدّ لسلطان العلم إذن أن يكون معزّزا بسلطان الحُكم، ولمّا كان الملِك والكهنة يحكمون القوم باسم الآلهة فإنّ إبراهيم سأل اللّه حُكما باسمه، وقد سجّل القرآن هذه النّقلة في قوله تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ: مَا تَعْبُدُونَ؟ قَالُوا: نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ. قَالَ: هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ؟ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ؟ قَالُوا: بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا ‌كَذَلِكَ ‌يَفْعَلُونَ﴾ (2)
فهاهم يعترفون كلما صحَت عقولهم أنّ لا حجّة لهم فيما يعبدون إلاّ اتباع الآباء، والآباء الذين يقصدون هم آباء الضّلالة الذين نقضوا ميثاق الاستخلاف، وعملوا على محو الذّاكرة القوميّة حتّى ينسى المستضعفون أئمّة الهدى من آبائهم الأولين: ﴿قَالَ: أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ ‌وَآبَاؤُكُمُ ‌الْأَقْدَمُونَ، فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ، الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ، وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ، وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ، وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ، وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ﴾(3)، وبهذا المنطق الفطري كان إبراهيم حنيفا، ثمّ أضاف داعيا: ﴿رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾(4) 
وهنا بيت القصيد الدّال أوّلا على أنّ هذه المخاطبة كانت بعد محاولة الإحراق، أي أنّ إبراهيم لم يتراجع بعد نجاته من النّار عن مجادلة قومه، بل زاد على ذلك الإعلان عن عداوته للآلهة القوميّة، وأمّا الدّلالة الثّانية لهذا الدّعاء فهي رغبته عليه السّلام في النّبوّة، وهذا ما عبّر عنه بالحُكم، وهو تعبير يدلّ على المدى الذي بلَغه إبراهيم من كمال العقل، وحسبك أنّ القرآن عبّر عن النّبوّة بالحُكم، كما في قوله تعالى: ﴿يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ! وَآتَيْنَاهُ ‌الْحُكْمَ ‌صَبِيًّا﴾(5)، ﴿وَلُوطًا آتَيْنَاهُ ‌حُكْمًا وَعِلْمًا﴾(6)، وفي قصّة يوسف: ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدهُ آتَيْنَاهُ ‌حُكْمًا وَعِلْمًا﴾(7)، وقال موسى جوابا على فرعون: ﴿فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ، فَوَهَبَ لِي رَبِّي ‌حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾(8)
وسمّيت النّبوّة حكما لأنّ الغاية من إرسال الرّسل وإنزال الكتب هي الحكم بين النّاس فيما اختلفوا فيه: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ‌لِيَحْكُمَ ‌بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾(9)
وحكم الأنبياء هو حكم باسم اللّه، إذ ما ﴿‌عَلَى ‌الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾(10)، ولهذا لا ينتقل هذا المقام لغيرهم من الأفراد، ولهذا أيضا جعل اللّه لهم مقامين: مقام التّصرّف على سبيل التّبليغ، ومقام التّصرّف بالبشريّة، فكلامهم في المقام الأول هو كلام اللّه، وأمّا المقام الثّاني فحالهم فيه كحال سائر البشر، لا ينسب منه شيء إلى اللّه إلاّ أن يُقرّهم اللّه بأن يجعل عملا من أعمالهم محلّ أسوة، ولهذا وجدنا القرآن يذكر بعض أخطاء الأنبياء.
فليس لبشر سوى الأنبياء أن يقول للنّاس أنّه يتكلّم باسم اللّه، ولا أن يطالبهم باتّباعه، ومن أحسن ما روي عن النّبيّ ﷺ أنّه كان إذا أرسل بعثة عسكريّة يقول في وصيّته للقائد: «وإذا حاصرتَ أهلَ حِصنٍ فأرادوك أن تُنزلهم على حكم اللّه، فلا تُنْزلهم على حكم اللّه، ولكن أنزلهم على حكمِك، فإنّك لا تدري أتصيب حكم اللّه فيهم أم لا»(11). فكان ﷺ يعلّمهم الفرق بين البلاغ عن اللّه، وبين الاجتهاد التّطبيقي، فالبلاغ دين، ودين اللّه كلّه حقّ، والاجتهاد ظنون بشريّة، وليست دينا ينسب إلى اللّه، لأنّ «الدِّيَانَة لَا تُؤْخَذُ بِالظَّنِّ» كما قال ابن حزم الأندلسي  (ت: 456 هـ) (12)، ألم يقل سبحانه في دين المشركين: ﴿إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ، ‌وَإِنَّ ‌الظَّنَّ ‌لَا ‌يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا﴾(13).
وهذا إبراهيم عليه السّلام لم يتجاوز طوره قبل النّبوّة، فلم يطلب من قومه قطّ أن يتّبعوه، ولا أن يطيعوه، بل جلّ مجادلاته كانت مراجعات على سبيل النُّصح، وكانت تنتهي دائما إلى استنكار ما تأباه الفِطَر السّليمة، والعقول المستقيمة. فلمّا رآهم لا يستجيبون لنداء العقل أراد أن يأتيهم من باب النّبوّة عسى أن تلين قلوبهم لذكر اللّه، وعسى أن يردعهم وعيده، وهم يعلمون ولا شكّ بما وقع للمنذَرين قبلهم كعاد وثمود.
استئناف محاولة الإصلاح برسم النّبوّة
فوجئ قوم إبراهيم بدعوته الجديدة، لقد ترك صاحبُهم هذه المرّة أسئلته الاستنكاريّة التي طالما أنبتت في صدورهم حسكا، إنّه يبلّغهم هذه المرّة رسالة ربّ العالمين بلاغا ارتعدت له فرائص المترفين ومن أعانهم من الكهنة، لأنّ الدّعوة إلى عبادة اللّه وحده تقتضي هدم أساس المشروعيّة التي أقاموا عليها رياساتهم وامتيازاتهم: ﴿‌وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ: اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ! ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا، إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا، فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ، وَاعْبُدُوهُ، وَاشْكُرُوا لَهُ، إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ، وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ، وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾(14)
لقد أوهم الكبراء أتباعهم أن لا قيام لهم إلاّ بنظام وثني يقوي لحمة الجماعة في الصّراع من أجل البقاء سلما وحربا، لهذا كان المشركون يحتفلون بتقديم القرابين لأصنامهم القوميّة بعد كلّ حصاد وافر، أو تجارة رابحة، أو نصر على الأعداء، اعتقادا منهم أنّ سرّ ذلك يكمن في الولاء المطلق لتلك المعبودات، وبذا صارت القوميّة الوثنيّة هويّة وجوديّة مغلقة، معادية للإنسانيّة التي كانت هبة الاستخلاف الإلهي زمن الفطرة.
يصف إبراهيم هذه المنظومة الوثنية بالإفك المختلق، لقيامها على أوهام ذهنيّة مصطنعة، ويفضح مقاصد مختلقيها من السّادة فيقول: ﴿إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ، وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾(15)
والوثن لغةً الصّنمُ الذي يُتخذ لتقوية العصبيّة، أو كما نقول في زماننا: (الإجماع الوطني)، وهي عبارة طنّانة جوفاء، خاصّة في مجتمعات الاستبداد، إذ لا يملك تفسيرها إلّا الطّغاة، حيث يعطونها معنى يقتضي الحجر على العامّة، لأنّ العامّة في هذه المنظومة بمنزلة البهائم المحرومة من العقل، والحاصل: طبقة صغيرة حظّها المَغنَم، وطبقة كبيرة حظّها المَغرَم، تُستنفر باسم الواجب القومي للبذل والتّضحية، ويُلزم المستضعفُ باسم ذلك الواجب أن يترك ما يراه حقّا إذا خالف عقيدة الجماعة، وإلاّ صار صابئا منبوذا، أمّا إذا جاهر بالخلاف، ودعا النّاس إلى ترك دين السّادة كما صنع إبراهيم فالويل له: ﴿فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا: اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ! فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾(16)
محاولة إحراق إبراهيم، كم وقعت؟
ذهب المفسرون وأهل التّاريخ إلى أنّ الإحراق الذي تعرض له إبراهيم في هذه الواقعة هو نفسه المذكور في سورة الأنبياء وسورة الصّافات، وهذا خطأ شنيع، لأنّ الإحراق الأول كان قبل النّبوة كما بيّنا، وأمّا الثاني فحدث بعدها، ودلائل القرآن على ذلك كثيرة منها:
1 - أنّ إبراهيم في الإحراق الأول كان فتى لا يُحمل قوله على محمل الجدّ، لهذا قال له كلّ من سمعوه قبل حادثة المعبد: ﴿أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ ‌مِنَ ‌اللَّاعِبِينَ﴾(17)، وكان إبراهيم غير مشهور في قومه، فلم يكن يعرفه إلاّ القليلون، لهذا لم يخطر اسمه على بال سدنة المعبد، بل ﴿قَالُوا: مَنْ فَعَلَ ‌هَذَا ‌بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ﴾(18)، وهنا جاءهم هذا الجواب: ﴿قَالُوا: سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ﴾(19)، وهذا دليل واضح على أنّ إبراهيم كان صغير السّن، وأنّه كان مجهولا عند الغالبيّة، والرّسول لا يكون مجهولا، بل يكون أشهر من نار على علم.
2 - أنّ الإحراق الأول كان سببه كسر الأصنام، ولم يؤمر نبيّ قطّ أن يبدأ الدّعوة بتكسيرها، لما في ذلك من ضرر محقّق عليه وعلى دعوته، بل نهى اللّه عن سبّ آلهة المشركين فقال: ﴿‌وَلَا ‌تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ، كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ﴾(20)، وقد أمر سبحانه بالتّلطّف واللّين في دعوة المشركين حتّى يطهروا أنفسهم عن طواعيّة من رجس الأوثان، وأمّا ما فعله إبراهيم فكان مبادرة شخصيّة، لا عن وحي كما زعم بعض المفسّرين، وهدفه من ذلك لفت انتباه النّاس إلى خطورة وضعهم، وبيان تهافت الشّرك، فلم يفعل ذلك باسم اللّه، ولا دعاهم قطّ إلى اتباعه، بل كانت دعوته الأولى دعوة سلب لا إيجاب، أي دعوة تحنف لا دعوة إسلام، وحين همّ القوم بإحراقه لم يقصدوا تحدّي اللّه تعالى، بل لأنّ إبراهيم كان في عرفهم ظالما بالتّعدّي على أقدس حرماتهم.
3 - الإحراق الثّاني المذكور في سورة العنكبوت كان ردا على دعوة نبويّة إلى عبادة اللّه وحده، وفي هذه الدّعوة نلاحظ أنّ إبراهيم لم يتكلّم عن الأصنام بشكل مستفز كما كان يفعل في السّابق، لأنّه كان مجرّد مبلّغ عن اللّه، واللّه لطيف بعباده، فحرص هذه المرّة أن يتجرّد للّه وأن يجعل الأمر بين اللّه وبين القوم، ولهذا كان السّادة هذه المرّة متحدّين للّه تعالى مريدين إعجازه في الأرض: ﴿الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ، أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ، وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ، يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ﴾(21) والعذاب يضاعف يوم القيامة للسّادة والكبراء، وقد حكى اللّه عن المستضعفين الذين عصوا الرّسول أنّهم يقولون يوم القيامة: ﴿رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا، رَبَّنَا آتِهِمْ ‌ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا﴾(22)
4 - قبل النّبوة قال سدنة المعبد: ﴿حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ﴾(23)، وبعد النّبوة قال سادة القوم: ﴿‌اقْتُلُوهُ ‌أَوْ ‌حَرِّقُوهُ﴾(24)، فكانوا في الأول على يقين من فاعليّة النّار، لكنّهم في المرّة الثّانية كانوا على شكّ بسبب نجاته الأولى، والتّحريق بالنّار هو أشدّ العقوبتين، لذا بدأوا به، فلمّا لم تنفع خَطّطَ أشقياء القوم لقتله وقتل لوط الذي أعلن إيمانه بعد نجاة إبراهيم من النّار الثّانية كما دلّ على ذلك سياق القصّة في سورة العنكبوت، ولهذا قال اللّه: ﴿وَنَجَّيْنَاهُ ‌وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ﴾(25) فنجاته ونجاة لوط كان من شرّ يستهدفهما معا، وهو القتل، أمّا إرادة الإحراق فاستهدفت إبراهيم وحده.
5 - الذي أوقع المفسرين في الخلط بين الحادثتين هو عدم وجود روايات خارجيّة تذكر أنّ إرادة الإحراق وقعت مرّتين، ومعظم المفسرين يعتقدون أنّ القرآن له تفسير روائي مأثور، وهذا أضعف قدرتهم على التقاط الإشارات القرآنيّة، وعلى استثمار القرائن الكثيرة الدّالة على أنّ إبراهيم كانت له دعوتان في قومه: دعوة فطريّة، ودعوة نبويّة.
وقد وقع أولئك المفسرون في تناقضات، فابن كثير (ت: 774هـ) مثلا قال في كتاب التّاريخ: «إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى آتَاهُ رُشْدهُ فِي صِغَرهِ، وَابْتَعَثَهُ رَسُولًا وَاتَّخَذهُ خَلِيلًا فِي كِبَرهِ»(26)، وهذا يعني أنّ قصّة الرّشد التي تضمّنت تكسير الأصنام كانت قبل النّبوة، وأكّد هذا المعنى في كتاب التّفسير فقال: «آتَاهُ ‌رُشْدهُ ‌مِنْ ‌قَبْلُ، أَيْ: مِنْ صِغَرهِ أَلْهَمَهُ الْحَقَّ وَالْحُجَّةَ عَلَى قَوْمِهِ»(27).
بقيت مسألة قد يُعترض بها على أنّ إرادة إحراق إبراهيم وقعت مرّتين، وذلك أنّ القرآن ذكر إنجاءه وإنجاء لوط إلى الأرض المباركة في سورة الأنبياء التي ذكرت تكسير الأصنام، وفي سورة العنكبوت التي قصّت دعوته برسم النّبوة! والجواب أنّ القرآن له أسلوب في الطّي والنّشر معروفٌ يتناسب مع سياق كلّ سورة، فقد روى قصّة موسى على عدّة وجوه، مرة يُجمِل إجمالا، ومرّة يُفصّل بعض التّفصيل، ولن تصل إلى التّفصيل الكامل إلاّ بجمع أجزاء القصّة وترتيبها ترتيبا معقولا، فيظهر لك حينئذ ما لم يكن ظاهرا في الشّتات. 
وهناك حكمة خاصّة بإبراهيم وهي أنّ الحجّة التي أقامها على قومه قبل النّبوة كانت كافية لإبطال الشّرك، وفي ذلك شهادة لإبراهيم بكمال العقل وبلوغ أعلى درجات الحكمة قبل أن يأتيه الوحي، وتعريفٌ بالمدى الذي يمكن أن تصله بقايا الفطرة في الهداية والتسديد، وفي ذلك قال سبحانه: ﴿وَتِلْكَ ‌حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ، نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ، إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ﴾(28) والإيتاء المعنِيُّ هنا هو الإلهام الفطري لا تنزيل الوحي.
هجرة إبراهيم ومصير قومه
وصل قوم إبراهيم إلى الحدّ الذي لا يكون بعده إلاّ الهلاك، سنّة الذين خلو من قبل، لكنّ إبراهيم عليه السّلام حقّق استثناء في هذه السُّنة، وأسّس لسنّة جديدة هي سنّة التّدافع القائم على صناعة النّماذج الاجتماعيّة الشّاهدة على بطلان النّماذج الوثنيّة، فيكون واقعٌ مقابلَ واقع، ويتحرّر اختيار الإنسان من الضّرورات التي افتعلها المستكبرون في الأرض، والتي سمّاها إبراهيم (فتنة الذين كفروا) حيث قال: ﴿رَبَّنَا ‌لَا ‌تَجْعَلْنَا ‌فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾(29).
لهذا اختار إبراهيم الهجرة لاستئناف معركته ضدّ الوثنيّة، ولم يستفتح على قومه كما استفتح الأنبياء قبله ابتداء من نوح عليه السّلام إذ﴿قَالَ: رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ، ‌فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ، ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ﴾(30)، وحكى اللّه عن أنبياء الأمم الهالكة فقال: ﴿‌وَاسْتَفْتَحُوا، وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ﴾(31).
خاتمة
إذا كان إبراهيم قد حقّق بالفطرة ما لم يحقّقه غيره إلّا بالوحي، فإنّه لمّا صار نبيّا سبق الأنبياء جميعا إلى فضائل صار فيها إماما كالهجرة في سبيل اللّه، وبلغ مقامات لم يبلغها أحد قبله ولا أحد بعده، وتفصيل ذلك سيأتي بعد أن نستكمل الحديث عن مرحلة القرى الهالكة. 
الهوامش
(1) سورة الذاريات - الآية 52
(2) سورة الشعراء - من الآية 69 إلى الآية 74
(3) سورة الشعراء -  من الآية 75 إلى الآية 82
 (4) سورة الشعراء - الآية 83 
(5) سورة مريم - الآية 12
(6) سورة الأنبياء - الآية 74
(7) سورة يوسف - الآية 22
(8) سورة الشعراء - الآية 21
(9) سورة البقرة - الآية 213
(10) سورة النحل - الآية 35
(11)  - صحيح مسلم، 3/1357، الحديث رقم: 1731، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، مطبعة عيسى البابي الحلبي، القاهرة
(12)  - علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي، المحلى بالآثار: 7/ 562، تحقيق: عبد الغفار سليمان البنداري، دار الفكر- بيروت 
(13) سورة النجم - الآية 28
(14) سورة العنكبوت - من الآية 16 إلى الآية 18
(15) سورة العنكبوت - الآية 25
(16) سورة العنكبوت - الآية 24
(17) سورة الأنبياء - الآية 55
(18) سورة الأنبياء - الآية 59
(19) سورة الأنبياء - الآية 60
(20) سورة الأنعام - الآية 108
(21) سورة هود - الآيتان 19 و20
(22) سورة الأحزاب - الآيتان 67 و68
(23) سورة الأنبياء - الآية 68
(24) سورة العنكبوت - الآية 24
(25) سورة الأنبياء - الآيتان 70 و71
(26) البداية والنهاية: 1/ 161، تحقيق علي شيري، دار إحياء التراث العربي، الطبعة الأولى، 1408 هـ - 1988 م
(27) تفسير القرآن العظيم: 5/ 347، تحقيق سامي السلامة، دار طيبة، الرياض، الطبعة الثانية، 1420 هـ - 1999 م
(28) سورة الأنعام - الآية 83
(29) سورة الممتحنة - الآية 5
(30) سورة الشعراء - من الآية 117 إلى الآية 120
(31) سورة إبراهيم - الآية 15