حكم وأحكام

بقلم
الهادي بريك
الحلقة الثامنة : عقوبة الضّرب بين تأويل الجاهلين وإنتحال المبطلين
 قال سبحانه : ﴿وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا ﴾(1). وأخرج أحمد وأبوداود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه ﷺ قال : «مروهم بالصّلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر. أي الولد»
ضرب النّساء
الأمر الوارد في الآية بضرب الزّوجة ليس للوجوب. صيغته أمريّة ومدلوله للإباحة. إذ لو لم يقع ضرب وكان للوجوب أثم الزّوج. هو كذلك شأن داخليّ خاصّ بين الزّوجين. وليس الخطاب هنا لغير ذلك المحضن. النّشوز سوء يقع فيه الزّوجان كلاهما. قال سبحانه : ﴿وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾(2). ورد النّشوز مرّة ثالثة في قوله سبحانه : ﴿وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا﴾(3). كما ورد مرّة رابعة أخيرة وذلك في قوله سبحانه : ﴿وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا﴾(4). (هذا عند حفص عن عاصم. وهناك من يقرأ : ننشرها). 
النّشوز لغة : الإرتفاع والعلوّ. من مثل نشوز الأرض. ومعناه الإصطلاحيّ: حصول إضطراب في علاقة الزّوجين بعضهما ببعض، فينخرم الإنتظام الكفيل بتحصيل حياة عنوانها المودّة والرّحمة والسّكن واللّباس والمعروف. خوف النّشوز هنا معناه حصوله فعلا. سياق الآية كلّها هو سياق معالجة حالة زوجيّة بما يمكن أن يحفظ مؤسّسة الأسرة التي أولاها اللّه الذي أولى من تقديم وعناية ورعاية. إذ هي المحضن الذي يصنع فيه الإنسان صنعا ماديّا ومعنويّا. ويحدّد هويّته الأولى التي ستظلّ تصحبه حتّى موته. وهي المصنع الذي يزوّد المجتمع والأمّة البشريّة قاطبة بالعنصر الإنسانيّ. وعندما يكون التشدّد في موضعه فهو الحزم عينه. وهو الرّحمة نفسها. وتلك هي الحكمة التي أنزلها اللّه سبحانه جنبا إلى جنب مع القرآن الكريم. والتي عبّر عنها مرّة بالميزان ومرّة بالحكمة، في سور البقرة والرّحمان والشّورى والحديد. 
هو إذن ليس سياقا تشريعيّا ملزما، إذ لو خولف أثم المعنيّ به. إنّما هو سياق إستجماع الوسائل التي بها تحفظ الأسرة لتؤدّي مهمّتها العظمى تحصّنا ممّا يأتي به الطّلاق من فاجعات وخاصّة على الولد، وتعريض المجتمع المتكافل نسبا وصهرا إلى الضّعف. هي وسائل ليست ملزمة عدا في ترتيبها إذا أخذ بها. ولذلك أشار في موضع آخر إلى وسيلة التّحكيم العائليّة ﴿إِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا﴾(5). المقصود هنا ـ بعد ترتيبها ـ هو توخّي اللّطف والرّفق في رأب الصّدع أن يعود العرب كسالف عهدهم قبل الإسلام إلى الجاهليّة في العلاقة مع المرأة. ولذلك بدأ بالوعظ. وهو وسيلة معنويّة. ثمّ ثنّى بالهجر في المضاجع ـ وليس خارجها ـ وهو وسيلة معنويّة أخرى. ولكنّها أبلغ في خطاب النّاشز. فإن لم يجد ذاك ولا هذا فليس الضّرب هو إلزام تشريعيّ. ولذلك أخّره. فمن لم يضرب لا جناح عليه. بل سلك سنّة نبويّة. وهي أنّه ﷺ لم يضرب قطّ حتّى هرّة. وقد تعرّض بيته إلى ما يشبه هذا في موضعين قصّهما القرآن الكريم (سورة التّحريم وسورة الأحزاب). بل إنّه قال: «ولن يضرب خياركم»(6) وقال في نهي صريح «لا تضربوا إماء اللّه». بل إنّه بشّع الضّرب كلّ التّبشيع إذ قال مستنكرا: «يجلد أحدكم إمرأته جلد العبد ثمّ يجامعها في آخر النّهار»(7). 
ومن تتبّع أحاديث أخرى يجد أنّ سبب الضّرب الذي أذن به ﷺ هو (إتيان الفاحشة). تصوّر أنّه حتّى في مثل هذا ـ وعليه حدّ صحيح صريح في الكتاب العزيز ـ ورأفة بالأسرة وتحصينا لها من الإندثار يأمر الزّوج بالسّتر عليها. وليس فضحها. هذه الأحاديث تبيّن النّشوز المقصود هو النّشوز الذي به تكون المرأة لأكثر من رجل. بل إنّه أشار على إمرأة بعدم نكاح أبي سفيان. وعلّل ذلك بأنّه لا يضع سوطه عن عاتقه. وهي كناية عربيّة أنّه يضرب النّساء. 
ومعلوم أنّ السنّة وظيفتها تبيين القرآن الكريم، فمن أخذ بمصدر واحد من مصدري الوحي فقد ضلّ، وأضلّ إن كان متبوعا. الضّرب نفسه لمن يلجأ إليه لا يعني أنّه علاج بدنيّ. أي أنّ إيجاع النّاشز بدنيّا بالضّرب هو المقصود حتّى لا تعود. الضّرب هنا فسّره ﷺ وحدّد آلته وقال أنّها عود الأراك. يتشوّف ﷺ دوما ـ وهو الأعلم بالآية ومقصودها ـ إلى ترك الضّرب والإستعاضة عنه بما تيسّر. فإن كان لا مناص منه فهو بعود أراك. المقصود من ذلك هو أنّ الضّرب ليس علاجا بدنيّا توجع به النّاشز، إنّما هو علاج نفسيّ، وبذلك يكتمل مشهد معالجة النّاشز. ومداره أنّ الوسائل الثّلاث المذكورة هنا ـ على سبيل الذّكر لا الحصر و الإرشاد لا الإلزام ـ مراد منها الإيجاع النّفسيّ وليس البدنيّ. ومعلوم أنّ القراءة الجامعة للآية ـ كلّ آية ـ وللسّياق وللسّورة وللحديث مطلوبة، حتّى لا يكون القرآن عضين، ولا يحرّف كلمه تحريفا معنويا وهو الأخطر من التّحريف على الطّريقة الإسرائيليّة، أي فسخ آية أو كلمة. 
الوعظ فيه إيجاع نفسيّ، ومثله الهجران في المضاجع وليس خارجها. ومثلهما الضّرب بعود الأراك. هو ضرب رمزيّ وعلاج نفسيّ وليس حقيقة إيلاما وإيجاعا وإيذاء. ومن الأدلّة ـ كما تقدّم ـ على أنّ هذه الوسائل هي إستشاريّة وليست ملزمة ورود وسيلة التّحكيم العائليّ. أين مقامها إذن؟ بل إنّه لمن الأدلّة على أنّ اللّه نفسه سبحانه لا يقدّم الضّرب، أنّه عقّب سبحانه على الآية بفاصلة تهديديّة ضدّ الضّارب وذلك عندما قال : ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا ﴾. ومعناها أنّ الضّارب إذا كان ظالما أو معتديا يريد الإنتقام من زوجه وليس إصلاح ذات البين، فإنّه عليه أن يعلم أنّ اللّه أعلى منه وأكبر. خطاب تهديديّ صحيح صريح. كان يمكن أن يقول كالعادة أنّه عزيز حكيم. ولو كان راضيا على هذا لقال : إنّه عليم حكيم أو غفور رحيم أو سميع عليم، أو غير ذلك من التّعقيبات الأكثر ورودا. التّعقيب بعلوه سبحانه وكبره يعني أنّ الضّارب عليه أن يخشى العليّ الكبير في زوجه. 
الحقيقة الواقرة هي أنّ القرآن غير متشوّف إلى الضّرب، فحوى الخطاب تفيد ذلك بيسر شديد. وأهمّ شيء في المسألة هو أنّ السّياق الذي لا مناص من مراعاته هو سياق تحصين الأسرة من التفكّك وليس هو سياق أمر بالضّرب. كما يهرف الجهلى والحمقى ممّن ورثوا الجاهليّة العربيّة القديمة. الضّرب لمن يلجأ إليه ممّن لم يتأدّب لا فكرا ولا نفسا بمنهج الإسلام هو في مقام عمليّة جراجيّة مؤلمة قاسية لا مناص منها لحفظ ما بقي من الجسم. فإذا كان الضّرب يفضي إلى غير ذلك فهو تنزيل سيّئ لفهم أشدّ سوء. ذلك أنّ الإسلام بتشريعه كلّه من العقيدة حتّى المعاملة في كلّ أرجاء الأرض وشعب الحياة دين معلّل مقصّد مفهوم معقول. والمسلم يؤجّر بقدر إصابته المقصد المراد. إذ تدور الأحكام مع حكمها وجودا وعدما. هذا هو منهج العدول والرّواحل الذين بهم تحفظ الأمّة ويحفظ دينها من كلّ تحريف غال وتأويل جاهل وإنتحال مبطل. ولكن ظهرت تأويلات فاسدة تشغب على هذا المنهج الوسط، منها إتّباعنا للجاهليّة العربيّة التي كانت تعدّ المرأة بعيرا يجلد وأتانا تهان. ومنها إتّباعنا للحضارة الغربيّة وأذنابها فينا ممّن جعل فلسفتها كعبة تؤمّ ودينا مدينا. 
ومن ذا فإنّ الوسطيّة التي دعينا إليها ليست نزهة في يوم مشمس معتدل وتحت سماء زرقاء وأصوات العصافير تملأ المكان طربا، إنّما هي تكليف وعمل وسعي وكدح وإنضباط وإلتزام أن تزلّ قدم التّفكير ـ قبل قدم العمل ـ في تأويل جاهل أو في إنتحال مبطل. ومن ذلك أنّ بعضنا طوّح بعيدا وبتحكّم متعسّف لتأويل الضّرب تأويلا لا يحتمله اللّسان نفسه وهو مفتاح الدّين الأوّل، والسّبب دون ريب السّقوط تحت مطارق الفلسفة الغربيّة والإنسحار ببريقها والخنوع لها.
ضرب الولد
المشكلة هنا أخفّ وطأ بكثير، ذلك أنّ الحديث ضعيف. من دلائل ضعفه أنّه سقط من الدّرجات الستّ الأولى لسلّم الحديث الصّحيح. هو سلّم مركّب من سبع درجات كما وثّقت ذلك مراجع العلم. وعلى رأسها إبن الصّلاح في مقدّمته. حديث لم يرد متّفقا عليه، ولا إنفرد به البخاريّ ولا مسلم، ولا كان على شرطهما، ولا على شرط البخاريّ، ولا على شرط مسلم. هو حديث يكون في الأعمّ الأغلب ضعيفا. هذا السّلم يسمّيه العبد الفقير لربّه سبحانه وسيلة الكسول، لأنّه يسير عليك اليوم أن تختبر ذلك في دقائق معدودات. ولكنّ الحديث الصّحيح هويته أنّه المنسوب إليه رفعا ﷺ وإسنادا ممّن جمعوا بين العدالة والضّبط ودون إنقطاع وسلم كلّ ذلك رواية ودراية معا من آفتي الشّذوذ والعلّة. ومن قوّى الحديث بتعدّد رواته أو طرقه فلا عبرة به، بسبب أنّ التّقوية بهذا ليست محلّ إجماع من أهل الذّكر. وكما قال بعضهم بحقّ : الضّعيف لا يقوّي الضّعيف بل لا يزيده إلاّ وهنا. 
سنده إذن ودون ريب لا يرتقي حتّى إلى الحسن، بله الصّحة. أمّا متنا فهو مخالف للمنهج النّبويّ العامّ. ذلك أنّ النّبيّ الذي لم يضرب يوما حتّى هرّة، والذي شنّع على ضرب النّاشز أيّما تشنيع كما مرّ معنا، والذي نهى عن الضّرب صراحا بواحا (لن يضرب خياركم ـ لا تضربوا إماء الله) والذي عرفناه أشدّ الخلق كلّهم ميلانا إلى الرّفق والحلم والصّفح والرّأفة والرّحمة. ذلك نبيّ يعسر جدّا أن يأمر بضرب ولد لم تجب عليه الصّلاة شرعا. العلاقة بين هذا وذاك بعيدة في العقل، والمسألة هنا عقليّة مفهومة وليست تعبّديّة. 
النّبيّ الذي يأتيه الشّاب يستأذنه في الزّنى فيحاوره بكلّ لطف ورفق ويبيّن له بالعقل أنّ الزّنى الذي لا يريده هو لأمّه وأخته لا يريده النّاس لهنّ. النّبيّ الذي لا يزيد على وضع يده في وجه الفضل بن العبّاس وهو رديفه فوق بغلته ويحدج الخثعميّة ذات الجمال السّاحر بعينيه حتّى إذا إنصرفت لم يراجعه بكلمة واحدة. النّبيّ الذي ينزل من منبره وهو يخطب في الجمعة ليحتضن سبطه الذي يتعثّر في ثوب طويل. النّبيّ الذي يظلّ ساجدا أكثر من العادة وهو للنّاس إمام بسبب إتّخاذ سبطه ظهره له ملعبا. النّبيّ الذي يتعجّل في صلاته على غير العادة لأنّه سمع بكاء صبيّ في المسجد. هذا نبيّ لا يمكن أن يأمر بضرب ولد لم يبلغ الحنث بسبب عدم صلاته. كيف ولو مات ذلك الولد فلا حساب عليه لأنّه غير مكلّف بها أصلا؟ قال بعضهم أنّ إهتمام السّابقين بالسّند كان أكثر من إهتمامهم بالمتن. ربّما، ولكن في حدود صغيرة، وليس هذا عامّا مطلقا، وهي إجتهادات على كلّ حال. 
ولكن الذي لا يعلمه كثيرون أنّ أكثر المحدّثين عندما يثبتون حديثا في كتبهم فليس يعني ذلك أنّهم يرون صحّة ذلك الحديث. إنّما هم ينقلون ما نسب إليه ﷺ ولهم فيه سند، لأنّ المهمّة القادمة هي مهمّة الفقهاء. هم الذين يعدّون تلك الأسفار مستودعا لكلّ ما نسب إليه، ومنه يأخذون ويدعون. ناهيك أنّ مالكا نفسه وثّق حديث (البيّعان بالخيار) ولكنّه لم يعمل به. وهي مهمّة النّقاد الذين يعالجون تلك الأسفار فيما عرف بعلم الجرح والتّعديل. عدا البخاريّ ومسلم ومالك وغيرهم قليل جدّا ممّن أعمل التّحوّط فشرع لنفسه شروطا لتخريج الحديث. والأمر نفسه يقال هنا : عندما قال ﷺ بضرب الولد ـ إن صحّ وهو عندي ليس صحيحا ـ فليس يعني ذلك الأمر بالضّرب. 
أصوليّا ترتّب المسألة على أساس أنّ السنّة لا تتجاوز الإباحة كلّما تعلّق الأمر بما لم يرد في الكتاب العزيز، إلاّ بيانا أو تبيينا لما هو مجمل أو عامّ يخصّص أو مطلق يقيّد. أمّا إستئثار السنّة بالتّشريع الإبتدائيّ الإستئنافيّ تشريعا ملزما وإستقلالها به إلاّ إستقلالا وظيفيّا فلا حجّة له. القرآن الكريم الذي رأينا كيف تشدّد كلّ التشدّد في ضرب النّاشز وعقّب عليه بالتّهديد ليس من منهجه الأمر بضرب ولد غير مكلّف بالصّلاة لأنّه تركها. هل عثرت على حديث واحد فيه صحابيّ ضرب ولده لهذا. أبدا. الحديث إذن ـ حتّى على فرض صحّته ـ فهو ليس للعمل به. عمل الصّحابة حجّة في مثل هذا، إلاّ أن يكون التّأويل مناسبا لتأويل ضرب النّاشز. أي وعظا وضربا بعود أراك. وهو إلى المداعبة والملاعبة أدنى. أمّا ضرب التّأنيب والعقوبة ـ بله التّنكيل ـ فلا مجال له هنا.
هل يكون الضّرب علاجا؟
هنا نشتبك مع مستويين : مستوى الشّريعة نفسها ومستوى الفلسفة الغربيّة. الإشتباك مع المستوى التّشريعيّ يعلّمنا أنّ الضّرب عندما يكون في محلّه يكون علاجا أو طرفا من أطراف العلاج. وذلك في بعض العقوبات البدنيّة الصّحيحة. من مثل الجلد. الجلد وليس الرّجم الذي هو شريعة يهوديّة سالفة نسخها الإسلام. ولكنّ الجلد يكون علاجا عندما تقترف عقوبة العدوان على عرض المرأة وعلى النّظام العامّ. ذلك أنّها عقوبة لا تتحقّق إلاّ بشهادة أربعة ممّن عاينوا ذلك بأنفسهم. هي إذن عقوبة على إشاعة الفاحشة في النّظام العامّ. هنا يكون الضّرب علاجا، لأنّ إرادة تبديل النّظام العامّ جريمة تكون جنايتها على المجتمع بأسره، بل على البشريّة جمعاء قاطبة. أمّا الجمع بين نوعي الضّرب (الزّاني والنّاشز) فهو جمع لمتنافرين كلّ التّنافر. أمّا الإشتباك مع الفلسفة الغربيّة قولا بأنّ الإيذاء البدنيّ في مثل هذه الحالات الخطيرة التي تعرّض النّظام العامّ للأمّة إلى الإندثار هو عدوان وفوضى وتخلّف وغير ذلك فهو إشتباك مرفوض لأنّ ما يحقّقه الضّرب هنا (إرادة تصريم النّظام العامّ) لا تحقّقه عقوبات أخرى.
تقييد بعض التّشريعات مطلوب
هذا مبحث أصوليّ مهمّ، وهو حقّ الدّولة (عندما تكون مشبعة بالشّرعيّة والمشروعيّة معا) في تقييد بعض التّشريعات التي يمكن أن تفضي إلى غير مقصودها. وهو يسمّى في الفقه الأصوليّ بالذّريعة فتحا وسدّا. من حقّ الدّولة إصدار تشريع يقيّد تعدّد الزّوجات لأسباب إجتماعيّة أو حتّى دينيّة. هو عمل أقدم عليه الفاروق إذ منع ولاته من نكاح غير المسلمات ومصادرة شطر أموالهم بعد إنتهاء مهامّهم. ومن مثل حقّ الدّولة في تحديد موعد واحد للإفطار أو الصّيام سعيا لتوحيد كلمة الأمّة وغير ذلك. المقصود من هذه التّقييدات لمباحات (وليس لأحكام قطعيّة ملزمة واجبة أو محرّمة) هو جلب مصالح أو درأ مفاسد. من هذا المنطلق الأصوليّ فإنّ أولي الأمر الشّرعيّين مطالبون بتقييد الضّرب سواء للنّاشز أو الولد، ويمتدّ ذلك ليكون شريعة في المجال التّعليميّ، فلا يضرب المعلّم تلميذه ولا الأستاذ طالبه. ولا حتّى المؤدّب في كتّابه من يعلّمهم. مسوّغات هذا التّقييد كثيرة. منها شيوع الضّرب في العائلة والمدرسة بغير موجب وبغير حقّ في أكثر الأحيان، وليست هي زلاّت فردية أو حالات مخصوصة. ومنها كذلك تنزيل عقوبة رادعة على من يضرب الوجه، إذ فيه نهي نبويّ صحيح صريح. نهى عن ذلك حتّى لمن يضرب الدّابة. نبيّ يرأف بالدّابة كلّ هذه الرّأفة ويأمر بضرب الولد غير المكلّف أو بضرب النّاشز !!؟
الهوامش
(1) سورة النساء - الآية 34
(2) سورة النساء - الآية 128
(3) سورة المجادلة - الآية 11
(4) سورة البقرة - الآية 259
(5) سورة النساء - الآية 35
(6) سنن البيهقي الكبرى: ج7/ص304 ح14553
(7) فتح الباري شرح صحيح البخاري، ج9، ص213