الأدب الهادف

بقلم
محمد المولدي الداودي
بقرة صفراء..
 كان ذلك في سنوات الفقر والجوع حيث ينام أهل القرية بلا أفق يتوسّدون أحلامهم في سفح جبل يلتقطون منه خبزهم أو ما يسدّ الرّمق منه، ولكنّه لا يشبعهم ولا يشبع صغارهم..
قال:وفي تلك السّنوات منعت السّماء ماءها وكانت الأرض قفرا لا حياة فيها، فودّع الرّجال القرية واّتجهوا جنوبا يطلبون ليبيا متسلّلين في تلك الصّحاري حتّى إذا عبروا التقطتهم مشاغل الحجارة أو غيرها من الأعمال الشاقّة، ولكنّهم على ذلك يجتهدون في جمع ما أمكن من مال ويصلون النّهار باللّيل عملا ،فالسّاعة في الغربة لا تكاد تمضي وهم يستعجلون الرّجوع..ثمّ نشأت بينهم وبين الوافدين من مختلف المناطق التّونسيّة مودّة وتعارفوا على عادات وطّدت بينهم مشاعر الانتماء، فكانوا بذلك مجتمعا غريبا في أرض تحتاج أيديهم وتخشى اجتماعهم...ومن عاداتهم أنّهم كانوا يتناوبون الرّجوع إذا مضى الشّهران أو الثّلاثة، فيرسلون معه قلوبهم وما جمعوا من مال أو ما اشتروا من ملابس أو هدايا أو مذياع وكثير من الصّور وغيرها ممّا تقدر عليه حقائب المسافر...وفي كلّ موعد تشرئبّ القلوب والأعناق ترقّبا حتّى إذا بلغ الرّجل مشارف القرية وتبيّنه أهلها تنادى النّاس ثمّ يحتفلون..
يجلس العائد من ليبيا والمحمّل بوصايا المغرّبين عن الدّيار في ذلك الرّكن من البيت ..وكلّما أقبل عليه أحد الأهل قام إليه مسلّما، وتتكرّر مع كلّ زيارة أسئلة كثيرة عن الغائبين وتتكرّر معها أجوبة العائد من ليبيا..نظرات تستكشف الملامح الخفيّة وما تغيّر من الرّجال ومن النّساء وأسئلة الشّوق والحنين تعبر أسماعه، فيجيب مطمئنا وقد تعبر شفتيه ابتسامة مجاملة أو تأكيد لقول أو سلام..كبار القرية يستشعرون قلقا مكتوما تخفيه قبضة اليد أو سمرة قاتمة لم تكن فيه قبل السّفر أو بعض النّدوب في ما انكشف من يديه إذا رفعها ...
يرتفع صوت من بعيد يأمر الصّبية بالمغادرة، فقد امتلأ البيت بالنّاس وعلا الحديث حتّى صار لا يفهم، وأمّا الصّبية فلا يسمعون، فقد دفع بهم الفضول إلى تصدّر مجلس الرّجال وعيونهم لا تغادر حقائب مركونة في ذلك الموضع من الرّكن، فيلقي إليهم ببعض الحلوى ولكنّهم لا يبرحون مكانهم..
النّساء في صحن البيت يتحاشين عيون الرّجال، وإذا مرّ بهنّ أحد كبار القرية أخفين وجوههنّ بطرف الرّداء، ثمّ تخفت الأصوات فلا كلام..النّساء أشواق تكاد تنطق وأسئلة خجولة ترمي بها النّسوة إلى بعض العجائز فلا يقدرن على طرحها حياء، وكثيرا ما تلوح من العجائز ابتسامات تؤكّد الفهم والاستجابة ... في ذلك المقام لا قيمة للكلام، فأغلبه مجاملات لا تقول ما تخفيه القلوب ..العالمون بلغة العيون والمتحسّسون لهزّات الأصوات حين السّؤال عن الأزواج أو الأبناء أو الآباء فقط يدركون تلك المعاني العميقة...
تميل الشمس إلى الغروب ويشرع العائد في ترتيب الحقائب ثمّ ينادي الأهل حتّى إذا فرغ من ذلك قام مودّعا للزّائرين ..في كلّ بيت في القرية حقيبة مملوءة بالأسرار والأشواق والأمنيات ..وحين يشرع الأهل في فتحها يسود الصّمت، فكأنّه فعل طقوسيّ لا لغو فيه ..ملابس تساوي عدد العائلة وتجهيزات منزليّة وما ادّخره من مال ثمّ رسالة يجتهد أحد الصّبية في قراءتها وقد يخطئ أو يتلعثم، فتنهره الأمّ حتّى إذا انتهى طلبت منه قراءتها مجدّدا، وهكذا في كلّ يوم ثمّ تخفيها فكأنّها بعض من روحها..
****
لا ينقطع الصّبية في البيت عن معاودة البحث في كلّ زوايا الحقيبة وما ثني منها حتّى إذا اكتشفوا شيئا اجتهدوا في إخراجه وقد تكون صورة للأب أو قد تكون ورقة أحسن الوالد طيّها أو قد تكون قوقعة لصدفة رسم في تجويفها قلب وكلمات أخرى فيها شوق مكتوم..يختلسون قراءة «الجواب» ويجتهدون في فهم الرّسوم، ولكنّهم يعيدون ترتيب الأسرار في مواضعها حتّى إذا عادت الأمّ افتعلوا البحث وتظاهروا بالمفاجأة.. 
المشاعر عند أهل القرية كالأسرار يصعب اكتشافها حيث يجتهد النّاس في إخفائها، ولكنّها تظلّ دائما صلة الجمع بين نسوة في قرية مغمورة بعيدة ورجال مغرّبين كالمنفيين في الأرض، وتتحوّل الأشياء الصّغيرة والغامضة إلى مراسيل للشّوق يفهمون منها ما تقوله الرّيح صفيرا في قوقعة لصدفة رمى بها البحر جهة الشّاطئ في ليبيا. ومن عجيب صنع النّسوة ثمّ الصّبية في القرية وضع القوقعة على الأذن ثمّ تخيّل ما يتمنّى النّاس من أصوات ...
في القوقعة أصوات الحنين وأنفاس الأشواق تحدّث بلغة البحر والموج، وأحيانا تسهو النّساء أو يذهب بهن الحنين بعيدا، فيخاطبن أصوات الرّيح تعبر في حجارة الأصداف ..
تنتهي كلّ الرسائل التي بعث بها الرّجال إلى الأهل بوصايا مشدّدة تقضي بإرسال الصّبية ذكورا وإناثا إلى المدرسة، فكأنّهم يرسمون بذلك أفقا لقرية بلا أفق، أو هكذا يعتقدون..ثمّ يختم الرّجال «الجوابات» بذكر وجوه صرف ما أرسل من مال هو كلّ جهدهم في الشّهرين أو الثّلاثة، وقد يتفق الجميع على وجه واحد كثيرا ما يتعلّق بشراء الأغنام أو الأبقار أو غراسة بعض الأرض زيتونا..
في صباح يوم الخميس ثمّ صباح يوم الجمعة يقصد رجال القرية المدينة لشراء ما يناسب من غنم أو بقر تحقيقا لوصايا المغرّبين منهم، ثمّ يتوسّعون في شراء ما تمنّوه كثيرا في أسواق ماضية بلا مال..مع كلّ عودة تستعيد القرية قليلا من حياة وكثيرا من شهوة، فيقبل النّاس على شراء ما حرموه، ويسري في الوجوه سرور أخفته أيّام الحاجة والشّدّة. ومع كلّ عودة تتجدّد القلوب والأشواق، فكأنّ نصف الرّوح في هذا المكان..
مساء كانت البقرة أمام البيت نفورا تطلب أهلها في غير هذا المكان يحيطها الصّبية فإذا اقتربوا منها حرّكت رأسها فيهربون..ينادون الأم فيمنعها انشغالها عنهم من الجواب، فقد كانت تعدّ ما به تستوطن هذه البقرة هذه الأرض..ترمي لها بالأعلاف وتدني منها سطل الماء حتّى إذا اطمأنت رسمت على أوّل الرّأس يدا من حنّاء تيمنّا وتبرّكا، فلعلّها تكون مدخول رزق وبركة لأهلها...كانت البقرة صفراء نقيّة الصّفرة لا يخالطها لون آخر وكانت الأمّ تتعجّب من ذلك أشدّ العجب ولكنّه عجب يغالبه السرّور..
****
بعد عام أو يزيد قليلا تغيّرت الحال في ليبيا وهبّت رياح الظّلم، فعصفت بكلّ الأماني التي حملوها معهم في رحلة التّيه. صارت العيون تراقبهم والآذان تتحسّس أنفاسهم وكلّ سرّ عندهم معلوم ..يزورهم غرباء في مشغلهم ويسألون..ثمّ يسألون ثمّ يأتي آخرون فيسألون نفس الأسئلة..أحد «أعرافهم» حدّثهم محذّرا فقال: «كثير من التّوانسة في التّحقيق الآن وكثير منهم في السّجن»..
يكفي أن تتخيّل ذلك حتّى تشعر بالدّوار ويغيب الأفق كلّ الأفق من أمامك..يكفي أن تتخيّل ذلك..غريب في أرض الغربة في سجن وبلا تهمة وبلا سبب..سؤالك عن السّبب قد يتحوّل إلى تهمة وهؤلاء الزوّار الغرباء هم ضبّاط أمن يبحثون في النّوايا وفي الأحلام وما يتخيّله النّاس ..يفتّشون القلوب والصدور والعقول ثمّ يكتبون التّقارير..في تلك الأيام صارت ليبيا منفى كبيرا يحده البحر والصّحراء وما بينهما هواجس الغرباء يتخفّون في الأحواش ويطلبون الأمان من أهلها وقليل من يستجيب..
التقوا ليلا وتحسّسوا الجدران.. فللجدران آذان..تكلّموا همسا ..نظراتهم الحائرة تشي بعجزهم وقلّة حيلتهم وجميعهم يجهل سبب هذا التّغيير..لقد اجتهدوا في أعمالهم كلّ الاجتهاد، علاقتهم «بأعرافهم» طيّبة والكلّ يثني على أخلاقهم، والأمانة عندهم وصيّة من وصايا الآباء يحفظونها كما يحفظون أعراضهم .. شكر جيرانهم أخلاقهم وتحدّث عنهم أهل المدينة بخير ..فما الذي تغيّر؟ 
ليس مهمّا معرفة الأسباب فالمهمّ الآن هو النّجاة ..تبدو المعادلة بائسة وقاسية  ..فقد تحوّلت الخيبات إلى أقدار وصار حلم النّعيم خوفا من الجحيم ..تحاصرهم انتظارات الآباء والأمهات والزّوجات والأبناء في تلك القرية. لقد وعدوهم في كلّ رسائلهم بالنّعيم وتعويض أيّام الجوع والخوف وعاهدوهم على فعل ذلك.. الآن يخافون العودة خائبين كمن يحمل آلامه ويلقي بها بين أهله..خفتت الأصوات وامتدّ الظّلام كثيرا، فلا شيء يرى وقليلا ما تقطع آهة ثقل السّكون ..وحين يمتدّ الصّمت يعلو صوت في الظّلمة «وحّدوا اللّه» فيهمس الجميع «لا اله إلاّ اللّه»..
ارتفع صوت تبعته وشوشة الجميع تطلب همسا ولكنّه واصل الكلام..كان صوت علي ولد المرحوم أحمد أحد شباب القرية وفتيانها، شبّ يتيما في رعاية أمّه «سعديّة»، وكانت «سعديّة» في القرية تعدل كلّ الرّجال، تعمل أعمالهم وتزاحمهم في الجهد حتّى أنّها الوحيدة من نساء القرية التي تقصد سوق المدينة للبيع أو الشّراء..أخذ علي ولد المرحوم أحمد صفات العناد والمغالبة من أمّه وصفات المغامرة من المرحوم والده ولكنّه عناد مع أخلاق ورجولة..في تلك اللّيلة تكلّم كثيرا فنسي الجميع حذرهم وجادلوه..
تكلّم علي وكأنّه يحدّث أمّه «سعديّة» التي وعدها كثيرا..سعديّة التي اضطرّت لبيع كلّ حليّها ليتمكّن علي من مرافقة رجال القرية في رحلتهم إلى ليبيا ..وفي ليلة الوداع أقسم علي لسعديّة على أمور كثيرة، وحين احتضتنه قبل الرّحيل أوصته مع كثير من الدّعاء ..منذ سنوات البلوغ تغيّرت سعديّة مع علي وهو بكرها وأقرب أبنائها إليها، فلم تعد تظهر حنوّا أو ملاطفة كما كانت تصنع دائما في صباه، وكانت إذا رأت منه تردّدا أو ليونة تنهره بشدّة فلا يتردّد وتقول كلماتها المعتادة «عش رجلا ومت رجلا مثل أبيك»..
في تلك اللّيلة عبرت مشاهد كثيرة وجدانه الفتيّ، واخترقت ذاكرته أحداث قاسية مؤلمة صنعت منه شابّا متمرّدا عنيدا لا يعرف الاستسلام..في تلك اللّيلة لم يحدّث أحدا من رفاقه وإنّما كان يحدّث أمّه «سعديّة» وإخوته الصّغار في قرية منسيّة يأكلها الفقر والجوع ...في كلامه شوق وخوف أحسن إخفاءه ..حاول طمأنة الجميع ولكنّه فشل فما يحدث للتّوانسة لم يعد سرّا والكلّ مطارد وبلا سبب..طلب منهم إتمام الشّهر وانتظار ما تؤول إليه الأمور وسرّب أملا كثيرا في كلامه ولكنّهم رفضوا..كانوا يتعجّلون المغادرة وبلا تأخير..كان الموت ظمأ في الصّحراء أهون عليه كثيرا من الرّحيل جبنا وبلا سبب من ليبيا وعندما تتساوى الخيارات فلا مهرب من المغامرة..
****
كان الفصل صيفا ..والوقت ضحى..ينتشر أهل القرية منذ ساعات الفجر الأولى في الحقول أسفل الدوّار  يجمعون محاصيل ما بذروه من حبوب وكلّما اقتربت منهم تتهادى إلى أسماعك أهازيج النّساء وقد أخذتهنّ حماسة الحصاد وقد تسمع أذكار الرّجال يمازجها صوت هشيم السّنابل تنثني بين أيدي «الحصّاد» في ارتخاء لذيذ، وعلى امتداد السّهل ينتشر الصّبيان في الحصائد يرعون قطعان الأغنام والأبقار ويردّدون ما حفظوا من سور القرآن ..وحين اكتمال الضّحى وبداية الحرّ تأخذ النّسوة في تجميع حزم السّنابل في الشّباك، ثم يحملنها على الأحمرة إلى الدوّار، ثمّ يكدسنها أمام البيوت..في هذا الوقت من السّنة تمتلئ القرية بالحياة ويشعر النّاس بطمأنينة تشيعها أكداس السّنابل المجمّعة في البيادر استعدادا للدّرس.
كان الوقت ضحى ..والكلّ منشغل في عمله يستعجل المقيل حتّى تعالت أصوات الصّبيان من الحصائد تشير إلى نفر من النّاس كانوا قد سلكوا طريقا فرعيّة تنتهي عند آخر بيت في الدوّار.انتبه الجميع وتوقفوا عن أعمالهم وانتشر بينهم الهمس وتعاودوا الأسئلة وتشاركوا الحيرة..
استعجل الرّجال النّساء العودة، وسارعوا إلى الدوّار يستطلعون أخبار هؤلاء القادمين على غير موعد ..وما إن بلغوا بيوتهم حتّى يقنوا خبر عودة أبنائهم العاملين في ليبيا.. أجساد خاوية بلا روح ووجوه قاتمة نحتتها الأحزان ومشاق الطّريق وأهوال الصّحراء، وكان اللّقاء صامتا مرتبكا حزينا..لم يسألوا كثيرا وإنّما دعوهم إلى الاستراحة..النّساء كما الأطفال مغمورون بالحيرة والقلق، وسؤال خفيّ يعبر كلّ العيون فتلوكه الألسنة ولا تنطق، والكلّ ينتظر..
اجتمع العائدون في بيت «الحاج صالح» وهو أحد شيوخ القرية وله فضل على أهلها وإليه يحتكم المتخاصمون وتشكوه النّساء ظلم الرّجال أو تقصيرهم و قوله عندهنّ عدل ..التفت إلى ولده الأكبر «عبد اللّه» وكان أحد العائدين من ليبيا، وأمره بإدخال بقيّة رفاقه إلى بيت الضّيافة للاستراحة.وطلب من بقيّة ولده دعوة النّاس إلى حضور العشاء.
أنهكهم السّفر أيّاما كثيرة وأفزعهم خوف السّؤال..النّظرات الحائرة تكاد تنطق، والقلوب يكاد وجيفها يسمع، والكلّ ينتظر اجتماع الأهل. ومن وراء الباب المغلق في بيت الضّيافة تتسرّب إليهم الأصوات فيعرفون أصحابها ويتهيّبون الجواب..
كانت بيت «سعديّة» في أوّل الدوّار على طريق «السوّاقة» بعيدا عن بيت «الحاج صالح»وكان في أعلى السّفح قريبا من الجبل تفضي إليه ثنايا وطريق فرعيّة يعلمها سكّان القرية ولا يسلكها غريب تمرّ ببعض حقول الزيتون المحروسة بالصبّار  وكان البيت منذ القديم مجمعا للناس في نوازلهم فيه تعرض أمور القرية إذا اختلف فيها النّاس وكثيرا ما يكون الرّأي الجامع رأي «الحاج صالح»..
تناهى إليها الخبر ككلّ أهل القرية وتهيّأت لاستقبال ولدها «علي» وأعدّت ما يمكن إعداده لحبيب غرّبته الحياة..نادت ولديها اللّذين يرعيان الأغنام في الحصيدة بعيدا عن البيت ودعتهما إلى العودة..
طال انتظارها لقدوم «علي» وقرّرت «سعديّة» الامتناع عن استقباله أو احتضانه أو حتّى تقبيل جبينه..فكّرت في مشقّة الرّحلة وتعبها، وبحثت له عن أعذار كثيرة ولكنّها غضبت لتأخّره رغم هذه الأعذار..الدقائق بالسّاعات والشّوق يحفر في الصّدر يريد الخروج، والجسد مستعدّ للحظة اللّقاء ..لقاء «علي» لا يشبهه لقاء، واحتضانة بعمق يجعل من «سعديّة» قويّة قادرة على مواجهة كلّ هذه الحياة..كانت تجد في ولديها الصّغيرين «سعد» و«منية» رخاوة تكرهها في الرّجال وفي النّساء..سئمت الانتظار داخل البيت كانت تصعد إلى أعلى التلّة تراقب القادمين إليها من ثنايا الدوّار ثمّ تعود إلى البيت ترتّب أشياءه .. 
انتهى ولداها من إدخال الأغنام إلى المراح. أخبرتهما عن خبر عودة الرّجال من ليبيا وعن تأخّر «علي» في القدوم إليها وعن غضبها منه ..كانت تتوعّده كما لو كان طفلا صغيرا ..كانت تحدّثهما وعيناها تجوب الثّنايا البعيدة تستطلع القادمين ..كانت تحدّثهما وكأنّها تناجي نفسها ..
بلغ «مصطفى ولد الحاج صالح» بيتها وأعلمها بما اجتمع عليه رأي الأهل في استقبال الرّجال العائدين من ليبيا في بيت الضّيافة ودعاها إلى مرافقته ..المسافة الفاصلة بين بيت «سعديّة» وبيت «الحاج صالح» تساوي امتداد الدوّار من جهته الشّرقيّة حتّى الجهة الغربيّة، وعلى طول الطريق ألقت «سعديّة» كلّ الأسئلة ولكنّها لم تظفر بجواب ..سألته عن سبب عودتهم المفاجئة وعن أحوالهم ..سألته عن ولدها عليّ وبقيّة رجال القرية العائدين، وكان مصطفى بارعا في قتل السّؤال وإخفاء الجواب، ومع كلّ خطوة تخطوها تشتدّ حيرتها، فتلتفت إلى ولديها تستحثّهما المسير..
كان بيت الضّيافة حوشا كبيرا مجاورا لبيت الحاج صالح وقد خصّصه الأهل منذ القديم للمناسبات والنّوازل، ولا يجتمع فيه النّاس إلاّ لأمر عظيم يحتاج رأيا جامعا لا يختلف فيه أهل القرية، وكثيرا ما يتعاون النّاس في تأثيثه أو صيانته أو في الإعداد للولائم أو الأعراس أو ختان الأطفال أو حين استقبال الضّيوف أو ممن ينزلون بالقرية من الغرباء، وتلك عادة ألفها النّاس وصارت عندهم عرفا محفوظا..
اجتمع كلّ الأهل مغيبا وأوقد القائمون على البيت فوانيسه ودعاهم أحد رجالهم إلى الصّلاة مؤذنا، فقلّ الصّوت والكلام، وساد السّكون خشوعا وانتظارا حتى إذا فرغوا من صلاتهم ودعائهم تكلّم «الحاج صالح».
****
كانت كلماته مجازا بين المعاني. كان يدرك قسوة الانتظار، فيقول مذكّرا بفضيلة الصّبر والرّضا بالأقدار..وكانت «سعديّة» تستمع إليه ككلّ الحضور وحين حديثه كانت تختبر ظنونها وتبحث في قليل من نور تبعثه الفوانيس في الحوش عن ولدها «علي» من بين الرّجال..في كلّ أيامها كان قلبها خبيرها وكانت دائما تتبع مشاعرها وتعتقد في صدقها..وهذا الحوش لا يعبق برائحة «علي» ولا يلوح خياله لها من بين كلّ هؤلاء النّاس..لقد كانت على ضعف بصرها تتبيّن ولدها «علي» من بعيد ومن بين العشرات من النّاس .. قلبها خبيرها هكذا كانت تحدّث النّساء إذا وقعت المحن وتحقّقت المخاوف..كان ذلك في وفاة زوجها حيث أمضت يوما كاملا تتطلّع إلى الثّنايا على قلق وترقّب ..كان قلبها يحدّثها بأمر عظيم سيحدث ومغيبا حدث..أقبل عليها النّاعون، وألقوا في قلبها حزنا دائما لم يغادرها منذ ذلك اليوم..هذه اللّيلة تستعيد تلك المشاعر ويتوثّب جسدها المنهك وقلبها المتعب لسماع أمر فظيع..تعبر كلماته الأسماع فكأنّها الأسرار تأبى انكشافا..
رحّب بالجميع وشكر لهم تلبية الدّعوة والحضور ومدح في استهلاله كبار القرية نساء ورجالا، ثمّ نظر يمينا حيث اجتمع الرّجال العائدون في موقع الضّيوف من الأهل وقال «إنّ الرزق مكتوب كالأعمار لا يعلم النّاس مكانه ولا يعرفون آجاله وكلّ مكتوب حتّى يقضيه اللّه.. وإذا دام العمر دام الرّزق ..الفائدة في السّلامة..». ثمّ نظر صوب بيت النّساء تردّد قليلا وكأنّه يتخيّر العبارات ثمّ تابع الحديث: «ولدنا علي ولد الحاج أحمد ..ولد سعديّة خيّر البقاء ..وإن شاء اللّه في بقائه خير..هو اختار ذلك..علي كما عرفتموه صنديد ولا خوف عليه بحول اللّه..». كانت كلماته مرتبكة بلا معنى ..يتصنّعها تصنّعا يعلم فراغه..
ساد الصّمت وتبادل الكلّ النّظرات والحيرة..وعجزت الألسنة عن الكلام.. وفي ذلك الرّكن المظلم من البيت الذي اجتمعت فيه نساء القرية كانت سعديّة تسترجع كلمات الحاج صالح كما يسترجع الجسد المنهك المثخن بالجراح طعنات الخناجر..علي ولد سعديّة خيّر البقاء في ليبيا ولم يعد مع العائدين..تبدو كلماته نعيا خفيفا أو إعلان وفاة بالتّقسيط..ولكنّها قفزت من بينهنّ ودفعت من كنّ أمامها من نسوة، وفكّت عقال لسانها في حضرة الرّجال..ما عاشته سعديّة من محن بعد وفاة زوجها «المرحوم أحمد» أخفى كثيرا من أنوثتها وجعلها أقرب إلى صفات الرّجال، وإذا تندّرت النساء بها في مقامات المعابثة قلن «استرجلت سعديّة»..وقفت وسط الجمع لا ارتباك في قولها ..متماسكة رغم وهن الجسم وعلله الكثيرة..صامدة لا تريد أن تظهر ضعفا أو انهزاما..التفتت إلى الرّجال العائدين ونظرت في وجوههم تريد عتابا ولكنّهم أخفوا وجوههم بين أيديهم وأشاحوا الأبصار..اقتربت من «الحاج صالح» وكان يتصدّر المجلس وأقسمت عليه أن يقول الحقيقة ..
نادى الحاج صالح ولده عبد اللّه وأقسم عليه أن يحدّث النّاس صدقا ..ينبعث الصّوت خافتا منهكا خجولا.. حدّثهم حديثا مرّا عن أهوال ما حدث للتّوانسة..لم يكن مجرّد التّفكير في البقاء ممكنا، فأخبار الاعتقالات تتوالى على العمّال وتحذيرات لأصحاب العمل من اللّيبيين..كانوا أحبّة للتّوانسة ولكنّهم لا يملكون لهم شيئا ولا يقدرون على حمايتهم..كلّ شيء بيد أجهزة الأمن ورجال الاستعلامات..ويكفي أن تكون تونسيّا حتى تكون متّهما..اجتهد الكثير منهم في حماية العمّال التّوانسة، واحتملوا مخاطر إخفائهم أيّاما في منازلهم..ولكنّهم نصحوا الجميع بالرّحيل .. جميعنا نصح «علي» وجميعنا ترجّاه ..اتفقنا جميعا على العودة حين تستقرّ الأوضاع وكان هذا وعد الأصحاب في ليبيا ولكنّه رفض..كان يعتقد أنّنا نبالغ في المخاوف وما يرويه البعض من أخبار محض خيالات، وذكر أنّ صاحبه أمّنه وطلب منه البقاء في ليبيا للعمل، فقد كان يحتاجه أشدّ الاحتياج..
كان «علي» مطمئنا ولا يرى ضرورة للعودة ..وكثيرا ما كان يسخر منّا حين يتعجّل بعضنا الرّحيل..قبل عودتنا بيوم واحد التقينا صاحبه اللّيبي وأقسم على رعايته وتأمينه، وسيحرص على سلامته حرصه على سلامة أبنائه..ووعد بإيصاله إلى المعبر التّونسي ما إن ينتهي عمله في ظرف شهرين أو ثلاثة..تتسرّب بعض الطّمأنينة إلى قلب «سعديّة» فقد عرفت «عبد اللّه ولد الحاج صالح» صادقا ويحفظ له أهل القرية كثيرا من مواقف الرّجولة والشّهامة ..تتبدّد مخاوفها وما عليها إلاّ انتظار الشّهرين أو الثّلاثة. 
داوم «عبد اللّه» وبقيّة الرّجال العائدين من ليبيا على زيارتها وحرصوا على توفير كلّ ما تحتاجه ولقد بالغوا في ذلك ..ولم يكن يعنيها من زيارتهم إلاّ الحديث عن ولدها «علي» في ليبيا ..حدّثوها عن مآثره ومواقفه وشجاعته، فتهتزّ في نهاية كلّ حديث فخرا وسرورا وتقول:«هو تربية يدي ومحصولي من الحياة..» 
تمضي الأيام بطيئة فكأنّها ساكنة، وأضحت «سعديّة» على غير عادتها بارعة في عدّها وكثيرا ما تسأل ولديها عن اليوم أو الشّهر..أمّا الأهل في القرية فقد عادوا إلى حياتهم وحتّى أولائك الرّجال فقد أنسوا أعمالهم الفلاحيّة وصارت رحلتهم إلى ليبيا مجرّد ذكرى يمتزج فيها الفرح بالحزن مقترنا بأمل عودة رفيقهم «علي».
مرّت شهور كثيرة ولم يعد ولدها «علي» وصارت أيّامها ثقيلة متعبة..اعتزلت أهل القرية واختارت الوحدة. تجمع ولديها في البيت تخشى فراقهما وقد تصعد التّلال وترمي ببصرها في الثّنايا تستطلع قدومه حتّى إذا يئست عادت إلى البيت وأوصدت الأبواب وبكت بكاء مرّا..أصبح «عبد اللّه ولد الحاج صالح» وأصحابه يخشون زيارتها، فلم تعد «سعديّة» كما كانت وكثيرا ما تقترب من أحدهم وتشده من لحيته حتّى إذا تألّم أقسمت عليه أن يقول الحقيقة ثمّ تطلقه باكية، ثمّ تلعنهم جميعا وتقول فاحش القول فيهم..
لم يعد ولدها «علي» إلاّ طيفا يزورها في خيالاتها، واستقرّ في وجدانها أمر موته، وقد تستفيق من رؤيا مستبشرة متحفّزة مترقّبة..
مضت سنة أو يزيد ولم تعد «سعديّة» تحتمل غياب ولدها «علي»، ولم تعد تصدّق ما تراه في منامها من رؤى، وعزمت على أمر عظيم يكون معه الفرج أو الهلاك..
أرسلت في طلب «الحاج صالح»، أعلمته بعزمها على بيع تلك البقرة الصّفراء وكانت قد ألفتها لأنّها وصيّة ولدها «علي» ولأنّها من ماله..حاول إثناءها ووعدها أنّه سيقرضها ما تحتاجه من مال ولكنّها أصرّت..يعلم «الحاج صالح» إصرارها، وفكّر أن يشتري البقرة فهي لها متى شاءت ..ما تزال تحتفظ بتلك الحقيبة..رتّبت داخلها بعض الملابس ثمّ أحكمت غلقها..دفعت بكلّ ما جمعته من مال في يدي ولدها «سعد» احتضنته كثيرا ولكنّها لم تبك..أوصته أن يتوخّى الحذر في سفره..وأوصته ألاّ يعود من ليبيا وإلاّ ومعه ولدها «علي»..
ما يزال الفجر نائما..قمر بعيد يُرسل ضوءه في تثاؤب..ولد يسلك ثنايا القرية حتّى يغيب عن نظر أمّه كأنّه حلم أيقظته الحياة..
كانت إذا مرّت ببعض سهول القرية تسمع خوارها، فتبكي فقدا للولد وكرها للفراق..وفي نهاية تلك السّنة زوّجت ابنتها لغريب وأقسمت ألاّ ينالها أحد من شباب القرية فقد كرهت أهلها..ثمّ إذا كان اللّيل عادت إلى بيتها تنتظر فجرا جديدا وتنتظر أجلا..
****
تتوقّف سيّارة قريبا من الطريق ..ينزل السّائق ويتّجه نحو بعض الصّبية الرّعاة في السّهول في حين يظلّ الثّاني داخلها..يسألهم ..يشيرون بأيديهم إلى مكان بعيد..تتوقّف السيّارة في المقبرة..يبحثان عن القبر ويقرآن ما تيسّر من قرآن ودعاء..يبكيان طويلا ثمّ يغادران ..وكان هذا دأبهما في كلّ عام من بعد هذا..