بحثا عن المشترك

بقلم
أ.د.احميده النيفر
الوعي الفصامي في مجتمعات ما قبل السّياسة
 تتمثل إحدى المعضلات الكبرى الثّقافيّة للعالم العربي في أنّ قسما هاما من نخبه ما يزال خاضعا لتوقيتٍ تصوّري يرجع إلى ما قبل سقوط النّماذج الإيديولوجيّة الكبرى. تلك المعضلة هي التي تجعل عموم النّخب العربيّة المعاصرة تعيش حالة تُشبه فصام الوعي. من ناحية البناء الثّقافي وما يرسيه من نظرة إلى العالم تظلّ هذه النّخب مشدودة إلى إحدى منزلتين أساسيتين: منزلة الخطاب التّراثي الذي يظنّ أنّ الهويّة الثّقافيّة - الدّينيّة لا صلة لها بقيم العصر والتي من بينها قيمة التّسامح في صياغتها الحديثة. هي في هذه المنزلة منغمسة في علاقة تصادم مع الآخر لا ترى معه أكثر ممّا أقره رجال الشّرع من السّلف فيما يتّصل بأهل الذّمة. إزاءها تَمثُل منزلة ثانية، منزلة من يرى ضرورة توطين الحضارة الوافدة واستنبات قيمها تَوقّـيًّا خطرَ التّهميش التّاريخي واعتبارا لعجز الثّقافة المحليّة عن استيعاب مطالب الحضارة العصريّة.
نحن أمام وجهين لبنية ثقافيّة واحدة، بنية «التّمركز على الذّات»، تمركز يصادر كل تنوّع داخل مجتمعه وفي علاقته بالمجتمعات الأخرى. 
يكشف هذا التمركز زيفَ ما يظهر من تباين بين أصحاب المنزلتين، إنّه يعرّيه فيبديه جزئيّا لأنّ المنزلتين كلتيهما لا تُقرّان بأهمّية التعدّد الذي يعتمل في أعماق كلّ مجتمع وفي ديناميّة كلّ عصر. 
نفس التّمركز يفضي بكلتي المنزلتين، التّراثيّة والتّحديثيّة، إلى عدم تقدير أهمّية التّاريخ، لذلك تظلاّن قاصرتين عن صناعته مجدّدا. هذا ما آل إليه أمر التّراثيين الوثوقيّين: ظلّوا ضائقين ذرعا بزمنهم وقيمه وتوجّهاته الفكريّة، يحلمون بعصر ذهبي انقضى، فلا يعملون إلاّ على إعادة إنتاج أنفسهم معرفيّا. من هنا تعذّر تطوير فكر معاصر لأنّ الاستقالة أو الاحتجاج الدّائم لا يعبّران عن وعي سويّ بل يكتفيان بتسجيل موقف لا يفضي في النّهاية إلاّ إلى العنف. تحديثيّو ما قبل نهاية الحرب الباردة من جهتهم لا ينظرون إلى تاريخ الغرب بعقل ناقد، فلا يعيدون النّظر في حداثته بل يعملون على استنساخها على اعتبارها مكتسبات إنسانيّة واكتشافات عقليّة نهائيّة. ذلك ما شوهد في التّحديث العربي في العقود الماضية في أكثر من قطر: تحديثٌ هشّ وجزئي صاحبته مصادرة للتّنوّع وقمع للاختلاف، ممّا جعل الجهود الفكريّة والسّياسيّة غير مبدعة. 
في تقويم حصاد المنزلتين يمكن القول بأنّه ليس هناك بينهما فرق في الجوهر لأنّهما في تمركزهما لا يَعِيان أهمّية الاختلاف ذاته.       
إذا أردنا أن نحقّق في الأمر بالمثال فإنّ الفكر التّاريخي النّقدي يوصل إلى أن التّسامح في الغرب بمعناه الحديث وقع اكتشافه تدريجيّا. انطلق مع القرن السّادس عشر عبر حركيّة داخليّة وأخرى خارجيّة وضعت الضّمير الأوروبي أمام واقع أفرزته الحروب الدّينيّة وأثبتت من خلاله وجود أطراف داخل المجتمعات الأوروبيّة لا تشاطر المعتقدات الدّينيّة السّائدة. في ذات الفترة وإثر اكتشاف العالم الجديد اتضح للأوروبيّين وجود أعراق ولغات وثقافات لا عهد لهم بها. ثمّ تركّز في القرن الثّامن عشر مع ما عـُرف بعصر الأنوار الذي تنامت معه مفاهيم جديدة مثل الحرّية والتّسامح والفصل بين السّلطات. مثل هذه السّيرورة طوّرت قيما جديدة ومعان كامنة وُضعت لها مؤسّسات ترسّخت عبر القرون وهي ما تزال تنمو مُحدثة في كلّ طور تحوّلات نوعيّة تتطلّب وعيا مختلفا عن شروط الوعي السّابق.
كيف تم عندنا استيعاب هذه التّجربة التّاريخيّة الهامّة؟
ما تمّ من قِبل التّحديثيين العرب كان عجزا عن أيّ تمثّل لتلك السّيرورة في الأفق الثّقافي الخاصّ. لقد اختفت من اعتبارهم كلّ معاني التّكريم الإنساني في الثّقافة الإسلاميّة ومعها مضامين خلافة الإنسان في الأرض في المجالات المعرفيّة والأخلاقيّة والاجتماعيّة.كانوا كأنّهم ما سمعوا عن قيم الإسلام ومعانيه التّأسيسيّة فضلا عمّا تمّ إنجازه من خلالها في التّاريخ الوسيط من العالم القديم. 
أكثر من ذلك، كانوا - وهم الأقدر على تقويم نِدّيٍّ حضاريٍّ مع الآخر- يتغافلون عمّا شهده الغرب الأوروبي في القرن السّابع عشر من نقـاش تأسّست عليه مقولـة حرّية الضّمير التي أفرزت قيمـة التّسامح الحديثـة. من ثَم ّ فإنّهم لم يلقـوا بالاً لما تحقّق مثلا على يدي البروتستنتي «بيــار باييـل»(P. Bayle) في حواره مع الكاثوليكي «جاك  بوسيي»(J.Bossuet) عن كرامة الإنسان وضرورة تحييد الدولة وما يتولّد عنهما من قيمة حرية الضمير والاعتقاد وقيمة التسامح التي تعتبر عندئذ « قيما مركزية لا يمكن بحال التهاون بها لأن مكانة الفرد واختياره الحر من إرادة الله».
لا شكّ أنّ هذه الاعتبارات «اللاهوتيّة – الدّينيّة تراجعت في القرن الثّامن عشر مع «عمنويل كانت» (E.Kant) وغيره تاركة المجال للاعتبارات الوضعيّة في تأسيس قيمة الكرامة الإنسانيّة وحرّية الاعتقاد والتديّن. ما نرمي إليه بهذا المثال هو أنّ التّحديثيين في البلاد العربيّة الإسلاميّة ظلّوا مشدودين إلى مآلات الحراك الفكري والاجتماعي و أهملوا ديناميّة التّحوّلات التّاريخيّة التي عرفتها أوروبا والتي انتهت بها إلى تكريس قيم احترام الفرد وضمان حرّيته والتّسامح مع المختلف. لذلك لم يعوا أنّ علاقة تلك القيم بالتّاريخ الأوروبي كانت علاقة إشكاليّة أي أنّها لم تعرف حلا ّ ناجزا ونهائيّا، وأنّها لم تكن قطيعة مع الإيمان والتّأصيل الدّيني. لو أنّهم أدركوا تلك الدّيناميّة لما أنكروا التّوجّه التّجديدي الذّاتي الذي يساهم في إبداع سيرورة فكريّة لا تتصادم مع الإسلام بل تعمل من أفق الثّقافة والتّاريخ الخاصّين. 
الخطاب التّراثي من جهته كان قد تبنّى، نتيجة تمركزه على الذّات، منهجا إصلاحيّا وفق شروط وعي تاريخي سابق هدفه إعادة إنتاج حِقب ماضية. لذلك لم يكلّف دعاة هذا الخطاب أنفسهم  عناء الالتحام بشروط الوعي العالمي الجديد كما لم يفكروا فيما يجعل من قيم تكريم اللّه للإنسان وخلافته في الأرض قيما كونيّة مالكة ً لمشروعيةٍ عابرةٍ للتّاريخ وصانعةٍ له.
معضلة هذا النّوع من التّفكير هو اعتقاده الرّاسخ أنّ العالميّة التي تحقّقت ماضيا على أيدي المسلمين إنّما تحقّقت بالسّيطرة السّياسيّة- العسكريّة وبالأخصّ بالاحاديّة الثّقافيّة والهيمنة الدّينيّة. بهذا الرّأي الذي يسهل نقضه أصبح الفكر التّراثي مشدودا إلى أطوار تاريخيّة تمّ تحويلها إلى منظومة فكريّة واجتماعيّة مصادِرا كلّ تعدّد واختلاف. مثل هذا التّوجّه المتمركز على الذّات، النّافي للآخر لا يختلف عمّا سعى إلى إقراره دعاة التّمركز الأوروبي المقابل الذي يعتبر أنّ الإسهام الأهمّ بل الوحيد للإسلام في الحضارة الغربيّة يتمثّل في القطيعة التي أحدثها بين الشّرق والغرب؛ «فلولا محمد (عليه السّلام) والغزو العربي –الإسلامي لما اعتمدت أوروبا على نفسها من أجل النّهوض والتقدّم». 
هو وجه آخر لتمركز ثقافي عبّر عنه مثلا « هنري بيران» (H. Pirenne) في كتابه «محمد وشرلمان» حين اعتبر أنّه «لم يكن للثّقافة الإسلاميّة من أهمّية إلاّ بالقدر الذي مكّنت به الهويّة الأوروبيّة من أن تتحدّد، ذلك تمّ بفضل قطيعتها مع الثّقافة العربيّة الغازية».  
السّؤال المطروح على العالم العربي الإسلامي اليوم يتعلّق بالخروج من مرحلة الوعي الفصامي الذي لا يتيح للمجتمعات أن تعرف المعنى الحقيقي للسّياسة. هو وعي يسود معه اعتقاد كلّ طرف بامتلاك النّموذج الشّامل والوثوق في الانفراد بالرّؤية الأصح والإعراض عن الموضوعيّة والاختلاف. 
كيف تستعيد السّياسة معناها الحضاري وتتجاوز الدّولة المجالات المحدودة للإدارة والسّلطة، مستأنفة وظيفتها الكاملة في التّعبير عن الإرادة الحرّة للمجتمع؟
ذلك هو التحدّي الأكبر الذي ينبغي أن تواجهه النّخب العربيّة بإدراكها أنّها لن تكون فاعلة بحقّ إلاّ إذا تبنّت توقيتا ثقافيّا مغايرا يقوم على التآلف والتّثاقف، توقيتا يبدأ من النّقد الذّاتي لينتهي مع الآخرين إلى اجتراح الحلول الكبرى التي تنبثق من توازن فعلي بين كامل مكوّنات المجتمع.