حكم وأحكام

بقلم
الهادي بريك
الحلقة الخامسة : بأيّ حقّ لا تنكح المسلمة غير مسلم؟
 عدم الإهتمام بحكم الشّريعة ومقاصدها مقتلة للعلم ومذبحة للفقه. بل هو طريق يسير إلى التّعلمن وبغض الإسلام والتّنفير منه بحسبانه دينا جاء بالحرمان وعدم المساواة ونبذ العدل. الإنسان مفطور على الكرامة فطرة هي أرسخ الفطر فيه. فإذا دعي إلى دين جرعات المعقوليّة فيه مرجوحة تائهة فإنّه سرعان ما يتركه. نحن في زمن تطرح فيه الأسئلة المقاصديّة والهدفيّة والغائيّة من كلّ من هبّ ودبّ بسبب التّقدّم في نسب التّعلّم والتّثاقف وبسبب ثورة التّواصل التي جعلت من الأرض كلّها قرية صغيرة. ولهذا أبت الشّريعة الإسلاميّة إلاّ أن تتجهّز بجرعات كبرى من المعقوليّة. كنّا في السّابق نعتقد أنّ العلم بالحكم والمصالح حاجة علمائيّة لا مناص منها للعالم المفتي فحسب. وما شأن المسلم العاديّ بها؟ الآن تغيّر الوضع. وهو تغيّر يحبّه الإسلام. وقد تجهّز له كلّ التّجهّز. لا يشبع غليل شابّ متعلّم اليوم أن تقول له : هذا حرام. لماذا؟ لأنّ اللّه قال هذا. هذا المسلك أضحى فتنة من الفتن. من حقّ كلّ مسلم أن يعلم الحكم والمصالح والمقاصد قدر الإمكان. لا أنسى شابّا ألمانيّا أسلم حديثا ظلّ يلاحقني لأسابيع طويلة طالبا الإفتاء له بالتّبنّي بسبب عقمه. لا يعني هذا التّهوين من المعنى التّعبّديّ. أبدا. ولكنّ هذا يعني حصر ذلك في حقوله وهي على وجه التّحديد : العقائد السّتّ المعلومة والعبادات الرّكنية المعروفة. حتّى هذه معلّلة مقصّدة إستصلاحيّة. عدا أنّ بعض تفاصيلها ليست كذلك.
حكم نكاح المسلمة غير مسلم
ورد هذا في موضعين في الكتاب العزيز. الموضع الأوّل صريح في حرمة ذلك بدون أيّ خلاف. وهو قوله سبحانه:﴿وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ، وَلَأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ، وَلَا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّىٰ يُؤْمِنُوا، وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ﴾(1). الموضع الثّاني صحيح غير صريح في هذا التّحريم. وهو قوله سبحانه :﴿لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ ولاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ﴾(2). الموضع الأوّل كاف وزيادة والإستنجاد بالموضع الثّاني لا محلّ له في الإستدلال. إنّما إستنجد به دليلا على عدم نكاح الكتابيّ كذلك. وهو بعيد. ولنا مع هذا فقرة لاحقة.
القرآن الكريم أورد جزءا من التّعليل
من طبيعة القرآن الكريم أنّه لا يورد كلّ علل المسألة أو مصالحها. أوّلا لأنّ ذلك يطول. وثانيا لأنّ الأولى به التّركيز على ما يخصّ أهل التّنزيل من ذلك. وثالثا لأنّه يفوّت للعقل في إستنباط علل أخرى. العلّة الواردة هنا هي علّة إجماليّة شاملة يمكن أن تنتظم تحتها مصالح أخرى. العلّة هنا هي خصومة الإسلام مع الشّرك خصومة عدائيّة لا يمكن أن يجتمعا في أثنائها تحت سقف واحد. بيت واحد يدعو ركنه الأوّل إلى النّار ويدعو ركنه الآخر إلى الجنّة؟ علّة عقليّة مقبولة مفهومة. ذلك أنّ الحياة الزّوجيّة حياة طويلة ومتشابكة المصالح وفيها الولد والتّنشئة وعلاقات وأموال وأحداث سارّة وغير سارّة. وليست هي حياة جنسيّة فحسب. ومع توارد حالات العسر واليسر على ذلك البيت على إمتداد عقود لا يمكن أن تجري الحياة بين الزّوجين على منوال عنوانه : المودّة والرّحمة والمعروف والفضل والإحسان والسّكن ولا يمكن أن يكون بعضهما لبعض لباسا. ميثاق غليظ بين دين توحيديّ في عنوانه الأوّل وشرك ووثنيّة وصنميّة؟؟؟
علل واقعية معيشة
عندما يتزوّج المسلم غير مسلمة ـ كتابية ـ فإنّه من المأمول أن تتأثّر تلك الكتابيّة بالإسلام من خلال خلق زوجها فتسلم. هذا واقع معيش في حالات كثيرة. ربّما أصبحت ظاهرة إجتماعيّة. كما أنّ الرّجل ـ في العادة ـ هو الطّرف الأقوى في ذلك الميثاق الغليظ بسبب قوامته. وهي مسؤوليّته الإيجابيّة على البيت ومن فيه. 
ومن مظاهر مسؤوليته التي ذكرها القرآن الكريم نفسه قيّوميته الماليّة. وهل تقوم البيوت بغير مال كاف؟ ومن جهة أخرى فإنّ المسلم عندما ينكح كتابيّة فإنّه يؤمن ـ بسبب من دينه ـ أنّها إنسان مكرّم. فهو يحفظ لها حقوقها وفق دينها ذاته كلّ الحفظ. المرأة بسبب من صناعتها النّفسيّة والعضويّة كذلك معرّضة دوريّا وبإنتظام في حياتها إلى إستثناءات عضويّة ونفسيّة بسبب الحيض والنّفاس. بل حتّى بسبب التّكوين النّفسيّ المعدّ من الباري نفسه سبحانه لتأهيلها إلى حسن رعاية الولد حملا ورضاعة وحنانا لسنوات طويلات. 
كلّ ذلك يجعلها بحاجة إلى زوج رؤوم حنون يرعى كلّ حالاتها ويقدّر تلك الوظيفة المقدّسة لها ويؤمّن لها ما تحتاجه قوامة ماديّة ونفسيّة معا. وفي الآن ذاته يرعى حقوقها القيميّة والدّينيّة حتّى وهي مخالفة له. حتّى الولد هنا لا يخشى عليه أن ينشأ مسيحيّا ـ مثلا ـ بسبب ديانة أمّه. لماذا؟ لأنّ أمّه ركنت كلّ الرّكون إلى صدر دافئ وجدت فيه الأمن والأمان والسّلم والسّلام والرّعاية وبكلّ ودّ ورحمة وهو لها سكن ولباس. فهي لا تخاصم زوجها في تنشئة الولد تنشئة إسلاميّة. هي كتابيّة وليست محاربة حتّى تخاصم في مثل هذا. عندما تمضي الحياة وفق هذا فإنّها ستسلم يوما إن شاء اللّه. العلّة الدّعوية ـ عندي ـ من هذا النّكاح علّة قائمة لا أخاصم فيها.
إنكاح المسلمة غير مسلم تضحية بها
أمّا عندما تنكح المسلمة غير مسلم ـ أيّا كان دينه ـ فإنّها تزجّ بنفسها في أتون من الحرائق غير المتكافئة. يجب أن نعترف أنّ المرأة أضعف من الرّجل في كسب العيش من جهة وفي العقلانيّة المطلوبة عندما تحتدم المشكلات وتصطدم المصالح بالمفاسد وخاصّة عند الصّدمات الأولى من حصول المداهمات والصّاعقات من جهة أخرى. 
لا يعني ذلك أنّ المرأة نصف إنسان أو أنّ الرّجل أفضل منها. كلاّ وألف ألف كلاّ. إنّما يعني ذلك أنّ اللّه سبحانه خلق الزّوجين من مادّة مشتركة في البداية جسما وروحا ثمّ أحدث بينهما إختلافا تكون به المرأة أوفى لوظائفها وأكثر أهلية وبمثل ذلك الرّجل ثمّ تأدّى ذلك التّعالج إشتراكا وإختلافا إلى حصول التّكامل المنشود. إذ لا يكون تكامل ـ بعين العقل والفلسفة ـ إلاّ من بعد قطع مرحلتين هما : مرحلة الإشتراك ومرحلة الإختلاف. تلك هي فلسفة الإسلام الأولى في قانون التّنوّع وسنّة التّعدّد. ولا يندّ الإنسان عنها. كيف وهو المستخلف عليها والمستأمن؟ لا ينبغي علينا أن نحصر نظرنا في كفاءة الرّجل كسبا للعيش أكثر من المرأة على زماننا الحاضر. هذا إنتقاء زمانيّ. الإسلام لم يأت لزماننا نحن فحسب. كان الحال على غير هذا ومن أدراك أنّه لن يعود؟ كما أنّ كسب العيش الكافي أليق بالرّجل بسبب ما هو معروف من الحالات التي تمرّ بها المرأة وفاء لوظيفتها. وليس إستثناء أو مصيبة حلّت بها. إنّما العجز كلّه هو الجهل بحكم الإسلام وخاصّة تحت مطارق الغرب الفلسفيّ الذي أمطرنا بقنابل عنقوديّة قاتلة من التّفكير الأعرج. والمغلوب مولع أبدا بتقليد غالبه. 
القول بأنّ المرأة حقنت بجرعات عاطفيّة أغزر من الرّجل ليس تهوينا منها كما يهرف الهارفون من عبيد الفكر الغربيّ. إنّما كان ذلك فضيلة من فضائلها الكثيرة. هي فضيلة تنسجم كلّ الإنسجام مع وظيفتها. أي الأمومة ومقتضياتها. شاعت فينا أنّ قيمة العاطفة هي قيمة سفلى. هذا عبث باللّسان العربيّ وإنسحاق في وجه المحتلّ الغربيّ. ماذا لو كانت الأمّ عقلانيّة كلّ العقلانيّة في وجه ولدها؟ لن ترضعه إذن. ولن تكون له الصّدر الرّحيم. بل لن تصبر عليه في أحشائها وهو يصكّ شهرا واحدا. طبيعة الحياة عند إدلهمام النّاكبات أن يكون رجل مغروزا بجرعات عقليّة أوفر من زوجه وأن تكون زوج محقونة بجرعات عاطفيّة أوفر من زوجها. ذلك هو معنى تشييد الكون كلّه على قيم التّنوّع والإزدواج. كيف يندّ الإنسان عن هذا القانون الحاكم في عوالم الفيزياء والكيمياء والرّياضة العقليّة؟ نريد ليلا ونهارا ولا نريد تفاضلا متبادلا متعاوضا بين الرّجل والمرأة؟ نريد صيفا وشتاء ولا نريد ذلك فينا؟ نريد عرضا وطلبا تجارة ولا نقبل ذلك فينا؟ هذا هو الشّذوذ القيميّ الذي يحاول الغرب نفثه.
علّة التّحريم إذن معقولة مفهومة
ليس هو حرمان كما ينفث الغرب الفاجر ويستقبل ذلك عدد منّا ببلادة فكرية. إنّما هو تحصين للمرأة وحماية لها وعصمة من أن تقع فريسة بين أحضان رجل غير مسلم لا يؤمن بدينها وما يقتضي ذلك من حرمانها من حقوقها القيميّة والدّينيّة، وهي يومية منها الصّلاة، وأسبوعية ومنها صلاة الجمعة ولقاء أخواتها وتبادل التّعارف معهنّ. وهي سنوية ومنها الصّيام، وهي عمرية ومنها الحجّ. ومنها ما لا يحصى ولا يعدّ. 
أيّ سعادة لأمّ مسلمة تحرم حتّى من تسمية ولدها إسما يروق لها وتحرم من تنشئة من حملته في أحشائها شهورا عديدة وفق معتقدها؟ هل الحياة كلّها متعة جنسيّة فحسب. حتّى من النّاحية الجنسيّة فإنّ العادة أنّ المسيحيّ لا يختتن. ومن ذا لا تستمتع المرأة منه جنسيّا بما يشبع لهفتها. وهل الحياة كلّها حاجة ماليّة وضرورة إقتصاديّة، فإذا أمّن لها زوجها غير المسلم ذلك ركنت إليه وشعرت بالسّعادة.
بقيت مشكلة أثارت جدلا فارغا
صحيح أنّ القرآن الكريم ذكر حرمة نكاح المسلمة مشركا في سورة البقرة وصحيح أنّ سورة الممتحنة ذكرت مناسبة معلومة لا خلاف عليها. وهي مناسبة هجرة المؤمنات من مكّة  إلى المدينة وعدم ردّهنّ إلى أزواجهنّ المشركين. وصحيح كذلك أنّ النّظم القرآنيّ لفرط دقّته العجيبة لا يخلط بين صفة  الشرك والكفر والكتابيّ، كلّ ذلك صحيح. ولكنّ مثله صحّة هو أنّ العلّة القرآنيّة عامّة مطلقة يمكن القياس عليها وتعديتها. وهي أنّ مصلحة التّحريم هنا هي مصلحة قيميّة عظمى. وهي عدم إنسجام دعوتين متضادّتين كلّ التّضادّ في بيت واحد : زوج يدعو إلى النّار وزوجة تدعو إلى الجنّة. 
يريد سبحانه أن يقول لنا : أنّ الحياة القيميّة بين زوجين مختلفين في الدّين الذي يغذو الحياة كلّها بلونه الفاقع لا يمكن أن تثمر خيرا سيما أنّ المرأة هنا تكون الحلقة الأضعف في البيت بسبب ما مرّ بنا. فإذا إختلت العلاقة القيميّة فأيّ سعادة منشودة؟ نشوء المشكلة هي أنّ بعضهم أجاز نكاح المسلمة من كتابيّ. ظاهر الكتاب يؤيّد هذا ولكنّ المقصد المذكور من الكتاب نفسه وفي الآية نفسها لا يؤيّد هذا. والنّظر الموضوعيّ لا يكون عدا بجمع الكتاب إلى الميزان والقرآن إلى الحكمة. أي النّصّ الصّحيح إلى حكمته المنصوص عليها هنا. هذا هو الغالب الذي يجعل العلّة هنا تتعدّى إلى الكتابيّ. ولكنّ التّشريع إنّما يرعى الأغلب الأعمّ. الذي يتأخّر عن قوله كثيرون ليس جهلا ولكن تحوّطا مفهوما هو أنّ هذا المسكوت عنه في شأن الكتابيّ تحكّم فيه ـ حالة بحالة وليس إفتاء عامّا ـ العلّة المذكورة من القرآن الكريم نفسه. تلك هي هندسة القرآن الكريم عندما يرسم خطوطا حمراء فاقعة قانية ثمّ يترك الباب لغيرها مواربا شبه مفتوح حتّى يستوعب تشريعه حالات إستثنائيّة نحن لا نعلمها ولكنّ الله يعلمها.
خلاصة مركّزة
حرمة نكاح المسلمة غير مسلم ليس عدم تسوية لها مع الرّجل ولكن لأنّ المرأة المسلمة عند الله أكرم من أن يزجّ بها في أتون حريق بيد زوج غير مسلم لا يعترف بحريّة المعتقد فيجعل من حياتها جحيما وقد تكره على ترك دينها أصلا
الهوامش
(1) سورة البقرة - الآية 221
(2) سورة الممتحنة - الآية 13