بهدوء

بقلم
د.ناجي حجلاوي
من التّفسير إلى التّفكير - سورة الفيل أنموذجا الحلقة 5 : قصّة الفيل في الموروث التّفسيري 2/3
 (4) جارالله الزّمخشري (1)
بالنّظر إلى تفسير الزّمخشري، يُلفي الدّارس أنّه اعتمد منهج الطّبري ذاته وهو التّعويل على المرويات والآثار والأخبار، لذلك سرد الأحداث ذاتها مع اختلاف طفيف مثل الإشارة إلى الاختلاف في عدد الفيلة من فيل واحد إلى ثمانية ومن اثنيْ عشر إلى ألف فيل. والاختلاف في تقدير المدّة الفاصلة بين هذه الحادثة وميلاد النّبي، فمنهم القائل هي أربعون سنة، ومنهم القائل ثلاث وعشرون سنة. ومن ذلك نفيه أن تكون الطّيور بحْرية أو تهامية. وقد أورد رأي أبي سعيد الخُدريّ، رضى اللّه عنه، أنّه سُئل عن الطّير فقال: حمام مكّة منها، وقيل جاءت عشيّة ثمّ صبّحتْهم. ويذكر الزّمخشري على خلاف الطّبري أنّ  عائشة، رضي اللّه عنها، قالت: رأيت قائد الفيل وسائسه أعمييْن مقعديْن يستطعمان. وبعد الشّرح اللّغوي لمفردات السّورة  يورد الزّمخشري حديثا في فضلها مفاده: «من قرأ سورة الفيل أعفاه اللّه أيّام حياته من الخسف والمسخ». ويبدو أنّ الجري وراء الأخبار إجراء يقتضيه البحث عن مصداق في التّاريخ يشهد بصحّة الأحداث وجريانها في التّاريخ وهو ضرب من الإحالة على الواقع  إشباعا للوظيفة المرجعيّة وتغذية للبعد الإعجازي الّذي يتمتّع به الوحي. وهذا النّهج في الكتابة لا تختصّ به التّفاسير السّنيّة والمعتزليّة فقط بل يشمل التّفاسير الشّيعيّة كذلك ما يدلّ على أنّ الفعل التّفسيري مشدود بسنن وطرق موحّدة تُحيل على بنية ذهنيّة واحدة.
(5) الطّبرسي (2)  
وأمّا الطّبرسي فيشير إلى مكّية السّورة. ويوافق الزّمخشري في فضلها المشار إليه. ويضيف أنّ من قرأها في الصّلاة المفروضة، شهد له يوم القيامة كلّ سهل وجبل ومدر بأنّه كان من المصلّين. وينادي مناد يوم القيامة: صدقتم على عبدي. إنّني قبلت شهادتكم له أو عليه، أُدخلوا عبدي الجنّة ولا تُحاسبوه فإنّه ممّن أُحبّه وأُحبّ عمله. وقد أشار هذا المفسّر إلى أنّ اللّه ذكر في هذه السّورة ما أعده من العذاب لمن عاب النّاس واغتابهم وركن إلى الدّنيا. وقد بيّن فيها ما صنعه بأصحاب الفيل. ويعتمد الطّبرسي على المعجم والإعراب والوظيفة لتذليل الصّعوبات في الألفاظ الواردة في صيغة الجمع وما اشتملت عليه من تراكيب. ثمّ يخلص إلى سرد القصّة المتمثّلة في أنّ ملك الحبشة المعروف باسم أبرهة بن صباح الأشرم المكنّى بأبي يكسوم وهو جد النّجاشي الّذي عاصر رسول اللّه. قد أقبل إلى المدينة ونزل بوادي قبا وحفر بئرا تعرف اليوم ببئر الملك. فقاتله الأوس والخزرج ثمّ صالحوه ونصحه اليهود بأن يعدل عن الذّهاب إلى مكّة لأنّها أرض ستشهد بعثة نبي منتظر ولكنّه أصر وقصد مكّة. وقبل وصوله إلى مكّة  بمسيرة ليلتيْن بعث اللّه عليه ريحا فقصفت رجليْه وبدنه وجسده. وعاوده اليهود بالنّصيحة أن يطوف بالبيت ويكسوه ليسلم جسده ففعل وسلم وعاد إلى اليمن.
إنّ تأخر الطّبرسي زمنيّا على من سبقه من المفسّرين جعله، أمام صياغة جديدة للأحداث من جهة الأسباب والمظاهر ومع ذلك يقع في تكرار أشكال الطّيور وألوانها وما ألحقته بالعدوّ. وينبّه إلى أنه فسّر الحجارة الّتي هي من سجّيل في معرص تفسيره لسورة هود. ويشير إلى أنّه لا فائدة في إعادته غافلا عن كوْنها إشارة مهمّة فلم يقف عندها ولم تُثرْ فيه أي تساؤل عمن يكون المقصود بالقصّة في سورة هود. ويقف الطّبرسي على أنّ حادثة الفيل جرت سنة ميلاد النّبي. وإذا ذهب بعض المعتزلة إلى أنّ المعجزة قد تكون حاصلة لنبي بعيْنه لعلّه خالد بن سنان، فإنّها عند الطّبرسي باعتباره شيعيّا تجوز للأئمة والأولياء من غير الأنبياء. ثم إنّ الطّبرسي يستشهد على صدق هذه الحادثة بشعر أميّة بن الصّلت في قوله:
 إِنَّ آياتِ رَبِّنا باقياتٌ                 ما يُماري فيهِنَّ إِلا الكَفورُ
حَبَسَ الفيلَ حَتـــى                 ظَلَّ يَحبو كَأَنَهُ مَعقـــورُ
وكذلك شعر عبد اللّه بن عمرو بن مخزوم وشعر ابن الرّقيّات.
وإذ تمتدّ يدُ المرويّات إلى كلّ التّفاسير باعتبارها المادّة الأوليّة في الكتابة، فإنّ الدّارس يقف على أحداث القصّة في تفسير فخر الدّين الرّازي بشكل يكاد يكون مطابقا لما أورده الطّبري لولا بعض الملاحظات والتّدخلات النّقدية من الفخر.
(6) فخر الدّين الرّازي (3) 
     إنّ فخر الدّين الرّازي ينبّه إلى أنّ الحادثة إذا وقعت قبل ميلاد النّبي ففي القول: «ألم تر» ومعناه رؤية العلم والإدراك غير المستوجبة للشّهادة والحضور ومعاينة الكيفيّة، لأنّ وجه  الدّليل هو الخبر المتواتر الدّال على قدرة اللّه ومنزلة محمّد وهي حادثة تمثّل مقدمة لميلاده وارهاصا له. وهذه الحادثة تستّمد قوّتها من هذا الإرهاص الدّامغ لقدوم محمّد وإعجاز الإرهاص لدى فخر الدّين الرّازي أقوى من الإعجاز اللاّحق للبعثة لأنّها تفوق إعجاز الزّلازل والعواصف. وقد جرت قبل ميلاد النّبي بنيْف وأربعين سنة. وأما استخدام فِعل «فَعَلَ» فهو دليل على أنّ اللّه غيّر من طبائع الطّير والفيل. 
إنّ فخر الدّين الرّازي ينتبه إلى أمر مهمّ يتمثّل في أنّ عبارة أصحاب الفيل تدلّ على أنّ القوم يشاركون الفيل في البهيميّة وهم من جنسه يتميّزون بعدم الفهم وضعف العقل. ذلك أنّ لفظة «صاحب» تستعمل للأدنى  ولا تستعمل للأعلى ومعناه أنّ القوم أقلّ من الفيل قيمة وأضلّ سبيلا منه، لذلك أصبح الفيل أحسن حالا منهم يُعلمهم بإدباره درسا لم ينتبهوا إليه. وهذا الدّرس يتجلّى في الإعراض عن هدم بيت اللّه الحرام. وقد أضاف اللّه عبارة «الكيْد» لهؤلاء القوم إشارة إلى بطلان سعيْهم المتمثّل في بناء «القُلّيس» مضاهاة للبيت الحرام. وقد احترق فلم يرعَووا ثمّ قصدوا إلى هدم البيت فأصابتهم الطّير الأبابيل وهي الكثيرة المجموعة.
 ويلجأ فخر الدّين الرّازي إلى تكثيف الرّوايات للتّوسّع في ذكر ألوان الطّير وأحجامها وهيْآتها وكأنّه يشعر بالغرابة في كلّ ذلك فيُلقي بالمسؤوليّة على الأسانيد والرّواة. ويشير صراحة، إلى ما يخالف ذلك ويضاده بقوله: «واعلم أن من النّاس من أنكر ذلك» معتبرا أنّ  الأمر مخالف لطبائع الأشياء، فلو جاز أن تكون في الحجارة الّتي تكون مثل العدسة من الثّقل ما تقوى به على أن تنفذ من رأس الإنسان وتخرج  من أسفله لجاز أن يكون الجبل العظيم خاليا عن الثّقل وأن يكون في وزن التّبنة وهو ما يرفع الأمان عن المشاهدات. ومتى جاز ذلك أن يكون في الحضرة شموس وأقمار لا تُرى وأن يحصل الإدراك في عين الضّرير حتّى يكون هو في المشرق ويرى بقعة في الأندلس. وكلّ ذلك محال وإذا كان ذلك جائزا فإنّ العادة جارية على أنّها لا تقع.
 وينتهي هذا المفسّر المفكّر إلى أن السّجيل ديوان مسجّل وكتاب للعذاب مرسوم ومسجّل أو هي السّماء الدّنيا. وأنّ العصف المأكول هو الزّرع الّذي أُكل  وأصبح فضلة أو الّذي أكله الدّود أو الدّواب. وفي كلّ الوجوه يظلّ ذلك مثلا دالاّ على هوان هؤلاء القوم وضعفهم وما حلّ بهم من حجم الدّمار وسوء المآل الّذي آلوا إليه.
وليس من العسير ملاحظة ما يتمتّع به فخر الدّين الرّازي من نزعة نقدية جعلته يقف من بعض المرويات موقف الرّافض أو المحترس أو المحاور. وليس ذلك بغريب عن هذا المفسّر الآخذ بالفلسفة والمنطق وعلم الكلام والمتأخّر في الزّمن. وليست الأفكار الّتي أثارها فخر الدّين الرّازي ببعيدة عمّا أكده المفسّر الأندلسي القرطبي.
(7) القرطبي (4) 
لقد تفطّن القرطبي إلى أنّ هذه السّورة تضمّنت خمس مسائل هي إعلام اللّه لنبيه تقريرا لما فعل اللّه بأصحاب الفيل وبمنّته على المؤمنين به. والثّانية هي أنّ صاحب الفيل وهم الفيالة. والرّجل فيل الرّأي أي ضعيفه والجمع أفيال والرّجل الفال هو ضعيف الرّأي أي مخطئ الفراسة وفيلَ رأيه أي ضعفّه. والثّالثة هي حوادث القصّة المتعلّقة ببناء «القُلّيس» الّتي شيّدها أبرهة لملك الحبشة لصرف حجّ العرب إليها. وفي هذا الصدّد يرتكز المؤلّف على سيرة ابن هشام وما فيها من روايات. ويوافق القرطبي الطّبري في أنّ بعض القبائل العربيّة حاولت التّصدّي لأبرهة ولكنّها هُزمت. 
 وغير خاف على الدّارس أنّ القرطبي يستنسخ حرفيّا ما أورده الطّبري إلاّ أنّه يضيف أحيانا تعاليق جدّ مهمّة تبعا لتأخّره في الزّمن. ومن هذه التّعاليق انتباهه للمعنى اللّغوي الوارد في لفظة «فيل» ومن ذلك إيراده لقول السّهيلي في الرّوض الآنف فيما يتعلّق بما أسره نفيْل بن حبيب في أذن الفيل فقال: «إنّ برْك الفيل فيه نظر، لأنّ الفيل لا يبرك. فيحتمل أن يكون بروكه سقوطه إلى الأرض لمّا جاءه من أمر اللّه سبحانه وتعالى. ويحتمل أن يكون فَعل «فِعل» البارك الّذي يلزم موضعه ولا يبرح فعبّر بالبروك عن ذلك.
ويبدو أنّ القرطبي عندما يشعر بغرابة الخبر لا ينسبه إلى راوٍ معلوم وإنّما يكتفي بإسناده إلى المجهول في عبارة «قيل». ومثال ذلك الخبر المتمثّل في أنّ الحجر كان يقع على بيضة أحدهم فيحرقها ويقع في دماغه ويخرق الفيل والدّابة. ويغيب الحجر في الأرض من شدّة وقعه. وأنّ أصحاب الفيل كانوا ستين ألفا لم يرجع منهم أحد إلاّ أميرهم وشرذمة قليلة أخبروا النّجاشي بالواقعة ثمّ ماتوا. وأمّا المسألة الرّابعة فهي ميقات الحادثة الّذي اختلفت فيه الآراء من أربعين سنة إلى ثلاث وعشرين سنة قبل ميلاد النّبي (5) . 
ومازالت الآراء، لدى المفسّرين، متضاربة في تحديد الأسباب الّتي دعت إلى حملة أبرهة على الكعبة وفي ضبط المدّة الفاصلة بين هذه الحادثة وميلاد النّبي. ولمّا كان بعض المفسّرين مشتغلين بالتّاريخ فإنّ الدّارس يتطلّع إلى ما سيتطرّق إليه ابن كثير بخصوص سورة الفيل. 
(8) ابن كثير (6)
إنّ النّاظر في «تفسير القرآن العظيم»، يقف على أنّ  ابن كثير يعتبر أنّ  حدث الفيل من نعم اللّه الّتي امتنّ بها على قريش حين صرف عنهم أصحاب الفيل  لما أرادوا هدم الكعبة ومحو آثارها من الوجود، فأبادهم اللّه وخيّب سعيْهم، وأرغم أنوفهم وأضلّ عملهم وردّهم بشرّ خيبة. فهم كانوا نصارى وكانوا أقرب ما يكونون في دينهم إلى عبادة الأوثان مثل قريش. والملاحظ هنا هو أنّ ابن كثير أحسّ بالتّناقض الصّارخ بين واقع الأحداث القصصيّة وما تقتضيه من نصرة الله للموحّدين، لذلك اعتبر أنّ دين النصارى القادمين لهدم الكعبة أشبه ما يكون بدين قائم على عبادة الأوثان. وهي نقطة تظلّ غامضة ولم يوضحها إذ النّصرانية دين توحيدي سماوي. وقد اعتبر ابن كثير أنّ هذه الحادثة العظيمة إرهاص وتوطئة لميلاد النّبي، إذ الانتصار على الحبشة ليس إكراما لقريش وإنّما هو إعلاء لشأن خاتم الأنبياء. وهي نقطة يلتقي فيها مع القرطبي.
إنّ ابن كثير يشير إلى أنّه سيعمد إلى الإيجاز في ذكر أحداث القصّة إذ سبقت الإشارة منه في معرض تفسيره  لقصّة الأخدود مع ذي نواس آخر ملوك حِميَر المشرك وهو القائم على تعذيب النّصارى الموحّدين في النّار المضرمة في الأخدود. وقد كانوا يناهزون العشرين ألفا لم ينجُ منهم سوى دوس ذو ثعلبان، ففرّ إلى الشام واستنجد بقيصر الملك وكان نصرانيا فكتب له إلى النّجاشي ملك الحبشة لقربه من مكان الأحداث. وبعث معه أميريْن أرياط وأبرهة بن الصباح أبا يكسوم في جيش كثيف فدخلوا اليمن فجاسوا خلال الدّيار واستلبوا المُلك من حِمير وهلك ذو نوّاس غريقا في البحر. واستقلّ الحبشة بملك اليمن وعليهم الملكان أرياط وأبرهة. ثمّ اختلف الأميران في أمرهما وتقاتلا. فقال أحدهما للآخر: «إنّه لا حاجة بنا إلى المصادمة والمقاتلة ولكن لنتبارز فأيّنا قتل الآخر استقلّ بالمُلك. وتبارزا وشرم أرياط أنف أبرهة وفمه وشقّ وجهه وحمل عنودة مولى أبرهة على أرياط فقتله. ورجع أبرهة جريحا. ثم برأ واستقلّ بتدبير جيش الحبشة باليمن. فكتب إليه النّجاشي يلومه على ما بدر منه وتوعّد بقتله وأقسم أن يأخذ بناصيته، فبعث  له بهدايا وتحف. وأرسل إليه  بناصيته برّاً بقسَمه، فرضي النّجاشي وأقره على اليمن. فردّ أبرهة بأنه سيبني للنّجاشي كنيسة عظيمة لم يُبْنَ مثلها من قبلُ. وبالفعل شرع في بنائها وقد سمتها العرب القلّيس لارتفاعها لأن النّاظر إليها تكاد تسقط  قلنسوّته عن رأسه من شدة ارتفاع بنائها(7) .
ويُطنب ابن كثير في ذكر تفاصيل القصّة بأسلوب المؤرّخ رغم ذكره أنّه سيجنح إلى الاختصار. ولكنه أعاد ما ذكره المؤرّخ الطّبري قبله. والملاحظ أنّ البناء القصصّي لدى ابن كثير يتضمّن ثغرة  تتمثّل في عدم معرفة الجيش لطريق العودة إلى اليمن خاصّة وقد سلكها في مجيئه إلى مكّة منذ زمن قصير، حتّى يظلّ رهين إرشاد نُفيل بن حبيب وهدايته. زيد على أنّ المهزوم في الحرب، المغمور بالهلع لا وقت له للبحث عن الدّليل وإنّما يسارع بالفرار في كلّ اتّجاه توقّيا للخطر الدّاهم ولاسيّما من خطر خارق كهذا الخطر الدّاهم من السّماء.
لقد تقاطع ابن كثير مع مُقاتل بن سُليمان في أنّ عبدالمطلب قد غنم ذهبا كثيرا. ويتبنّى رواية ابن إسحق المتعلّقة ببركة هذا العام إذ لم تشهد بلاد العرب الجُدَريُّ والحُصبة، وأنّ بعث النّبي يمثّل نعمة تجسدت في الانتقام من الكائدين. 
لا يُخفي ابن كثير تدخّله من حين لآخر ليدليَ برأيه إمّا بالاحتراز وإمّا بالتّصديق وهو في هذا الموطن يقول: «وهذه أسانيد صحيحة»(8). وإذا شعر هذا المفسّر بالمللّ الّذي يُسبّبه التّكرار النّاجم عن منهج الرّواية المعتمد في التّفسير، فإنّه يقول: «وقد قدّمنا بيان ذلك لك بما أغنى عن إعادته ههنا»(9).
ولا يخفى على الدّارس النزعة التّأريخية الّتي يتّسم بها أسلوب ابن كثير في التّأليف، على غرار الطّبري، إذ يسترسل في ذكر سلاسل الملوك في صنعاء أو الحبشة. ويستقصي الرّوايات ويدقّق في ذكر الأسماء كاسم قائد الفيل وهو أُنيْس أو يُدقّق في ذكر التّفاصيل والأحداث ثمّ يردفها في أغلب الأحيان بقوله: «الله أعلم»(10). ولكي يكثّف المصداقية في حادثة الفيل فإنه يلجأ إلى تدعيم الرّواية بالرّواية والخبر بالخبر إذ يستحضر ما ذكره في معرض سورة الفتح أنّ الرّسول لمّا أطلّ على الحُديبية حيث الطّريق الموصل إلى قريش وبركت ناقته ولما زجروها ألحت فقالوا خلأت القسْواء، ومعناه حرنت، فقال الرّسول: «ما خلأت القسْواء وما ذلك لها بخُلق وإنّما حبسها حابس الفيل»(11). وسيستشهد ابن كثير بما ورد في الصحيحيْن من أنّ الرّسول يوم فتح مكّة قال: «إنّ الله حبس عن مكّة الفيل وسلّط عليها رسوله والمؤمنين وإنّه قد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس ألا فليُبلّغ الشّاهد الغائب»(12).
وأمام ما أُثر عن المفسّرين القدامى من إشكالات عليقة بحادثة الفيل  وما بينهم من اختلاف، فإنّ المرء يتطلّع إلى ما يمكن أن يُضيفه المفسّرون المُحدثون وينتبهوا إليه.(موضوع الحلقة القادمة)
الهوامش
(1) الزمخشري، جارالله محمود بن عمر الخوارزمي، ت 1144م، 538 هج، الكشاف عن حقائق التّنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التّأويل، شرح وضبط ومراجعة يوسف الحمادي، مكتبة مصر، د ت وتفسيره لسورة الفيل، ج4، ص ص634،632. 
(2) هو أبو علي الفضل بن الحسن الطّبرسي، ت 1154م، 548هج، مجمع البيان في تفسير القرآن، دار المرتضى، بيروت، ط1، 2006، وتفسيره لسورة الفيل، ج10، ص ص 339،344.
(3) فخر الدّين الرازي، مفاتيح الغيب، دار الفكر للطّباعة والنشر والتوزيع، ط1، سنة 1981، وتفسيره لسورة الفيل، ج32،  ص ص102،96.
(4) أبو عبد الله محمّد بن أحمد بن أبي بكر القرطبي، ت 1273م، 671 هج، الجامع لأحكام القرآن، تحقيق عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرّسالة، بيروت، لبنان، ط1، سنة  2006، وتفسيره لسورة الفيل، ج22، ص ص 486 ،495.
(5) يمكن العودة في هذا المجال إلى الماوردي، النّكت والعيون، ج6، ص ص39،38. والبيهقي، دلائل النبؤة، ج1، ص75. وابن سعد، الطبقات، ج1، ص101. وابن عبد البر، الاستذكار، ج26، ص225. 
 (6) ابن كثير هوّ أبو الفداء إسماعيل الدمشقي، ت 1373م، 774هج، تفسير القرآن العظيم، المكتب الجامعي الحديث، الأزاريطة، الاسكندرية، د ت. وتفسيره لسورة الفيل، ج4، ص ص 657، 662.
(7) تجدر الإشارة إلى غياب كلّ الآثار الدّالة على هذا المَعْلم العظيم في اليمن الحديثة وهو أمر مُدهش سترد معالجته لاحقا.
(8) ابن كثير، م ن، ج ن، ص661.
(9) ابن كثير، م ن، ج ن، ص661.
(10) ابن كثير، م ن، ج ن، ص661.
(11) ابن كثير، م ن، ج ن، ص 662.
(12) قال عبد الله بن رجاء: حدّثنا حرب، عن يحي، حدّثنا أبو سَلَمة، حدّثنا أبو هريرة أنّه عام فتح مكّة قتلت خُزاعة رجلا من بني ليث بقتيل لهم في الجاهلية فقدم رسول الله ﷺ فقال: «إنّ الله حبس عن مكّة الفيل وسلّط عليهم رسوله والمؤمنين ألا وإنها لم تَحِلّ لأحد قبلي ولا تحلُّ لأحد بعدي، ألا وإنّما أُحِلّتْ لي ساعة من نهار، ألا وإنها ساعتي هذه حرام». البخاري، محمّد بن إسماعيل، ت256 هج، الصّحيح، مكتبة الإيمان بالمنصورة، سنة 2003، حديث عدد 6880، ص1380.