في العمق

بقلم
سعيد السلماني
فلسفة العلوم الإنسانيّة والتّأسيس المنهجي البديل لفهم الإنسان (3) ملاحظات نقديّة حول النظريّة التّشي
 إشكال الموضوعيّة في العلوم الإنسانيّة
ما من شكّ اليوم في أنّ التّفكير العلمي ينتج الحقائق ويصوغ القوانين والنّظريّات، وفق منهج علمي صارم لا يقبل الأهواء والعواطف. ومن أهداف هذا المنهج مساعدة الإنسان في اكتشاف نظام الكون وفهم قوانين الطّبيعة من أجل السّيطرة عليها. هذا ما دفع بالمنظّرين في العلوم الإنسانيّة الى طرح سؤال السّيطرة في حقل الإنسانيّات على غرار الطّبيعيّات، لسبب بسيط وهو أنّ التّفكير اللاّهوتي والميتافيزيقي أثبتا أنّهما عاجزين عن ذلك، وأنّهما غير مؤهّلين لقيادة المستقبل. لذلك، وجب الابتعاد عنهما وتقليد «المنهج الوضعي» الذي من خلاله يمكننا فهم العالم الذي نعيش فيه والتّغلّب على مشاكله والزّيادة من قدرته، وبخاصّة في تفسير الظّروف والأحداث والتّنبؤ بها ومن ثمّ ضبطها.
إنّه إذن، مسعى واضح نحو توحيد العلوم، ضمن تصوّر واضح للعلم وهو المعرفة المنظّمة التي تدور حول موضوع معيّن وتقوم على منهج محدّد، وتؤدّي إلى نتائج وقوانين متطابقة، ومن ثمّ فلا بدّ لهذه المعارف والمعلومات والحقائق أن تكون منظّمة ومنسّقة، وأن يتمّ التّوصل إليها عن طريق تفكير علمي منظّم يستند إلى الموضوعيّة والابتعاد عن الذّاتيّة(1). بمعنى أنّ الابستمولوجيا الوضعيّة تفترض أنّ هناك حقيقة موضوعيّة «خارج ذهن الباحث»، وأنّه بالإمكان الكشف عنها على يد الباحثين الموضوعيّين غير المتأثّرين بالأحكام القيميّة، من خلال استعمال طرق البحث الموضوعيّة القابلة للتّكرار(2).
هذا التّوجه في البحث الذي خطّط له المنظّرون الأوائل والمتأثّرون بالطّابع الامبريقي لم يسلم من النّقد، فالباحث في العلوم الإنسانيّة مهما حاول أن يتجرّد من ذاتيته فإنّه يسقط رغما عنه فيها. من هذا المنطلق يكاد يجمع الباحثون في العلوم الإنسانية على أنّ أهم العوائق التي تعترض هذه العلوم في سعيها إلى تحقيق الموضوعيّة العلميّة تكمن في العوامل الذّاتيّة والشّخصيّة، والانتماءات الإيديولوجيّة أو الدينيّة أو العرقيّة التي تشكّل مجموع القيم التي يدين بها الباحث، والتي تتحكّم في مجموع العمليّات الفكريّة والعقليّة التي يقوم بها، وتوجّهه نحو اختيارات لا تكون في كثير من الأحيان علميّة موضوعيّة، في تأثير واضح للمواقف التي يتبنّاها الباحث على نتائجه بشكل صارم، إلى درجة أنّ النّقاد أعلنوا صراحة أنّ الموضوعيّة الكاملة في العلوم الإنسانيّة مستحيلة التّحقّق، وأنّه من العبث أن نتوقّع منها أنّ تقدّم إجماعاً أو اتفاقاً حول الوقائع وتفسيراتها(3). وهذا يدل على أنّ الموضوعيّة في مجال العلوم الإنسانيّة لا تعني تجريد الباحث من ذاتيته تماما وإبعاد الفعل الإنساني بالمطلق، كما ذهب إلى ذلك التّيار الوضعي، وإنّما التّحليل الموضوعي يعني عند «المنظور التأويلي» أن لا يتمّ إلاّ بحضور المعنى لدى الفاعلين وتأويلها، وحضور ذات الباحث كونه جزءا من عمليّة البحث، فهذا الأخير عمليّة تفاعليّة تحتاج إلى ديناميّة الباحث بقدر ديناميّة موضوع البحث في العلوم الإنسانيّة. فـ «المنظور التأويلي» لا يقتنع بأنّ الحقيقة الإنسانيّة موجودة «خارجاً» منتظرةً اكتشافها وقياسها، بل يرى أنّها حقيقة علائقيّة وشخصيّة/ذاتيّة، وأنّها تتولّد أثناء العمليّة البحثيّة. ولا يفترض أن يكون الباحث ملتزما بالحياد و«موضوعيّاً»، بل أن يكون مساهماً مساهمة إيجابيّة في بناء المعرفة الوصفيّة، الاستكشافيّة والمفسّرة في نفس الوقت. وبالمثل فإنّ قيمة البحث لا تعتمد على ما إذا كان قابلا للتّكرار من عدمه، بل تعتمد على مدى ما يقدمه إلى معرفتنا الأساسيّة في موضوع معين(4).
إنّ الموضوعيّة التي رفعتها «الوضعيّة» رهاناً لها لم يلبث أن اكتشف النّقاد أنّها شعار تبريري وراءه هدف واضح وهو الهيمنة الوضعيّة على كلّ مفاصل الحياة، وهو توجّه إيديولوجي واضح المعالم أثبتته الدّراسات السّوسيولوجيّة السّابقة التي سخرت لخدمة الأهداف السّياسيّة والقوميّة والطّبقيّة والاستعمارية، نضرب مثالا على ذلك الدّراسات الوصفيّة «الكلونياليّة» التي قام بها «ميشوبلير» و«منتانيي» و«موريس موليرياس» حول المغرب تمهيدا لاستعماره وفرض الهيمنة عليه.
لعلّه اتضح ممّا سبق أنّ «رهان الموضوعيّة» في باب العلوم الإنسانيّة فشل في تحقيق مسعاه، ممّا يعني أنّ التّخلّص نهائيّا من الذّاتية أمر متعذّر. ومن ثمّ فإنّ المشكلة التي ينبغي طرحها للنّقاش والتّداول حولها هو مكانة الحقيقة في كلّ من العلوم الطّبيعيّة والعلوم الإنسانيّة.
إذن، من هنا يمكن القول: إنّ بناء الحقيقة العلميّة في مجال العلوم الدّقيقة يختلف عنها في باب العلوم الإنسانيّة، ممّا سيؤدّي إلى تعدّد المناهج والاتجاهات النّظريّة في دراسة الظّاهرة الإنسانيّة، وتعدّد المناهج يعني تعدّد الحقائق. فهل هذا التّعدّد إيجابي أم سلبي؟ وما هي إذن، مكانة الحقيقة في هذه العلوم؟
على سبيل الختم
اعتدنا كقراء أن نقرأ خواتم الدّراسات والبحوث كونها زبدة عمل الباحث. لكنّ هذه الخاتمة ستشدّ انتباهنا نحو نقطة غاية في الأهمّية ستدفعنا إلى مزيد من البحث والتّدقيق في مجالات البحوث الإنسانيّة والعمل من ثمّ على تطويرها وملاءمتها مع مجتمعات الدّراسة. وانطلاقا من هذه الإشارة سنركّز على مكانة هذه العلوم المعرفيّة ودرجة موثوقيّتها من النّاحية الابستيمولوجيّة. أو بتعبير آخر؛ مكانة «الحقيقة» في «العلوم الإنسانيّة». فهذه الأخيرة منذ ولادتها والمتخصّصون يتجادلون حول حقائقها، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، وما بدّلوا تبديلا، فالمسألة لم تحسم بعد.
 ونحن إذ نتناول هذه النّقطة ونضيئها في هذه الخاتمة، فإنّنا ننطلق من استفزاز معرفي أشار إليه «جيل غاستون غرانجي»(5) في إحدى حواراته بقوله: «لم نتوصّل بعد إلى بلورة المكانة الخاصّة بعلوم الانسان والتي تحظى بالإجماع. صحيح أنّنا توصّلنا إلى معلومات ومعارف عديدة من طراز علمي في ما يخصّ دراسة الإنسان، ولكنّنا لا نستطيع أن نتحدّث عن العلوم الإنسانيّة بشكل راسخ وواثق من نفسه حتّى الآن»(6). وشهادة «جرانجي» لا تصدر من فراغ أو تطفّل معرفي، فالرّجل أفنى حياته باحثا ومحاضرا ومؤلّفا في «ابستمولوجيا العلوم». وهذا يؤكّد مقولة «أزمة المنهج في العلوم الإنسانيّة»، فإذا أخذنا «الحقل السّوسيولوجي» كأهمّ حقل في ميدان العلوم الإنسانيّة، نجد عالم الاجتماع الأمريكي «ألفن جولدنر» (Alvin Ward Gouldner) يؤشّر على هذه الأزمة في عنوان لافت لكتابه العمدة «الأزمة القادمة لعلم الاجتماع الغربي»، وعلى طول صفحات الكتاب (747) يحاول تشريح هذه الأزمة، بحيث يرى أنّ مداخل هذه الأزمة يمكن إرجاعها إلى العواطف الشّخصيّة للمنظّرين الاجتماعيّين، وبناء على ذلك يعتقد «جولدنر» أنّه لكى ‏نفهم التّنظير الاجتماعي الحديث فإنّه من الضّروري أن يتّجه علماء الاجتماع إلى دراسة ذواتهم وتأمّلها، مثلما يسعون إلى دراسة ‏البشر الآخرين في المجتمع، وهو بهذا يقدّم مدخلاً معرفيّا جديداً لفهم التّنظير الاجتماعي من خلال دعوته إلى علوم ‏إنسانيّة قادرة على تأمّل ذاتها(7).‏
وقد دعا «جولدنر» في أحد فصول كتابه المذكور أعلاه إلى تأسيس «علم الاجتماع لعلم الاجتماع»، وهي دعوة وجيهة لمعالجة الأزمة التي سقط فيها هذا الحقل. وأهمّية هذا العلم الجديد تكمن في الإجابة عن أسئلة متعلّقة بعلم الاجتماع وعلماء الاجتماع أنفسهم، من قبيل؛ ما هو عِلْم الاجتماع؟ وماذا يدرس هذا العلم بالضّبط؟ وما سبب تحوّل علماء الاجتماع من نظريّة إلى أخرى؟ وهل للضّغوط والفرص التي تمنح لهم تأثير على مسار بحوثهم؟ وهل تعدّد الحقائق النّاتجة عن تضارب النّظريّات السّوسيولوجيّة مصدر غنى أم مصدر ضعف وقلق وإزعاج؟ ثمّ من هو عالم الاجتماع؟
لا شكّ أنّ هذه الأسئلة لافتة للنّظر، وقد نجد لها إجابات مبسّطة في الكتب التّعليميّة، لكنّ المسألة أعقد ممّا نتصوّر، فعلماء الاجتماع حسب «جولدنر» يقدّمون الإجابة الآتية، حول سؤال مثلا من هو عالم الاجتماع؟ فيقولون بأنّه «الإنسان الذي يدرس حياة الجماعة، ويقوم بفحص وجود الإنسان في المجتمع، ويقوم بإجراء البحوث حول العلاقات الإنسانيّة المتبادلة. فهذه الإجابة في تصور «جولدنر» تشبه إجابة رجل الشّرطة الذي عليه أن يصف دوره حينما يقول بأنّه يقبض على المجرمين، أو مثل رجل الأعمال حينما يقول بأنّه يصنع الصّابون. أو مثل القسّيس حينما يصف دوره فيقول بأنّه يقيم قدّاساً لمجموعة من البشر، أو مثل عضو الكونجرس الذي يصف دوره فيقول بأنّه يوافق على القوانين»(8).
ماذا يعني هذا الكلام؟ إنّه يؤشّر كما أشرنا في متن هذه الورقة إلى أنّ الإنسان أعقد ممّا يتصوّر والظّواهر الملتصقة به ظواهر تحمل في طيّاتها أنفاس هذا الإنسان. وبالتّالي حسب العديد من الباحثين فإنّ اعتماد المنهج الوصفي في دراسة الظّاهرة الإنسانيّة أدّى إلى نتائج مشبعة بالعبق الأيديولوجي.
إنّ هذا التّوجّه المنهجي الصّارم المبني على فكرة «الموضعة»، اعتبره العديد من النّقاد قصورا منهجيّا. وهذا النّقص لم يكن نتيجة خطأ في التّحليل أو نقص في المعلومات، بقدر ما هو تعبير عن أزمة في الأسس المنهجيّة التي انطلق منها «المنهج الوضعي»، تلك الأسس التي لا تستوعب إلاّ نوعاً من الظّواهر هي تلك التي تكون قابلة للإدراك الحسّي، بيد أنّ الإنسان من حيث هو مجموع تفاعلات نفسيّة وبيولوجيّة وقيميّة وعلائقيّة متشابكة لا يمكن اختزاله أبداً في جانبه السّلوكي الحسّي فقط، ومن ثمّ الدّخول في تفسيرات تعسفيّة لإخضاع الأبعاد الأخرى لنفس المقاييس المادّية(9).
السّؤال الذي يطرح في هذا الصّدد، ما مكانة الحقيقة في العلوم الدّقيقة في مقارنتها بعلوم الإنسان؟ ألم تعدّل العلوم الدّقيقة من مناهجها لتتلاءم مع الظّواهر المنفلتة من الملاحظة والقياس؟
يمكن القول: إنّ حقائق الإنسان لا تقاس كما تقاس حقائق الأشياء المادّية، ومع ذلك فهذه الأخيرة عدّلت من مناهجها حتّى تتلاءم والظّواهر المستعصية عن القياس الكمّي، فاسحة المجال إلى «الخيال العلمي» و«العقلانيّة العلميّة المبدعة» و«حوار العقل والتّجربة»...الخ، هكذا إذن، حتّى في مجال العلوم الدقّيقة لا يمكن الحديث عن الحقيقة المطلقة والموضوعيّة الصّارمة بالمفهوم التّقليدي القائل بأنّ الظّاهرة مستقلّة عن مدرِكها، فما هو ملاحظ اليوم أمام التّقدّم العلمي هو أنّ مهمة العالِم لم تعد تتحدّد في أن ينقل إلينا الظّاهرة كما هي موجودة في الواقع، بل إنّ ذاته وأدوات القياس التي يعتمد عليها تتدخّل في تحديد علاقات معيّنة بين الأداة وما يقاس. بمعنى أنّه حتّى في العلوم الدّقيقة ينبغي إعادة النّظر في مفهوم الحقيقة، فهذه الأخيرة ليست نهائيّة ومطلقة بل أصبحت في العلم المعاصر قابلة للتّعديل والتّحسين كلّما اقتضى الأمر ذلك، فحقيقة «نيوتن» و«اينشتاين» عالم الميكانيك والفيزياء مختلفتان. يقول «غاستون غرانجي» مدعّماً هذا الطرح: «في العلم – بالمفهوم المعاصر للكلمة – لا توجد إلاّ حقائق مؤقّتة وجزئيّة.  والآن إذا ما نظرنا في علوم الإنسان وجدنا أنّها تعيش الحالة نفسها. وإذا ما بحثنا في العلوم الإنسانيّة عن حقائق مطلقة، فإنّ ذلك يعني استبدال فكرة العلم بالأيديولوجيا الدّوغمائيّة قليلا أو كثيراً. وعندئذ نخرج من مجال العلم لكي ندخل في مجال «الحقائق المطلقة» التي يدافع عنها النّاس حتّى درجة القتل»(10).
بناء عليه، فإذا كانت العلوم الدّقيقة تراجع مناهجها باستمرار وتخضعها لملاءمة الظّاهرة المدروسة، فإنّ العلوم الإنسانيّة أولى بهذه المراجعة نظرا لخصوصيّة الظّاهرة الإنسانيّة. وبالتّالي فبناء الحقيقة في العلوم الإنسانيّة يحتاج الى مرونة الباحث وعدم التّعصّب، حتّى لا يسقط في الأيديولوجيّة، لأنّ هناك مسافة ضئيلة بين حقيقة العلم وحقيقة الإيدلوجية، وإذا شئنا التّمييز بينهما نجمل ذلك على الشّكل الآتي:
إذن هناك مساران مختلفان في بناء الحقيقة في مجال الإنسانيّات، فكون الأيديولوجي يستخدم الحجج والبراهين من أجل الإقناع، فإنّ الباحث في مجال العلوم الإنسانيّة ملتزم بقضاياه لكنّه مدرك تمام الإدراك أنّ بناء الحقيقة يتطلّب منه صرامة علميّة وفق منهج أو مناهج لأنّ غايته نبيلة، فمنطق العلم – أياً كان هذا العلم - يأبى التّزييف والتّزوير لأنّه مكشوف لا محالة. ولنا في تاريخ العلم ما يثبت صحّة هذا القول.
خلاصات موجزة للإستثمار
من بين أهمّ النّتائج الموجزة التي توصلنا إليها ضمن هذا البحث نذكر الآتي:
- تعتبر العلوم الإنسانية حديثة الولادة في مقارنتها مع العلوم الدقيقة التي ترسخ منهجها بفضل وضوح موضوعها، من ثمّ فالحقائق النّاتجة عنها يقينيّة وواضحة قابلة للقياس ويمكن تعميمها.
- نظرا للولادة المتأخّرة للعلوم الإنسانيّة، فإنّ حقائقها جاءت مربكة نظرا لعدم وضوح المنهج الذي اعتمدته في البحث. 
- إنّ تبعيّة العلوم الإنسانيّة للمنهج الوضعي جعلها أسيرة الموضوعيّة والشّيئية التي تنفلت منها الظّاهرة الإنسانيّة.
- إنّ «النّظريّة التّشييئية» نظرة اختزاليّة كونها اعتمدت الحسّ مصدرا وحيدا للمعرفة الإنسانيّة محاولة بذلك إحداث قطيعة تامّة بين الذّات والموضوع في دراسة الظّاهرة الإنسانيّة.
-إنّ دعاة «الوضعيّة» جعلوا من «المادّة» مرجعا لكلّ حقيقة كيفما كانت سواء بيولوجيّة أو سيكولوجيّة أو سوسيولوجيّة.
- لفهم إشكاليّة المنهج في العلوم الإنسانيّة لا بدّ من الرّجوع إلى الأسس المنهجيّة التي انطلقت منها هذه العلوم.
- رغم المجهودات التي قام بها الوضعيّون من أجل تحرير العلوم الإنسانيّة من تبعيتها للأفكار الفلسفيّة والميتافيزيقيّة وإلحاقها بالعلوم الطّبيعيّة الاّ أنّها لم تستطع تحقيق الموضوعيّة الصّارمة التي رفعتها شعارا نظرا لتداخل الذّات والموضوع في دراسة الظّاهرة الإنسانيّة.
- إنّ الخلفيّات الفلسفيّة والفكريّة التي انطلق منها دعاة «المنهج الوضعي» أزاحتهم عن فكرة العلميّة ومن ثمّ السّقوط في براثين الايديولوجيا، في صراع واضح مع الأفكار اللاّهوتيّة. ممّا أدّى بنا إلى القول بأنّ الوضعيّة مذهب كباقي المذاهب المهيمنة. إذن؛ فمن «الهيمنة اللاّهوتيّة إلى الهيمنة الوضعيّة». 
- إنّ نمذجيّة العلوم الطبيعيّة في مجال علوم الإنسان أدّى الى خلق نقاش فكري ومنهجي واسع وفتح أفاق ورهانات أمام هذه العلوم، نظرا لكون الإنسان يحمل قيما وأفكارا متشابكة مع الموضوع المدروس، وبالتّالي يصعب تطبيق النّظريّة التّشييئية عليه.
- هذه الخلاصة أدّت الى تعدّد الرّؤى والتّصورات حول كيفيّة دراسة الظّاهرة الإنسانيّة، ظهرت على إثرها مدارس تحاول وضع هذه العلوم ضمن سياقها التّاريخي والفكري الذي يلائم دراسة الإنسان كونه مركزَ هذا الكون. وهي المحاولات التي قامت بها العديد من المدارس مثل «مدرسة فرانكفورت» و«مدرسة شيكاغو» وهو دليل على وعي الباحثين في العلوم الإنسانيّة بالمهمّة الشّاقة الموكولة إليهم من أجل إيجاد منهج يتلاءم وخصوصيّة الظّواهر الإنسانيّة.
الهوامش
(1) سعيد جاسم الأسدي، أخلاقيات البحث العلمي في العلوم الإنسانية والتربوية والاجتماعية، مؤسسة وارث الثقافية، العراق، ط، 2، 2008، ص،1.
(2) هس-بيبرشارلين وليفي باتريشيا، البحوث الكيفية في العلوم الاجتماعية، ترجمة، هناء الجوهري، مراجعة محمد الجوهري، المركز القومي للترجمة، مصر، ط، 1، 2011، ص، 54.
(3)  أمزيان محمد، منهج البحث الجتماعي؛ بين النظرية والتجربة، المعهد العالمي للفكر الاسلامي، ط4، ص، 338-339.
(4) هس-بيبرشارلين وليفي باتريشيا، مرجع سابق، ص، 55.
(5) فيلسوف فرنسي وأستاذ في كوليج دو فرانس (Collège de France). من مؤلفاتــه: Essai d’une philosophie du style (1969), La Vérification (1992), Le Probable, le possible et le virtuel (1995) et L’Irrationnel (1998)8
(6) هاشم صالح، حوار مع جيل غاستون غرانجي، مجلة الفكر العربي المعاصر، عدد، 50-51، 1988، ص، 118.
(7) جولدنر ألفن، الأزمة القادمة لعلم الاجتماع الغربي، ترجمة، على ليلة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، ط، 2004، ص،745.
(8) جولدنر ألفن، مرجع سابق، ص، 73-74.
(9) أمزيان محمد، مرجع سابق، ص، 64.
(10)صالح هاشم، مرجع سابق، ص، 355.