نقاط على الحروف
بقلم |
![]() |
جواد أحيوض |
قراءةٌ في تحدِّياتِ التّراث بينَ الإقصاءِ والتّكامل: موقف الجابري الفلسفي من أبي حامد الغزالي (3/4) |
نقد الدّعوى الأولى
إدّعى الجابري أنّ الغزالي «دافع عن علم كلام بديل»، ممّا يعني؛ نفي الفلسفة عنه، ولقد حاول الجابري مرارا وتكراراً في كتبه أنْ يمرِّر هذه الدّعوى!حيث نفى عن الغزالي الفلسفة، ليس لأنّه لم يكتب فيهاً شيئاً، وإنّما، لأنّه لم يصل فيها إلى مستوى البرهان، بل نسب إلى ابن سينا الفلسفة، وللغزالي الكلام، فلنتأمل وهو يقول: «كتاب ابن رشد [=تهافت التّهافت] دليل على أنّ الفلسفة في الثّقافة العربيّة عرفت قفزة نوعيّة تجاوزت بل قطعت بوعي وإصرار مع فلسفة ابن سينا و«كلام» الغزالي)(1). ووضع كلام الغزالي بين معقوفتين. ومعنى ذلك؛ أنّه لم يصل في الفلسفة إلى مستوى البرهان الرّشدي حتّى نعطيه مفتاح الفلسفة! وهذا غير صحيح، من وجهين:
- الأول: متعلّق بعلم الكلام الذي رفضه الغزالي، على اعتبار أنّ الغزالي تجاوز سقفه، وكتابه «معيار العلم» الذي أدمج فيه العلوم واعتبر من لم يُحصِّله غير موثوق بعلمه، أراد من خلاله إضفاء العلميّة على المعرفة، وإعلاء شأن الدّين، بشكلٍ يتجاوز علم الكلام إلى علمٍ يشكّل حقاً المعرفة اليقينيّة(2).
ولقد عبّر الغزالي عن هذه الحقيقة في «المنقذ من الضّلال»، حيث أكّد من خلال رحلته الشّكّيّة أنّ أول ما ابتدأ به، هو علم الكلام الذي حصّله وعقِله وطالع كتب المحقّقين منهم، وصنّف فيه ما أراد، فصادفه علم وافٍ بمقصوده كعلم يدافع عن العقيدة، لكنّه قليل النّفع في حقّ من لا يسلم سوى الضّروريّات شيئا، ممّا يعني أنّ علم الكلام عند الغزالي يعاني النّقص في اليقينيات ودلالة هذا ظاهرة بشكل جليّ في كتابه «القسطاس المستقيم»، الذي جعله بديلا عن المنطق الأرسطي المتجاوَز في مجال «الإلهيات»(3) المعبّر عنه في كتابه «تهافت الفلاسفة» وذلك بإخراج منطق جديد وأصيل من القرآن نفسه يعبّر عن عدم كونيّة الفلسفة اليونانيّة. أي من داخل المنظومة وليس من خارجها، إذ استطاع بشكل بارع أن يستخرج خمسة موازين بها تُميّز المعرفة اليقينيّة عن المعرفة الظّنيّة والتّلبيسيّة الشّيطانيّة. معبراً بكل حكمة وثقة أنّ «علم الكلام» مجرّد بضاعة، تتخبّط خبط عشواء، إلى درجة اضطربت عليه الآراء، وبخاصّة في القياس، حيث يكثر الاعتصام بالاستقراء والقسمة المنتشرة، التي تصلح للأقيسة الفقهية الظّنيّة، ولإمالة قلوب العوام إلى صوب الصّواب. كما أنّ مشكلة المتكلّمين حسب الغزالي؛ أنَّ فكرهم لا يمتدّ إلى الاحتمالات البعيدة، بل ينخرم اعتقادهم بأسباب ضعيفة ، وبالتّالي لا يهتدون إلى الطّرق المفيدة بردّ اليقين(4). والكتاب برمّته عبارة عن تنظير وتعليم وتطبيقات، يستحق أن نعود اليه، لما فيه من فائدة منهجيّة عقليّة برهانيّة.
- وأمّا الوجه الثّاني: فهو متعلق بـ «قضية الفلسفة»، التي يعني بها الجابري أنّ الغزالي لم يصل فيها إلى مستوى البرهان. وهذه نقطة يمكن إدماجها مع بعض الدّعاوى الأخرى التي أشرنا إليها أعلاه. والجابري في هذا الأمر له وجهان:
• وجه ينفي فيه الفلسفة عن الغزالي، على اعتبار أنّه لم يرتق إلى مستوى البرهان، وَأنَّ ما كان يقوله لا يخرج عن إطار «الكلام». وهذا الجانب أجبنا عنه في الجزء المتعلّق بعلم الكلام، وسنجيب لاحقاً عن الجزء الآخر المرتبط بمسألة «البرهان».
• ووجه آخر يرمي فيه الغزالي بالفلسفة، على أنّه وهو يدافع عن علم الكلام البديل «الذي كان في عصره يحيل إلى المذهب الأشعري، قد لبس هو نفسه الفلسفة ولبسته»(5).
وبخصوص هذه النّقطة الأخيرة: فإنّ الجابري يصوّر لنا الغزالي كأنّه رفض الفلسفة، لكن بشكل متناقض؛ أي أَنَّه رفض الفلسفة وحاربها بكلّ ما أوتي من جهد، لكنّه لم يستطع أن يتخلّى عنها، فلبسها ولبسته. فهل حقّاً رفض الغزالي الفلسفة، كي نقول عنه ذلك؟!
من خلال أشهر كتاب عند الغزالي «تهافت الفلاسفة» - وهو الكتاب الذي أعده صاحبه مشروعا خاصّا لنقد الفلاسفة- فإنّ أيّ عاقل إذا وقف بعين البصيرة، وبدون أيّ خلفيّة، على محتواه، سيكتشف بكلّ سهولة أنّ الغزالي حدّد موقفه من الفلاسفة، المتمثّل في كونه لم يكن رافضا للفلسفة، وإنّما ناقدا لها في بعض قضاياها، حيث قَبِل كلّ ما هو من صميمها عدا الإلهيّات، لأنّ أكثر عقائدهم فيها على خلاف الحقّ. وهذا هو أصل الخلاف بينه وبين الفلاسفة. أمّا العلوم الفلسفيّة الأخرى كالمنطق، حسب رؤيته لها:
• فأكثرها على منهج الصواب، والفلاسفة يخالفون فيها المسلمين في الاصطلاحات والايرادات دون المعاني والمقاصد.
• وأما الحساب والهندسة فليس فيها ما يخالف الحقّ، واعتبر الغزالي أنّ من ظنّ إبطال هذا العلم بالمناظرة من الدّين فقد جنى على الدّين وضعف أمره، لأنّ هذه الأمور تقوم على براهين هندسيّة حسابيّة لا يمكن معها الشّك. والغزالي هنا يضرب لنا مثالاً منها بالخسوف والكسوف الذي يخبر به العلماء عن وقته وقدره ومدّة بقائه إلى الانجلاء. باعتباره علماً إذا تمّ رفضه على أساس أنّه مخالف للشّرع تسرّب الشكّ إلى الشّرع بأصحاب الشّرع.
والغزالي في هذا المقام، تنبّه بتيقّظ إلى مشكله الفصل بين العلوم في المنظومة الإسلاميّة، التي تقسّم العلوم إلى «شرعيّة» و«غير شرعيّة» وأنّ الضّربة المهلكة نابعة بالأساس من هذا الخلل، فأصبح الدّين يهدِّمهُ بنو جلدته برفضهم للفلسفة البرهانيّة اليقينيّة. فلنتأمل بالحرف قول الغزالي وهو يقول: «ضرر الشّرع ممّن ينصره، أكثر من ضرره ممّن يطعن فيه، وهو كما قيل: [عدو عاقل خير من صديق جاهل].
فإن قيل: فقد قال رسول اللّه ﷺ: (أنّ الشّمس والقمر لآيتان من آيات اللّه لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكر اللّه والصّلاة)(6) فكيف يلائم هذا ما قالوه؟ قلنا: وليس هذا ما يناقض ما قالوه، إذ ليس فيه إلاّ نفي وقوع الكسوف لموت أحد أو لحياته، والأمر بالصّلاة عنده. (...) فإن قيل: فقد روي أنّه قال في آخر الحديث: (ولكنّ اللّه إذا تجلّى لشيء خضع له) فيدلّ على أنّ الكسوف خضوع بسبب التّجلّي؛ قلنا: هذه الزّيادة لم يصح نقلها، فيجب تكذيب ناقلها؛ وإنّما المروي ما ذكرناه، كيف ولو كان صحيحاً لكان تأويله أهون من مكابرة أمور قطعيّة (...) وأعظم ما يفرح به الملاحدة، أن يصرح ناصر الشّرع بأنّ هذا وأمثاله على خلاف الشّرع، فيسهل عليه طريق إبطال الشّرع»(7).
يتبيّن من هذا، أنّ الغزالي، لم يكن ضدّ الفلسفة، بل إنّه استطاع أَنْ يخرج من مأزق الفصل بين العلوم، عن طريق توحيد القراءتين؛ القراءة المسطورة/ الوحي، والقراءة المنظورة/ الكون، حتّى لا يقع التّعارض المخلّ بالشّرع. عن طريق التّأويل الموافق لليقينيات، (=النّص إذا خالف صريح العقل وجب تأويله) ورد ما يتناقض من «الحديث النّبوي» مع البرهان عن طريق إسقاطه، كما رأينا سالفاً.
فالغزالي لم يكن رافضاً للفلسفة كما يدّعي الجابري، بل منتقدا لها في الجانب الميتافزيقي، ومدافعا عنها خاصّة في علم اليقينيات. والمطلّع حقّ الاطلاع على «تهافت الفلاسفة» سيجد أنّ الغزالي قد نقل منزلة الفلسفة باعتبارها عدوّا ايديولوجيّا الى منزلة الفلسفة باعتبارها حلاّ للقضايا المعرفيّة، فبحث في الفرق بين العِلمي من حيث هو علمي، والميتافيزيقي من حيث هو ميتافزيقي، وفي المقدّمات الأربع لتهافت الفلاسفة، نجده يميّز فيها؛ من يخاطب، وعلى من يعترض، وما هي الإشكاليّة، التي وضّح على أنّها ليست توظيفا سياسيّا، ولا توظيفا دينيّا للفلسفة، وإنّما ما يجعل الميتافيزيقا تتحوّل الى عائق ابستمولوجي، فهو يميّز بين الميتافيزيقا التي تتعلّق بفرضيّات حول رؤية العالم، والعلم الذي هو خاضع للمنطق والرّياضيّات وليس شيئا آخر.
ب- أما مسألة؛ فلسفة الغزالي لا ترقى إلى مستوى البرهان: فلقد أكدنا ان خلاف الغزالي مع الفلاسفة كان في مجال الإلهيات، وهو ما يتعلق النراع فيه بأصلٍ من أصول الدين، حصرها الغزالي في: حدوث العالم، وصفات الصّانع، وبيان حشر الأجساد، ويدّعي أنّهم أنكروا كلّ ذلك. وبالتّالي فهو ينازعهم في أصول الإسلام -(=الأصل لايمكن التّخلّي عنه ولا تأويله)- وليس نصوص الإسلام (=النّصّ يمكن تأويله).
ونريد هنا أولاً أن نسرد النّص الذي اعتمده الجابري في هذا الجانب؛ نصّ ابن رشد في أوّل كتابه «تهافت التهافت»، يقول فيه ابن رشد: «فإنّ الغرض من هذا الكتاب أن نبيّن مراتب الأقاويل المثبتة في كتاب التّهافت لابي حامد الغزالي، في التّصديق والإقناع، وقصور أكثرها عن رتبة اليقين والبرهان»(8). وعلى أساس هذا النّص نطرح السّؤال التّالي: ماذا يعني ابن رشد بهذا الكلام، هل يعني موقف الغزالي من أدلّة الفلاسفة؟ أم يعني (حشر الأجساد) و(علم اللّه بالجزئيات) مثلاً، ليس الأمر في دعوى أنّها من أصول الدّين بالغاً حدّ اليقين؟
• فان كان ابن رشد يعني الأمر الأول، فإنّه لا يلتزم حدّ الإنصاف، لانّ من يناقش أدلّة دعوى (=غير يقينيّة) لا يلزمه أكثر من أن يشكّك فيها، فالأدلة التي تسمح بقبول التّشكيك لا تصلح لإنتاج دعوى. ولو كانت يقينيّة ما اقترب منها الغزالي. ولهذا نجده يقول: «ولو كانت علومهم متقنة البراهين، نقيّة عن التّخمين كعلومهم الحسابيّة، لما اختلفوا فيها، كما لم يختلفوا في الحسابيّة»(9)، ولقد كان واضحاً في أمر الميتافيزيقا، حيث نهج في الكتاب منهجاً جليّا في قصور العقل من حيث هذه النّاحية. ذاهبا الى أنّه يمكننا أنْ نعرف اللّه على وجه الإجمال، أمّا على وجه التّفصيل لا يعرف اللّه إلاّ اللّه.
• وأما إن كان ابن رشد يقصد بكلامه الأمر الثّاني (10) فتلك هي النقطة التي اعتبرت بداية التّطرّف والانحراف، لأنّ الشّرع وضّح كلّ هذا توضيحاً لا يلزم منه الشّك بصريح الآيات والأحاديث التي لاتقبل التّأويل.
- وأمّا بخصوص الدّعوى القائلة بأنّ «الغزالي تبنّى (الحكمة المشرقيّة) السّينويّة ذات النّزعة الصّوفيّة الهرمسيّة في كتبه منها؛ إحياء علوم الدّين ومشكاة الانوار» فإنّ هذا الأمر فيه كثير من التّغليط والتّخليط، حيث أنّ صوفيّة الغزالي تختلف كلّ الاختلاف عن صوفيّة ابن سينا، المعتمدة؛ على نظريّة «التولُّد الذّاتي»، ( وهي نظريّة الفيض الفارابيّة السّينويّة) التي برزت منها فكرة جديدة هي؛ إمكانيّة الاستغناء عن آدم كنبي، من هنا تصبح النّبوّة غير ذات موضوع، أو على الأقل غير ضروريّة، والشّيء الذي تقدّمه الفلسفة الصّوفيّة السّينويّة كبديل، هو الأجرام السّماويّة التي تتولّى الوساطة بين الإنسان وواجب الوجود (10).
أمّا عند الغزالي، فلا يوجد مبدأ الوساطة في التّصوف بينه وبين اللّه، فالتّصوف عنده؛ طريق إلى اللّه، بدايته: مجاهدة النّفس، التي تترقّى في مقامات هذا الطّريق وأحواله، لتصل في النّهاية إلى «الفناء في التّوحيد»؛ وأصل ذلك أن يغلب حبّ اللّه على القلب، ويسقط حبّ الدّنيا معه حتّى تقوى به الإرادة وتصحّ به النيّة للوصول إلى المعرفة باللّه(11). فالتّوحيد المنزه هو الذي يعطي للإنسان قيمته كإنسان، ينخرط في الواقع دون أن يكون تفكيره منحصراً في أنانيته، التي تفسد الواقع المعيش وتساهم في انحرافاته.
الهوامش
(1) تهافت التهافت/ نفس المرجع. ص 20
(2) الغزالي أبو حامد «تهافت الفلاسفة» تقديم وتعليق وضبط: د.جيرار جهامي. دار الفكر اللبناني بيروت ط1-1993 ص12.
(3) انظر النسخة المحققة من طرف د.جميل صليبا ود.كامل عياد. دار الأندلس بيروت/ لبنان، ط 7/ 1967 (ص 71-73)
(4) انظر: الغزالي، أبو حامد، القسطاس المستقيم (الموازين الخمسة للمعرفة في القرآن)، قرأه وعلّق عليه محمود بيجو، المطبعة العلمية - دمشق، ط1993م (ص72-79)
(5) «تهافت الفلاسفة» نفس المرجع. (ص21)
(6) من روايات الحديث :
« إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ، وَلَكِنَّهُمَا آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا فَقُومُوا فَصَلُّوا» رواه البخاري .
« إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِمَا عِبَادهُ وَإِنَّهُمَا لا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهَا شَيْئًا فَصَلُّوا وَادْعُوا اللَّهَ حَتَّى يُكْشَفَ مَا بِكُمْ» رواه مسلم .
(7) «تهافت الفلاسفة» نفس المرجع. (ص33)
(8) انظر نسخة تحقيق سليمان دنيا، دار المعارف، ط1-1964. (ص 55)
(9) تهافت الفلاسفة، نفس المرجع. ص31
(10) يعني (حشر الأجساد) و(علم الله بالجزئيات) مثلاً، ليس الأمر في دعوى أنها من أصول الدين بالغاً حدّ اليقين؟
(10) ابن سينا «رسالة أضحوية في المعاد» ضبط وتحقيق سليمان دنيا، دار الفكر العربي، ط1 - 1949 (ص21-22)
(11) أبو الوفا الغنيمي التفتزاني «مدخل إلى التصوف الإسلامي» دار الثقافة للنشر، القاهرة. بدون تاريخ، (ص168-170)
|