وجهة نظر

بقلم
د.عماد هميسي
التّفسير وتأثيرات البيئة (1/3) «معنى التّفسير والبيئة والعصر»
 مقدّمة: 
للقرآن الكريم مكانة متميّزة في ترشيد الفكر الإنساني بصفة عامّة والفكر الإسلامي بصفة خاصّة، وفي بناء مقومات الحضارة الإسلاميّة بدرجة لا يصل إليها أيّ فكر بشري أو كتاب سماوي. فقد ساهم في إعادة تشكيل العقل السّليم، وأرسى منهجيّة واضحة للتّفكير الصّحيح، فبمجيء الوحي الإلهي استفاق وعي المسلم، وأصبح يرى الوجود بمنظور حقيقي مغاير عمّا التبس في ذهنه لأحقاب طويلة، وأصبح لديه منهجا جديدا في صياغة الآراء والمواقف إزاء مشكلاته وقضاياه. وعليه صاغ المسلم مقوّمات حضارة عظمى قدّمت للإنسانيّة تجارب ناجحة في مختلف الميادين، وأعادت للعقل الإنساني مكانته التي يستحقّها. 
وفي هذا الإطار يأتي «التّفسير» على رأس العلوم التي تعكس التّفاعل الإنساني مع الوحي، فتبدو لنا الصّورة المثلى للقاء الإنسان مع اللّه تعالى وتواصله معه، وذلك من خلال فهم آياته، وتمثّل أحكامه. لذلك كان «التّفسير» من أقدم العلوم التي تتميّز بخاصيّة التّجدّد، والاستمراريّة بما يعرضه من الدّلالات القرآنيّة المتجدّدة والمستمرة في الوجود والكون. وليس المقصود بكلامي إلغاء التّفاسير السّابقة، فإنّ هذا لا يعدّ من العلم في فتيل ولا قطمير، ولكن الذي أعنيه هو مواكبة التّفسير لحاجات العصر وإصلاحها، بحيث لا يغدو التّفسير حبيس الأوراق والكتب، وإنّما ينطلق لإصلاح واقع النّاس وحاجاتهم الدّينيّة والنّفسيّة، خاصّة إذا علمنا أنّ هناك دائما شيئا جديدا في القرآن الكريم يُفصح عنه، وأنّ كلّ ما قيل فيه، وعنه هو عبارة عن أشكال متعدّدة وتاريخيّة وتمظهرات لأفهام متنوّعة سيبقى النّص فيها قادرا على اختراق دوائرها، والخروج من الصّمت المطلق الذي تفرضه سلطة المعنى الثّابت حوله.
إنّ حركة النصّ القرآني متجدّدة ومفاهيمه تتخطّى الأبعاد، وحيويّته الدّائمة تتجاوز انعكاساته التي جمدّت في إطارها الزّمني الضّيق، والنّص القرآني لا ينتظر المتخلّفين عن حركته، فدعوته للتدبّر استعجالا للهمم واستنهاضا للعزائم للالتحاق بركب الكمال وعدم الانزواء في حدود الإطار النّزولي أو الجمود على ظاهر، أو تحديده بفهم ساذج ينحرف به عن إطاره البياني.
إنّ في القرآن الكريم من الحوافز الدّافعة إلى إعادة قراءته مرّة تلو المرّة لأكبر دليل على الدّعوة إلى التّجديد في الفهم، بل إنّ للقراءة المتوالية التي لا تنتج فهما أرقى من الفهم السّابق فكأنّما لم تكن. لأنّ القرآن الكريم كمال إلهي مطلق وبحر لا ساحل له، أنزله اللّه تعالى إلى النّاس ليتعرّضوا له بالقراءة والفهم والمدارسة والتّدبر جيلا بعد جيل، فلا ريب أن تعرّض القرآن الكريم إلى قراءات متعدّدة عبر العصور، لأنّ هذا أمر بديهي جدّا، فكل عصر يستطيع أن يستنبط قضايا ومسائل تعينه على اجتياز المأزق الحضاري الذي وُجد فيه، وعليه يمكن القول بأنّ النّص القرآني متجدّد، في كلّ عصر ومكان.
لقد مرّ التفسير بمراحل تاريخيّة، تشكّلت فيها صورته، وتحددّت مادتّه على أساس التّفاعل بين رؤيتين، الرّؤية القرآنيّة التي تنزّلت تباعا مع تنزّلات الوحي، حتّى استوت واكتملت مع إكمال الدّين وإتمام النّعمة به على المسلمين. والرّؤية الإنسانيّة التي تلقّت للوحي تبيّنا وبيانا وتنوّعت مستويات هذا التبيّن والبيان بحسب الزّمان والمكان والإنسان. فكان التّفاعل بين  الرّؤيتين على مرّ العصور التي تلت نزول الوحي إلى اليوم تتجاذبه هيمنة رؤية المفسّر أحيانا وهيمنة رؤية النّص المفسّر أحيانا أخرى. بل لقد حدثت ثورة حقيقيّة على الواقع السّائد شكلا ومضمونا من خلال هذا التّفاعل بين الرّؤيتين، ممّا ساهم في تشكيل خطّة واضحة المعالم ينبني عليها كلّ بناء معرفي متكامل بديع لا يفقد بصمته مهما تقادم الزّمن وطال التّاريخ.
ولأنّ المفسر قبل أن يكون شارحا لكلام اللّه تعالى، هو إنسان منفعل بثقافة معيّنة لمجتمع معيّن، لا يمكن فصله عن خلفيّاته الثّقافيّة والسّلوكيّة والاجتماعيّة، فإنّ النّص القرآني هو المجال الفعلي للمقاربات تصوّرا و اعتقادا، وليست العمليّة التّفسيريّة وإن تنزّلت في أنساق صارمة ومعلومة، بمنأى عن الحيثيّات الخارجيّة التي نزعتها في أحيان كثيرة من مرجعيّة النّصّ القرآني لتدفع بها في اتجاه الاستجابة لشروط العمران، ومطالب الانتماء ومقتضيات أعراف الجماعة وتقاليدها، وما تريد ترسيخه من مواقف تحققّ من خلالها مكاسب في الوجود أولا، وفي الانتشار والسّيادة، والهيمنة ثانيا. 
إنّ القضيّة بهذا الاعتبار على درجة من التّعقيد إذ تتداخل فيها عديد المستويات المختلفة وتتراسخ   فيها العلاقات المتنوعة، وهو ما يفسّر كثرة المداخل التي باشر من خلالها جمهور الفلاسفة والمتكلّمين واللّغويين والأصوليّين قضيّة التّفسير. وبحكم هذا التنّوع والاختلاف في أشكال التّناول والدّراسة آل الأمر بهؤلاء إلى جدال مستحكم كثيرا ما تمّت التّضحية فيه بالحقيقة، حيث ألغت جلّ هذه المقاربات الكيان اللّغوي للنّص القرآني القاضي بالإبلاغ والإفهام. 
ويقتضي هذا الإجراء المنهجي الصّارم معالجة التّفسير وفق شروطه النّصيّة التي تأسّس عليها معرفة خصوصيّة الإبلاغ والإفهام فيه، وهو ما لم يتحقّق في فترات عديدة من تاريخ الفكر العربي الإسلامي، حيث عمّت الخطابات المنفلتة من قيود العقليّة وانتشرت ثقافة الإقصاء والتّهميش، وأصبح الوعي بالأخر مرتبطا بالانفعاليّة.
إنّ مثل هذه القراءة التّفسيريّة لا يمكن أن تحققّ مقصدها ما لم تصادر كلّ مقاربة تبريريّة كان هدفها باستمرار تكريس الاختلاف، وتعميق هوّة الفرقة بين القراءات المتنوّعة من جهة، وما لم تكرّس أولويّة النّص القرآني وشروطه اللّغويّة المحضة على مراكز الضّغط الحافّة به من جهة أخرى. لأنّنا في الحقيقة نحن بحاجة إلى قراءات تفسيريّة إلزاميّة تراعي السّياق التّاريخي الزّمني لنزول الآيات القرآنيّة للوصول إلى المعنى المباشر القريب للنّص القرآني، مراعية كلّ السّياقات الأخرى المساعدة لبلوغ المعنى الأدّق والأبسط والأوضح، وإلى قراءات تفسيريّة تطويريّة تعيد تنزيل معاني الآيات القرآنيّة على عصرنا أي تنزيلها من جديد على اللّحظة التي نعيشها. 
تلك هي إشكاليّة التّعامل مع القرآن الكريم، وإشكاليّة التفّاسير بصورة أدّق: إشكاليّة تتحدّد أسئلتها الكبرى في كيفيّة التوّفيق بين رؤية المفسّر التي توجّه عمله التّفسيري وفهمه للقرآن الكريم وتمثّل دلالاته، وبين الرّؤية القرآنيّة المودعة في كلماته وآياته وسوره؟ وهل من مدخل آمن إلى التّفسير وإلى اقتناص الرّؤية القرآنيّة الخالصة التي تعصم صاحبها من السّقوط في مزالق التّفسير الجاهل والتّحريف الضّال؟
لا أزعم في هذا المقال تقديم إجابات واضحة على هذه الأسئلة الكبيرة، وإنّما هي محاولة لطرق باب البحث في هذه القضيّة، مبرزا من خلالها وضع التّفسير بين تأثيرات البيئة وتطوّرات العصر الحديث.
المطلب الأوّل: معنى التّفسير والبيئة والعصر: 
أ- معنى التفسير :
التفسير تفعيل من الفسر معناه الكشف والإجابة وإظهار المعنى المعقول(1). ومنه قوله تعالى: ﴿وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا﴾(2)  أي بيانا وإيضاحا وتفصيلا (3) . 
وقال ابن فارس: «الفاء والسّين والرّاء كلمة واحدة تدل على بيان شيء و إيضاحه»(4).  ويطلق أيضا التفسير على التّعرية(5). ويظهر ممّا تقدم أنّ التفسير يستعمل في معنيين أساسيين الأوّل: الكشف الحسّي، والثاني: الكشف عن المعاني المعقولة. 
وفي الاصطلاح: «التفسير هو عبارة عن معرفة أحوال ألفاظ القرآن الكريم ومعانيه من حيث الدلالة على مراد الله تعالى حسب القدرة الإنسانية»(6) .
قال الزركشي: «هو علم يفهم به كتاب الله تعالى المنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وبيان معانيه  و استخراج أحكامه وحكمه»(7). ويقول ابن جزي: «معنى التفسير شرح القرآن وبيان معناه والإفصاح عمّا يقتضيه بنصّه أو إشارته أو فحواه»(8).
ب – معنى البيئة:
قيل إنّ البيئة في اللّغة هي من فعل بوأ والباءة والمباءة تعني المنزل. وقيل منزل القوم حيث  يتبّوؤون من قبل واد أو سند جبل(9) .وأصل البواء اللّزوم، ثم استعمل في كل مقام بما يناسبه، وتأتي مادة «بوأ» بمعنى التهيئة و الإقامة وإصلاح المكان(10). يقول اللّه تعالى: ﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ  وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾(11).
أما في الاصطلاح فقد قيل إنّها المحيط أو الوسط الذي يولد فيه الإنسان وينشأ فيه ويعيش خلاله حتى تنتهي حياته(12). وقيل إنّها  المجال الذي تحدث فيه الإثارة والتّفاعل لكلّ وحدة حيّة، وهي كلّ ما يحيط بالإنسان من طبيعة ومجتمعات بشريّة ونظم اجتماعيّة وعلاقات شخصيّة(13). وقيل إنّها الإطار الطبيعي والاجتماعي الذي يعيش فيه الفرد بما يتضمّنه من تكنولوجيا يخترعها الإنسان(14).
و في هذا المجال نجد علماء التفسير قد جعلوا معرفة البيئة التي نزل فيها النصّ القرآني جزءا من علوم القرآن الكريم، فصنّفوه إلى ما نزل ليلا ونهارا وصيفا وشتاء، وما نزل بمكة وما نزل بالمدينة، إلى غير ذلك من بيئة زمنيّة ومكانيّة.
ومن الأسباب المباشرة التي جعلت الصّحابة أهلا لفهم النّص القرآني بصورة عميقة أكثر من غيرهم، أنّهم شهِدوا التّنزيل وكانوا على معرفة ودراية كاملة بعادات ومعتقدات العرب واليهود والنصارى وغيرهم، بل ربّما كان سلوك بعضهم مادّة لنزول عدد من الآيات القرآنية (15).
ج- معنى العصر:
من مـادة «عصر» بمعنى الزّمن والدّهر، وينسب إلى دولة أو إلى ملك أو إلى تطـوّرات طبيعيّة واجتماعية كعصر الدّولة العباسيّـة وعصر هارون الرشيد، والعصر الحجري، وعصر البخار والكهرباء وعصر الذّرة ... (16) ويسرع في العصر إتمام الأعمال اليوميّة وتكميلها فيه لتحصل المطلوب من جريان الحركات اليوميّة (17) .
في الجزء الثّاني من المقال، سنتطرق إن شاء اللّه إلى المطلب الثّاني المتعلّق بأشكال البيئة وتأثيراتها في التّفسير (البيئة السياسيّة والبيئة الفقهيّة والبيئة العقديّة).
الهوامش
(1) ابن منظور: لسان العرب – دار الفكر – 5/55- مادة فسر.
(2) سورة الفرقان - الآية 33 
(3) السيوطي: الإتقان في علوم القرآن – مطبعة مصطفى البابي الحلبي – 1375 هـ /1951 م مصر 2 / 173.
(4) إبن فارس: مقاييس اللغة – دار الفكر – ط 1 – 1399 هـ / 1979 – 4 / 504 – مادة فسر.
(5) الذّهبي: التفسير والمفسرون – دار الكتب الحديثة – 1396 هـ / 1979 م – مصر - 13
(6) الزرقاني: مناهل العرفان في علوم القرآن – دار  الكتب العلمية – 1409 هـ / 1988 م بيروت – 2/6
(7) الزركشي: البرهان في علوم القرآن – مكتبة الخانجي – القاهرة – 1/33
(8) ابن جزي: التسهيل لعلوم التنزيل – دار الكتب العلمية – 1415 هـ/1995م – 1/6
(9) ابن منظور: لسان العرب – 1/39 – مادة بوأ.
(10) الزبيدي: تاج العروس  من جواهر القاموس – دار الهداية  - 1/152 إلى 157 – مادة بوأ
(11) سورة يونس - الآية 87
(12) عبد الكريم عفيفي: المداخل المعاصرة للخدمة الاجتماعية في مجال البيئة – دار المعرفة – ط1 – مصر-1
(13) عرض سيد + حاتم أحمد: البيئة والتنمية والخدمة الاجتماعية – دار المعرفة الجامعية – طبعة 1 - 1414 هـ/1994م – مصر  ص23.
(14) المصدر نفسه –ص 25.
(15) انظر الزركشي: البرهان في علوم القرآن – 1/192.
(16) ابن منظور: لسان العرب – 10/170 – مادة عصر. 
(17) انظر حسن المصطفوي: التحقيق في كلمات القرآن الكريم – المصطفى العالمي للترجمة والنشر - ط 1 - 1416هـ/1986م-
  8/176.