وبعد

بقلم
أ.د.احميده النيفر
المثقف العربي والإسلام عندما ينسحب الفقيه 2/3
 كيف نشب الخلاف بين الفقيه والمثقف العربي، ثم كيف تدهورت العلاقة بينهما حدَّ التّناكر والعداء؟ لماذا استفحل الشّقاق بينهما؟ وهل كان من الممكن تفاديه أو التّحكم فيه؟ أيجوز أن نقارن صدام هذين الرّمزين في العصر الحديث بالتّنافس الدّامي القديم بين أهل الفقه والشّريعة وبين أهل التّصوّف والطّريقة؟
لماذا غدا عموم المثقّفين العرب بعد إزاحة الفقهاء من صدارة الفعل الاجتماعي والتّشريعي في تبعيّة لسلطان الحكم بعد أن كانوا روّادا حاملين لمشروع فكري عام قابل لتحريك المجتمع؟ 
إذا أردنا تقديم إجابات ضافية وعلمية عن هذه الأسئلة، فإنّنا نحتاج إلى عمل دراسي شامل ومعمّق لا يسمح به المقام. مثل هذا الغرض يمكن أن تحقّقه أيضا ندوة علميّة يساهم فيها عدد من الباحثين العرب والأجانب يتداولون فيها بالدّرس حالات عربيّة متنوّعة في خصوصيّاتها قصد النّظر في تحوّل المؤسّسات العلميّة والاجتماعيّة ورصد تاريخ الأفكار وتطوّرها في العالم العربي الحديث.
لذلك سنقصر عملنا هذه المرّة وفي مقال موالٍ، على أنموذج واحد ضمن المجال العربي هو الأنموذج التّونسي نسعى من خلاله إلى إضاءة جانب من إشكاليّة المثقّف العربي في علاقته بالإسلام مُنجَزًا حضاريّا معيشا وبالفقيه الذي ظلّ لقرون صاحب السّلطة المرجعيّة دينيّا وتشريعيّا في المجتمعات المسلمة. 
لم تشذ تونس عن سائر البلدان العربيّة والإسلاميّة في ظهور فئة المثقّفين الحاملين لمعارف جديدة لا صلة لها بالمرجعيّة الدّينيّة، والمطالبين باحداث قطيعة عمليّة مع الماضي، والعاملين من أجل تصوّر جديد للمستقبل. لعلّ تونس كانت، في هذا المضمار، أسبق من كثير من الأقطار العربيّة الأخرى باعتبار مبادراتها أو اضطراراتها لإجراء حركة إصلاحات تحديثيّة في مختلف المجالات. من ثمّ توفّرت الشّروط الموضوعيّة لانبثاق المثقّف من رحم تحديث المجتمع. 
من أبرز أحداث الطّور الأول لتلك الحركة سجّل المؤرخ التّونسي أحمد ابن أبي الضياف في كتابه-المرجع: «إتحاف أهل الزّمان» جملة من القرارات كانت إيذانا بقيام خيارات أساسيّة تهمّ الدّين والدّولة والأداء السّياسي والتّوجّه الاجتماعي فضلا عن السّياسة الخارجيّة والوطنيّة. من هذه الاجراءات يمكن أن نذكر: 
* إبطال مهمّة «المزوار» أو المحتسب القائم بالأمر بالمعروف والنّاهي عن المنكر سنة 1836م، 
* جعل مرتبات قارة لفقهاء المالكيّة يتقاضونها مع الجند النّظامي وإنشاء مدرسة حربيّة خاصّة لتكوين الإطارات العليا للدّولة، تحت إشراف مزدوج أوروبي تونسي سنة 1840م، 
* إحداث نظام تعليمي يضبط به سير الدّروس الدّينيّة في جامع الزّيتونة 1842، عتق الرّقيق السّود سنة 1846م. 
لكن أهمّ تلك الأحداث وأكثرها تعبيرا عن الولوج بصورة أكيدة في سياق تحديثي تحقّق سنة 1274 هـ الموافق لسنة 1857م. في ذلك العام أصدر الملك وثيقة«عهد الأمان» وهو أوّل دستور ينظّم الحياة السّياسيّة والقانونيّة والاجتماعيّة والماليّة لسكّان القطر وللأجانب المقيمين به. كان رد فعل الفقهاء عند تلاوة نصّ الوثيقة لأوّل وهلة هو الاستحسان إلى حدّ تصريح شيخ الإسلام بأنّه يمكنه أن يخطب يوم الجمعة بشرح الوثيقة ذلك أنّ قاعدة الأمان والعدل «هي ملاك أمر الدّين والدّنيا».  لكنّ المجلس الشّرعي اتخذ بعد ذلك موقفا مغايرا، فاعتذر جميع أعضائه عن المشاركة في أعمال لجنة إقرار التّراتيب وشرح الفصول المسطّرة في الدّستور. كان عذرهم الذي تقدموا به إلى الملك كتابةً هو «أنّ منصبهم الشّرعي لا تناسبه مباشرة الأمور السّياسيّة»!. 
يعتبر ابن أبي الضياف- وهو من خريجي المؤسسة الزّيتونيّة ومن أشدّ المتحمّسين للإصلاح والتّحديث، هذا الانسحاب غير المبرّر إخلالا بواجب العلماء في القيام بالنّصيحة لأئمة المسلمين وعامّتهم وتضييعا لفرصة تاريخيّة كان يمكن للفقهاء لو شاركوا فيها أن يفيدوها وأن يستفادوا منها وأن يكون ذلك باعثا لنَفاق «سوق العلم وتقدّم أهله». ثم يعلّق على كلّ ذلك فيما يشبه اليأس من حسن تقدير الفقهاء أنّ اللّه «سيسألهم عن ذلك يوم تُبلى السّرائر».
ذلك كان الحدث الفارق في التّاريخ الحديث بتونس بين المؤسّسة الدّينيّة وممثليها من الفقهاء وبين فئة المثقّفين الصّاعدة. 
توالت بعد ذلك أحداث أخرى رجّحت بعضُها ما ذهب إليه المؤرّخ-المثقّف من تهاون الفقهاء بواجبهم في «تيسير الشّريعة الصّالحة لكلّ زمان ...وقبول ارتكاب أخفّ الضّررين عند العجز عن السّلامة منهما». هذا بينما بيّنت مواقف أخرى، من أبرزها اضطراب في العاصمة بعد توقف المجلس الشّرعي عن العمل لمطالبة الملك بتقييد الدّولة بمجلس للشّورى في صيف 1879، أن قسما من الفقهاء على وعي بما يتطلّبه الوضع بالبلاد من إصلاحات سياسيّة ومؤسّساتيّة عشيّة قيام الحماية الفرنسيّة. كان لسان حال بعضهم يقول، وهو المدرك أنّ الأمر آيل إلى انقلاب كبير، «لا رأي لمن لا يطاع» بينما كان آخرون يردّدون «لقد سبق السّيف العذل».
ذلك كان منطلق الخلاف الذي سيتواصل متدرّجا مع الأيام، ليبرز المثقفَ منافسًا عنيدا للفقيه رغم كونه حصّل معارفه من جامع الزّيتونة، ذات المؤسّسة التّعليميّة الوطنيّة القائمة على تكوين النّخب الرّائدة والإطارات العليا للدّولة. مع انطلاق مؤسّسات تعليميّة منافسة منها الوطني بمشاركة شيوخ من الزّيتونة ومنها الأجنبي الوافد، اشتد التّنافس إلى أن أصبح غير متوازن. عندها أضحى المثقّف متملّكا لوعي ذاتي بالاتجاهات العامّة في حضارته وفي مسيرة العالَم من حوله بما جعله أَلْحَنَ بحجَّته من منافسه. أمّا الفقيه فقد ارتدّ في الغالب إلى مواقع دفاعيّة تعوزه الرّؤية النّقدية للسّياق التّاريخي الإسلامي الخاصّ فضلا عن تشخيص سليم للسّياق الحضاري العام. يضاف إلى ذلك عنصر آخر زاد الطّين بلّة، أظهره بجلاء سياق التحديث، هو أنّ الفقهاء أصبحوا ثلاثة: فقيه ولاء لمؤسّسة السّلطة يرى السّمع والطّاعة أفضل ضامن لالتئام الأمّة، وفقيه ادّراء يتجنّب المواجهة أو النّقد مع اعتقاد ضرورة الإصلاح، وفقيه انتماء إلى الجماعة والأمّة، مدرك للفجوة القائمة بين الواقع الموضوعي للمجتمع وبين البنية الفقهيّة والفكريّة المعتمدة لدى عموم أقرانه.
مع قيام نظام الحماية الفرنسيّة تواصل العدّ التّنازلي المؤذّن بتراجع واضح لمكانة الفقيه وبروز المثقّف المقترِح مرجعيّةً ثقافيّة بديلة تحقّق الوقوف على العديد من ثغرات المجتمع.
ما سيقع اعتماده من وسائل التّشنيع والإدانة بل والتّكفير لمقاومة المنافس الصّاعد القائل بضرورة تجاوز مرجعيّة النّخب المتدينة كان أكبر دليل على فشل دعوى التّقليد. هذا ما تؤكّده أكثر من حالة في الأنموذج التّونسي لعلّ أشهرها حالة المثقّف عبد العزيز الثّعالبي الذي حوكم سنة 1904 بتهمة الكفر ونشر الضّلالات وحالة الطّاهر الحداد (تـ 1935) الذي وقعت مقاومته بشدّة لما أظهره من رفض لوثوقيّة الفقيه الدّاعم للتّقاليد الفاسدة وللدّعوة لإصلاح أوضاع الأسرة والمرأة خاصّة.
من هذا الطّور الأول الذي سبق بناء الدّولة القطريّة الحديثة في تونس يمكن أن نستنتج أن المثقّف انتهى لموقع أصبح فيه رائدا للثّورة على التّراث، معتبرا أنّ الثّقافة السّائدة ثقافة تقليديّة متخلّفة، وأنّ المجتمع يتطلّب تغييرات جذريّة شاملة بعضها يتمّ بتغيير نظام الحياة، وبعضها الآخر يستدعي تغييرا لنظام الفكر.