في الصميم

بقلم
د.عثمان مصباح
القصص القرآني من منظور جديد (5) تجربة الجنّة والتّأهيل العملي
 في اختبار الكفاءة العلميّة أثبت آدم أن اصطفاءه لخلافة الأرض كان عن علم وحكمة، وبناء عليه أمر اللّه الملائكة أن تسجد له إقرارا بهذا التّكريم المناسب، وفي اللّحظة التي كان المتابع الخالي الذّهن من أساطير التّراث ينتظر المشهدَ المواليَ أن يكون في الأرض، إذْ به يقرأ: ﴿وَقُلْنَا: يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ، وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا، وَلَا تَقْرَبَا هَذهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ! ‌فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا، فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ، وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ، وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ﴾(1)
وهنا يتساءل المتابع الخالي الذّهن من أساطير التّراث: ما الحكمة من إدخال آدم في تجربة فاشلة قبل تمكينه من مباشرة مهام الخلافة؟
في المقابل كان المتلقّي التراثي قد نسي المسألة المركزيّة المتمثّلة في خلافة الأرض، وانغمر في حالة من الإحباط والتّحسّر على فرصةٍ تَوهَّم أنّ آدم ضيّعها على ذريته، وكيف ينجو من هذا التّعلّق الطّفولي بالحلم الضّائع وهو يقرأ في كتب التّفسير أنّ نبيّا عظيما كموسى الكليم يوبّخ أبا البشريّة قائلا: «ما حَمَلكَ على أن ‌أخرجْتَنا ‌ونفسَك ‌من ‌الجنَّة؟»، فلم يجد آدم لنفسه من عذر سوى التّحجّج بالقدر، قال: «لِمَ تَلُومُنِي عَلَى شَيْءٍ سَبَقَ مِنَ اللَّهِ فِيهِ الْقَضَاءُ؟»، وهكذا ضيّع تراثُنا الأصل، وانشغل بالهزل، وصدق من قال: «أكثر أنواع الغباء شيوعا نسيانُ المرءِ الهدفَ من وجوده».
لقد أدخل تراثنا التّفسيري أبانا آدم قفص الاتهام، وصيّرَ خطيئته شؤما أبديّا، وصرف النّاس عن المقصود من تجربة الجنّة، وعن صلتها بخلافة الأرض.
عهد الجنّة وعهد الاستخلاف 
مشروع كبير له خصم في عداوة إبليس يحتاج إلى شحذ للإرادة يوَلّد العزائمَ الكبار، والعزيمة بنتُ العلم والتّجربة، وآدم كان له علمٌ نظريٌّ ولم تكن له تجربة، وقد وصفه اللّه في أوّليّته فقال: ﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ ‌عَزْمًا﴾(2)  
والعهد المقصود في الآية هو عهد الجنّة الذي كان قبل عهد الخلافة، بدليل التّتمة: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ: اسْجُدُوا لِآدَمَ! فَسَجَدُوا، إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى. فَقُلْنَا: يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ، فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى، إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى، وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى. فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ: يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى؟ فَأَكَلَا مِنْهَا، فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا، وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ، وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى﴾(3)
 هل انتهت قصّة آدم بهذه الغواية؟  قطعا لا، واقرأ ماذا وقع بعدُ: ﴿ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى﴾(4)
والاجتباء هو الاصطفاء الفعليُّ الذي شرّف اللّه به آدم، وهذا معناه أنّ اللّه أخبر ملائكته باستخلاف آدم قبل أن يعهد إليه بالخلافة، ولم يعهد إليه إلاّ بعد تجربة الجنّة، والخلافة كما هو معلوم مرتبطة بالأرض، فبدايتها إذن لن تكون إلاّ بعد الهبوط من الجنّة لا قبله، وعليه فإنّ لحظة الجنّة ليست هي البداية الحقيقية لتاريخ الاستخلاف.
الحكمة الإجماليّة من تجربة الجنّة
كانت جنّة آدم ابتلاءً مُرفّها، مُتعُها جاهزة، وفي متناول اليد، ولا واجب على الزّوجين إلاّ واجب واحد لا يتطلّب فعلا، بل تركَ الفعل: ﴿فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا، وَلَا تَقْرَبَا هَذهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾(5)، لكن مخالفة واحدة موجبة للإخراج، من هنا نفهم أنّ الزّوجين لم يكونا فيها مَلِكين، بل كانا في ضيافة مشروطة، ممّا يؤكّد أنّ الخلافة باعتبارها مُلكا نيابيّا لم تبدأ في الجنّة.
ومع أنّ اللّه تعالى كان قد حذّرهما من كيد إبليس فقال: ﴿يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ، فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى﴾(6)، فلم يلبثا إلاّ قليلا حتّى صرعهما إبليس بالضّربة القاضية! فهل أخطأ اللّه كما توحي التّوراة المحرّفةُ حتى اضطرّ إلى التّصحيح بواسطة الطّوفان؟
كلا! وحاشا! بل الرّبوبيّة اقتضت هذا الدّرس القاسي لإحداث عِبرة يكتمل بها عقل خليفة مبتدئ، له مشروعٌ خطير مهدّد بمشروع مضادّ، فالشّقاء الذي ترتّب على الإخراج لم يكن مِن نقل آدم إلى مسرح الاستخلاف، بل كان شقاءً مؤقّتا سببُه انخداع بكيد الشّيطان، أدّى إلى إساءة الظنّ بالرّحمن، والوقوف على حافة الخسران: ﴿‌قَالَا: ‌رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا! وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ!﴾(7)، ﴿‌فَتَلَقَّى ‌آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ، إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾(8). 
عهد الجنّة إذن لم يكن في حقيقته إلاّ تأهيلا عمليّا لعهد الخلافة، والإخراج من الجنّة لم يكن بالقطع كطرد إبليس، بل كان لإنجاح التّأسيس، ولهذا كانت خاتمةُ عهد الجنّة بدايةً لعهد الخلافة: ﴿قَالَ: اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا، بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ، فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا، وَنَحْشُرهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾(9)، فتحقّق بهذا العهد الاستخلافي المقصودُ من خلق الإنسان، وصار دليلا للوقاية من الضّلالة والشّقاء.
تجربة الجنّة كانت لطفا إلهيّا لتحصين مشروع آدم في الأرض ضدّ الإحباط، حتّى لا يكون كالجنين الواعد الذي أُجهض في مهده، تاركا في الضّمير ذكرى سوداء تبعث على اليأس عند كلّ محاولةٍ للنّهوض. 
وقد أثبت التّاريخ أنّ البشريّة سرعان ما ترتدّ إلى الطّفولة، وأنّ النّضج الحضاري في أمسّ الحاجة إلى عِبرة ممزوجة بعَبرة، إذ لا شيء أنفع لإنسانيّة متصابية من صدمة تُطلّ بقرونها على عدميّة سحيقة دون أن تعانقها، يثوب منها المغرورون بوعي تاريخي يستدرك من العقل ما فات، ويستأنف دورة جديدة من الحياة، وليس منّا ببعيدٍ درسُ الحرب العالميّة الثانية، وما كان لصدمتها الهائلة من آثار حميدة.
الخبرة الوجدانيّة التي حصلت في الجنّة
خلافة الأرض مشروع فيه ثلاثة أطراف: الله باعتباره الملكَ الحق، والإنسانُ باعتباره ملِكا بالنّيابة، والشّيطانُ باعتباره صاحب مشروع تخريبي معادٍ. 
فالملك الحقّ هو الرّبّ الأكرم، الذي استوى على العرش (رحمانَ) بعد أن أتمّ خلق السّماوات، وزيّن الدّنيا منها للنّاظرين، وبعد أن خلق الأرض وجعل فيها كلّ ما تتوقّف عليه مشاريع إعمارها وتزيينها، وفوّض إلى الخليفة هذه التّسوية على سبيل النّيابة الاختباريّة.
والإنسان كائن اصطفاه اللّه دون الملائكة والجنّ ليكون خليفة الأرض، وهيّأه بنفسه لهذه المهمّة التي ما كان يعرف حقيقتَها أحد سواه، فخلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وعلّمه كلّ الأسماء التي تفتح له مغاليق الخلافة.
والشّيطان هو العدوّ المبين للإنسان، وسبب عداوته أنّه كان يرى نفسه أولى بالخلافة من آدم، فلهذا أبى أن يسجد كما سجدت الملائكة، وأقسم للّه أن لا يقصر في غواية الإنسان، حتّى يصرفه عن الخلافة، ويورّطه في الكفر بدل الشّكر: ﴿قَالَ: ‌فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾(10)
وقد اقتضت رحمة الملك الحقّ أن لا يُعرّض خليفتَه المبتدئ لفشل في التّأسيس، فأذاقه مرارة الفشل في تجربة فردوسيّة، ليُعرّفه كرم ربّه، وشراسة عدوه، وخطر الفشل في مهمّة الاستخلاف، حتّى إذا باشرها بعدُ في الأرض كان في غاية اليقظة والحرص، ذاكرا للعهد، حافظا لمملكته التي استثمر في بنائها الجهد والوقت والمال من مكائد إبليس التّخريبيّة. 
وقد دلت سذاجة آدم في الجنّة على أنّ المدى واسعٌ جدا بين المعرفة النّظريّة بالأسماء، وبين الوعي على مآلاتها النّفسيّة والاجتماعيّة، فكان أقصر طريق إلى ترسيخ معارفه، وشحذ عزيمته خسارةٌ فادحة يكون فيها النّصر المؤقّت لخصمه الأبدي، تجعل من آدم عبرة لنفسه ولذرّيته، لكنّها تُكسبه خبرة ثمينة بربّه وبذاته وبعدوه قبل لحظة الصّفر من تاريخ الخلافة.
ولعلّنا اليوم نستسهل اختبار الجنّة، ونراه امتحان الخمس نجوم الذي تستحيل فيه الخسارة، ذلك لأنّنا ننظر إليه من فوق السّطوح العالية للتّجارب الإنسانيّة، وهي التّجارب نفسها التي لا زالت تؤكّد أن العقل الإنساني لا بدّ له من تلقيح بمضادات حيويّة تعرفه على وجوه المخاطر المحدقة، لتكسبه المناعة ضدّها.
إنجازات آدم بعد تجربة الجنّة
نجح آدم في الأرض نجاحا عظيما تجاهله التّراث، رغم أنّ القرآن قد نوه به، حيث مدح الأمّة الأولى في التّاريخ مِدحتين شريفتين صارت بهما تجربة نموذجيّة: 
فوصفها بأنّها كانت أمّة متآخية، يعيش أفرادها طمأنينة نفسيّة، وسلما اجتماعيّا، فقال: ﴿وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا ‌أُمَّةً ‌وَاحِدَةً﴾(11) وبيَّن المقصود بالوحدة بما وقع بعدها: ﴿فَاخْتَلَفُوا، وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾(12) والاختلاف في القرآن هو التّناقض المفضي إلى البغي، والنّزاع الدّموّي، والإفساد في الأرض.
ووصفها وصفا ثانيا يفيد مرجعيَّتها في الاستقامة على الحقّ فقال فيها بعد أن ذمّ المُختلّفين: ﴿بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ، وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ، فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا، فِطْرَتَ اللَّهِ ‌الَّتِي ‌فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾(13)
فالنّاس الذين فطرهم اللّه على فطرته هم الذين عاشوا في الأمّة التي أسّسها آدم كما سنبين لاحقا، وآية الفطرة تؤكّد أنّ الوحي النّازل من السّماء لم يأت بشريعة مفارقة للتّاريخ، بل بذكرٍ نسترجع به كفاءتنا الفطريّة التي كانت لأسلافنا الأوائل قبل أن يجهز الاختلاف على أوّل تجربة ناجحة في الاستخلاف، وهذا هو السرّ في تسمية الوحي (ذكرا)، والإيمان (إنابة).
ومن أعظم الثّناء على تجربة آدم الاستخلافيّة قوله تعالى بعد قَسَمٍ مُثلث: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ. ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ﴾(14) فالأحسن هو إنسان الفطرة الأولى الذي ترعرع في رعاية آدم، والأسفل هو الذي نقض عهد الاستخلاف، وتولّى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنّسل.
خاتمة
بتجربة الجنّة اكتملت عُدّة آدم للوفاء بعهد الخلافة، وقد كنّا أشرنا في السّابق إلى أنّ سرّ آدم لم يكن روحا ذا كُنه غامض يسكن جسدا عاطلا، وهي الأسطورة التي جعلت من الرّهبان أربابا، سِرّ آدم الحقيقي في قلبه اللُّحماني، حيث أودع اللّه قوتين جبارتين، القوّة الأولى جعلته يتعلّم الأسماء كلّها باقتدار منقطع النّظير، والقوّة الثّانية هي الإرادة التي صاغتها القدرة الإلهيّة على هيئة بديعة، بحيث يمكنها أن تكون في الأرض على مثال إرادة اللّه في السّماء، لأنّها إرادة ملك مستخلَف لملك حقّ، فسرّ الإرادة سرّ عجيب سنحاول الكشف عنه في الحلقة الموالية إن شاء اللّه.
الهوامش
(1)  سورة البقرة - الآيتان 35 و36
(2)  سورة طه - الآية 115
(3) سورة طه - من الآية 116 إلى الآية 121
(4)  سورة طه - الآية 122
(5)  سورة الأعراف - الآية 19
(6)  سورة طه - الآية 117
(7)  سورة الأعراف - الآية 23
(8)  سورة البقرة - الآية 37
(9)  سورة طه - الآيتان 123 و124
(10)  سورة ص - الآيتان 82 و83
(11)  سورة يونس - الآية 19
(12)  سورة يونس - الآية 19
(18)  سورة الروم - الآيتان 29 و30
(19)  سورة التين - الآيتان 4 و5