في العمق

بقلم
أ.د.احميده النيفر
المثقف العربي والإسلام «سنوات التدابر»
 اتّسمت علاقة المثقّف العربي بالإسلام في الفترة المعاصرة بقدر من التوجّس كبير وصل في بعض الأحوال إلى حدّ العداء المُعلن.  
قد لا يتصوّر اليوم جيل كامل من الذين لم يبلغوا الأربعين طبيعة هذه العلاقة المأزومة ودرجة حدّتها لكونهم لم يعايشوا تلك الأجواء، إنّما عرفوا أوضاعا مختلفة يظهر فيها الإسلام بدعاته ومؤسّساته صاحبَ صولة بينما يبدو مثقفو الحداثة بطروحاتهم وخطابهم  العقلاني في تراجع وانزواء. 
إذا عدنا بالذّاكرة إلى السّنوات التي سبقت هزيمة جوان/ حزيران 1967، تاريخ بداية تراجع تدريجي للتّيارات المناهضة للهويّة والإيمان، برزت لنا الرّوح الحَدِّية التي شكّلت الحياة الفكريّة والسّياسيّة العربيّة طوال سبعة عقود. 
تميّز طور أوّل ببروز حركة صراع فكري وإنتاج أدبيّ متميّز عُرفت بالمعركة بين القديم والجديد كان من أبرز أسمائها طه حسين وأحمد حسن الزّيات ومحمد الصادق الرّافعي صاحب مقولة : «إسقاط البدعة الجديدة التي يريد دعاتها تجديد الدّين واللّغة والشّمس والقمر». ثمّ مع أربعينات القرن الماضي تراجعت المقاومة وبدأت سنوات تدابر ساد فيها المثقّف العربي الثّوري بتحليلاته الجذريّة وخطابه الشّمولي. 
يمكن أن نستحضر من هذا الطّور الثاّني أمثلة عديدة من شتّى البلدان العربيّة كمقولات «مصطفى حجازي» في«التّخلّف الاجتماعي ونفسيّة الإنسان المقهور». كان يعلن دون تردد أنّه لا بدّ من العمل «على إزالة التّراث [الديني] لأنّه السّبيل الوحيد لتحرير الجماهير ذاتها». من ثمّ أصبح هذا المثقّف ينظّر للعنف، إذ يرى فيه شرعيّة اجتماعيّة ومعنى تاريخيّا جديدا يسمح باستعماله ضدّ الجماهير ذاتها، إذ من « الممكن أن يكون أصحاب المصلحة في التّغيير أكبر عائق أمامه».
«يس الحافظ»، مثقّف عربي حداثي آخر، يقرّ في كتابه «الهزيمة والإيديولوجيّة المهزومة» بأنّ ثقافته التّقدميّة قدّمت له «مشروعا ثوريّا شموليّا ينقض بلا هوادة البنيان المخرَّب المفوّت للمجتمع العربي ويعوّضه بمجتمع حديث وعادل وعقلاني».
مثال ثالث من قطر عربي آخر لكاتب ومثقف كان أنموذجا فريدا في نوعه. هو عبد اللّه القصيمي  مؤلّف كتاب  «هذه هي الأغلال» الصّادر سنة 1946 والذي ثابر بعده على نشر سلسلة من الكتب كـ« العالَم ليس عقلا» و«العرب ظاهرة صوتيّة» على رفع لواء انتصار الحديث على القديم والتّنظير لموت الثّقافة الكلاسيكيّة وضرورة القضاء على البنى التّقليديّة في المجتمع العربي. فعل ذلك بعد أن ظلّ لسنوات كاتبا منافحا عن السّلفيّة، متصديّا لخصومها من فقهاء التّقليد وشيوخ الأزهر وهو ما دفع بالمناوئين له إلى التّشهير به وتكفيره.
في المغرب العربي انطلقت هذه الـ «ثورة» مبكّرة منذ أواخر القرن التّاسع عشر مقتصرة في مرحلة أولى على مقاومة التّقاليد الفاسدة والاعتقادات الضّالة، وكان من أشهر من برز فيها الكاتب والسّياسي التّونسي النّشأة والجزائري الأصل«عبد العزيز الثّعالبي» صاحب كتاب «الرّوح الحرّة للقرآن». تطوّر طرح المثقّفين المغاربة بعد ذلك مع الزّمن متحاشيا في الغالب الأعمّ إدانة التّراث الدّيني جملة واحدة كما كان الشّأن في بلاد المشرق. لقد ظلّ خطاب التّماهي الكامل مع الآخر لدى المثقّفين المغاربة مسألة غير محسومة خشيةَ استلابٍ ثقافي يعوق نضالهم السّياسي في مواجهة استعمار أروبي يستهدف الوطن والهويّة معا.    
مع ذلك ورغم هذا التّمايز النّسبي بين موقف المثقّف العربي في المشرق ونظيره في المغرب، فإنّ علاقة الجميع بالإسلام (اعتقادا وسلوكا أو ثقافة، تراثا أو قيما خلقيّة) ظلّت في حالة مشوبة بالالتباس والحذر الشديدين في الغالب.   
لمحاولة إضاءة هذه الظّاهرة التي طبعت حياتنا الفكرية والاجتماعيّة وتساهم في دفع حياتنا السّياسيّة نحو طائفيّة مؤكّدة وحروب أهليّة مكتومة أو معلنة لا بدّ من طرح أسئلة عن المثقّف العربي وتاريخه وأنساقه الفكريّة. في مستوى ثان سنضيء أنموذجا محدّدا من بلاد المغرب ( الأنموذج التّونسي) نبحث من خلاله واقع هذه الظّاهرة ودلالاتها ومستقبلها.   
في البداية نسأل : من هو المثقّف ؟ 
للإجابة لا بدّ من التّأكيد أوّلا أنّه لا أثر في الأدبيّات العربيّة القديمة لعبارة مُثقّف، رغم توفّر الثّلاثي «ثَقِف» في اللّغة بمعنى حَذِق وأتقن. يقول ابن منظور «ثَقِف الشّيء ثُقفا وثقافة وثُقوفة: حذقه. ورجل ثَقِفٌ، حاذق فَهِمٌ». 
«المثقّف»، إذن، كلمة مولَّدة للتّعبير عن احتياج اجتماعي فكري حديث لم يقع تداوله بصورة واضحة إلاّ في فترة معاصرة أي في حدود نصف قرن من الآن. 
أمّا التعريف الذي يبدو لنا أكثر دقّة وموضوعيّة فهو الذي يعتبر المثقّف: الشّخص الذي يُكسبه التميّزُ المشهود له به في مجال معرفي أو إبداعي محدّد شرعيةَ إعلان مواقف سياسيّة أو اجتماعيّة أو أخلاقيّة تهمّ الشّأن العام.   
من هنا ندرك أنّه روعي في اشتقاق الكلمة المولّدة الإبقاء على دلالتي الحذق والمهارة القائمتين في النّسيج اللّغوي القديم. إلى جانب ذلك وخلافا للنّظير الأوربي الفرنسي وهو الـ : «Intellectuel» والمشتقّ من كلمة «Intellect» بمعنى العقل أو الفكر، فإنّ المثقّف في السّياق العربي استمد مكانته من الدور الذي يقوم به بالأساس في المجتمع. هو دون شك يحمل فكرا خاصّا لكنّه يتميّز بما يقوم به في المجتمع بصفته صاحب قضيّة وحاملا لمشروع. 
على ذلك فالمثقّف هو صاحب تمكّن معرفي أو إبداعي يسمح له بالاعتراض وإثارة   القضايا التي تقطع مع الاتباعيّة الاجتماعيّة والتعسّف السّياسي.
لذلك فالذي لا ينبغي أن نذهل عنه هو أنّ المثقّف انبثق من رحم تحديث المجتمعات العربيّة معبّرا عن مفهوم المواطنة التي تستدعي ضرورةً صفتي الاعتراض والتّشريع.
بذلك جاءت ولادة المثقّف العربي انطلاقا لمواجهة ضروريّة مع الفقيه لكنّها تحوّلت تدريجيّا إلى صدام ضارٍ باعتبار الفقيه هو القائم في البناء العربي الإسلامي القديم والوسيط على النّظام الاجتماعي والقيمي حمايةً وتركيزا. 
هكذا ظهر المثقف عندنا، صاحب معارف مكتسبة تُمكِّن من تنمية ملكة النّقد والذّوق والحكم، وقد استدعى بروزه سياقُ تخلّف حضاري للمسلمين لم يبق أي وجه لإنكاره. لكنّ الذي حوّل المنافسة بين المثقّف التّحديثي والفقيه المحافظ إلى علاقة تدابر هو إضافة إلى الاختلاف في المرجعيّة الفكريّة تناقضٌ في تشخيص أهمّ عوامل ضعف العرب والمسلمين في العصر الحديث. كان الفقيه يرى أنّ مأتى التّخلّف الحضاري هو الواقع المباين لما يقتضيه الشّرع بينما كان المثقّف يرجع ذلك التّخلّف إلى الأفكار والرّؤى المستمدّة من التّراث والتي لم تعد لها أيّة راهنيّة أو قدرة على تقديم الإجابات المطلوبة.
يضيف «يس الحافظ»، أحد أبرز المثقّفين العرب المعاصرين جانبا هامّا يفسّر به الانتقال من سياق منافسة بين المثقّف والفقيه كان يمكن أن تكون مبدعة إلى تنافٍ يحول دون تطوّر الوعي بالنّقد الذّاتي. يقول:«في مناخ شرقي يفتقر إلى التّقليد العقلاني يصعب أن يتخلّص المرء دفعة واحدة من المعتقد الإيماني [الوثوقي]. ذلك أنّ التّاريخ والمجتمع يعملان على تعويض المعتقد الإيماني الدّيني بمعتقد إيماني آخر». لقد عبّر التّدابر عن صدام وثوقيتين تكتسي الأولى لبوسا دينيا، أمّا الأخرى فهي رغم نزعتها التّجديديّة فقد ظلّت وثوقيّة إيمانيّة مقلوبة.