نقاط على الحروف

بقلم
حسن الطرابلسي
في التأسيس للديمقراطية: يورغن هابرماس ونظريات الفعل التواصلي
 ولد «هابرماس» سنة 1929 بمدينة دسلدوف. وقد ولد بإعاقة في فكّه الأعلى ممّا جعله لا يقدر على الكلام بطلاقة ووضوح. وقد انتمى في طفولته، عندما كان عمره 15 سنة (أي من 1943 حتى 1945) إلى الشّبية الهتلريّة. دَرَس الفلسفة والتّاريخ وعلم النّفس وتتلمذ على أساتذة مشهورين وتحصّل على درجة الدّكتوراه عن شلينج(1)  F. W. J. Schelling  سنة 1954 في جامعة بون. وهناك التقى سنة 1950 بكارل أوتو آبل، الذي كان يكبره بسبع سنوات، وكان في تلك الفترة أستاذا مساعدا في جامعة بون.
في سنة 1956 تحصّل على شغل كأستاذ مساعد في جامعة فرانكفورت، المقرّ المركزي للمدرسة النّقديّة، التي يمثّلها في تلك الفترة «أدورنو» و«هوركايمر». وبقدر ما كان لديه علاقة جيدة مع «أدرنو» إلا أن علاقته مع «هوركايمر» لم تكن على ما يرام. فهوركايمر لم يجد عنده الإلتزام الكلّي بتعاليم المدرسة الماركسيّة النّقديّة إضافة إلى أنّ «هابرماس» لم يكن مقتنعا بالفكرة الرّافضة للحداثة التي يمثلها «هوركايمر» و«أدرنو» لأنّه كان يعتبر أنّ الحداثة مشروع لم يكتمل. وهكذا رأى «هابرماس» أنّه لا مستقبل علميّا له في فرانكوفرت فتحوّل إلى جامعة ماربورغ حيث تحصّل هناك على درجة التّأهيل للأستاذيّة(2) Habilitation، وهي أعلى درجة علميّة يمكنه أن يحصل عليها، تحت إشراف الفيلسوف فولفجانج آبندروث Wolfgang Abendroth. 
عاد بعدها إلى فرانكفورت سنة 1964 وأصبح هناك أستاذا وساند في البداية الثّورة الطّلابية ودعمها ولكنّه أخذ منها مسافة عندما اتخذت توجّها عنيفا. 
من سنة 1971 إلى سنة 1983 أصبح مساعد مدير لمعهد ماكس بلاك Max-Planck-Instituts zur Erforschung der Lebensbedingungen der wissenschaftlich-technischen Welt ببلدة شتارنبرغ القريبة من ميونيخ في جنوب ألمانيا والتي لا يزال يقيم بها الآن وقد بلغ عمره 92 عاما. وفي سنة 1981 نشر كتابه المركزي «نظريّة الفعل التّواصلي» Theorie des kommunikativen Handelns. وفي سنة 1983 عاد مجدّدا إلى جامعة فرانكفوت وبقي هناك حتى تقاعده سنة 1994.
وكانت له مناظرة مشهورة مع البابا بندكتوس السّادس عشر سنة 2004، وقد تحّصل في سنة 2006 على جائزة مقاطعة شمال الرّاين ـ فستفاليا Nordrhein-Westfalen. وقد رفض سنة 2021 قبول جائزة الشّيخ زايد للكتاب، وقدرها 225 ألف يورو بسبب واقع الإمارات القمعي وغير الدّيمقراطي.
ويتمثّل جهده الأساسي في تطويره، بالإشتراك مع آبل، لمفهوم البعد التّواصلي للعقل، بإبراز قدرة العقل على ربط هذا المفهوم بالإرث الفلسفي والإجتماعي كما بيّنه ماكس فيبرMax Weberا(1864-1920) وبارسونز Parsonsا(1902ـ1979) عند بحثهما عن علاقة العقل وعقلنة الفعل الإجتماعي. 
وبناء على ذلك بدأ «هابرماس» في تأسيس نظريّة نقديّة للعقل وعمل في نفس الوقت على ربطها بنظريّته في الدّيمقراطيّة. واستطاع بهذا الجهد أن يخرج نفسه -ومن خلاله أيضا مدرسة فرانكفورت- من الأحكام والتّقييمات السّلبيّة لهما معا والتي سادت خلال عشريّة السّتينات على الأخصّ. فلقد قام المحافظون بإشاعة تقييمات سلبيّة عن «هابرماس» تتّهمه بجموده وتعصبه للفكر الماركسي ومساندته لثورات الشّباب المتهوّرة (3) وأتّهم بذلك بالتّحريض على الدّولة والعمل على تخريب مؤسّساتها. غير أنّ حياته وفكره والموقف منه تطوّر بشكل كبير منذ أواسط ثمانينات القرن الماضي، ويلخّص «يوشكا فيشر»، تلميذه ووزير خارجيّة ألمانيا في الفترة من 1998 إلى 2005 بشكل دقيق هذا التّطوّر عندما قال سنة 2006 بأنّ «هابرماس» هو «فيلسوف الجمهوريّة الألمانيّة الجديدة» وشبّهه بهيجل الذي كان في شبابه معارضا للدّولة البروسيّة ولكنّه اختتم حياته كفيلسوفها الأساسي. 
وقد التقط هابرماس المفاهيم السّائدة في عصره من مثل: التّحرّرEmanzipation، الفضاء العام Öffentlichkeit، التّواصل Kommunikation والحوار أو الخطاب Diskurs ودرسها بشكل نقدي وربطها بالدّيمقراطيّة وبوّأها مكانا مركزيّا جعلها تتجاوز مستواها الإجتماعي والفلسفي الأكاديمي لتصبح محورا للجدل السّياسي والمدني المعيش. 
وقد عرض نتائج بحوثه في عدد من الكتب من أبرزها كتاب «نظريّة الفعل التّواصلي» الذي يعتبر أهمّ مؤلفاته وقد دعّم نظريّاته بمؤلّفات أخرى متعدّدة ويمكن إعتبار كتاب «بين الحقائق والمعايير: مساهمات لنظريّة جدل القانون والديمقراطيّة» Faktizität und Geltung. Beiträge zur Diskurstheorie des Rechts und des demokratischen Rechtsstaats, EA, Frankfurt am Main 1992   الذي نشره سنة 1992 واحدا من هذه الكتب الذي عمّق فيه نظريّته وحاول فيه تقديم تصوّر للديمقراطيّة والدّولة.
وقد عمل «هابرماس» على تأسيس عقل تواصلي جعله بديلا للعقل الأداتي الذي أثبت قصوره ومحدوديته. فهو ينتقد بشكل قطعي الفصل بين القانون والدّيمقراطية لأنّهما يتضمّنان المبادئ والأسس الجوهريّة لكلّ حوار عميق في المستوى القانوني التّخصّصي، وكذلك فإنّ هذا الفصل يعارض سلطة البرلمانات باعتبارها الضّامن لحماية الدّستور والقوانين.
ففي كتابه المركزي «نظريّة الفعل التّواصلي» يشرح «هابرماس» الإشكاليّة الأساسيّة للعقل التي يرى أنّها لا بدّ أن تعرض من خلال تفسيرها ضمن منهجيّة النّظريّات الإجتماعيّة وتنزيلها بعد ذلك ضمن الواقع المعيش. (ص609)
ويعتبر «هابرماس» من وجهة نظر فلسفيّة أنّ أفضل تحديد للعقل يكون من خلال اعتماد النّظريّة الإجتماعيّة التي أدّت إلى وقوعه وسمحت بوجوده، ولكن من وجهة نظر إجتماعيّة فإنّ العقل يمثّل عنده الأداة النّظريّة التّاريخيّة لأمكانيّة الفعل اليومي. 
وينقسم الكتاب إلى جزأين تناول فيهما «هابرماس» عمليّات التّحوّل في مفهوم العقل، فبيّن في الجزء الأول المعنون بـ «عقلانيّة الفعل وعقلانيّة المجتمع» Handlungsrationalität und gesellschaftlische Rationalisierung أنّ التّحوّل في تحديد مفهوم العقل لا ينشأ بشكل عشوائي ضمن إشكاليّة الفعل العقلاني والعقلنة الإجتماعيّة والتّمايز الوظيفي الدّقيق وإنّما في طبيعة الموضوع ذاته الذي تحدث فيه عمليّة التّحول وهي المجتمع المعاصر.
في الجزء الثاني المعنون «نقد العقل الأداتي» Zur Kritik der funktionalistischen Vernunft، يبيّن «هابرماس» وضمن تأطير فلسفي لمفهوم العقلانيّة يخلص من خلاله إلى أنّ التّطوّر والتّمايز في مفهوم العقل شرط تأسيسي للحداثة. ففي إطار نقده لماكس فيبر يبرز «هابرماس» بوضوح أنّ التّطوّر الهام الذي حصل، والذي يستحقّ التّنويه، في المجال الإقتصادي والعلمي والصّناعي والقانوني والأخلاقي والجنسي، والفنّي هو الذي أدّى بشكل أساسي إلى تحريرالعقل وجعله عقلا تواصليّا.
ويعتبر «هابرماس» أنّ التّشخيص الذي قام به كلّ من ماكس فيبر مرورا بلوكاكش وصولا إلى أدرنو حول فقدان المعنى والقدرة الإدراكيّة والحرّية يعود إلى الإلزام والهيمنة الإقتصاديّة والبيرقراطيّة Ökonomische Verwertungsimperativ اللذين يقودان إلى الأحادّية ويوظّفان العقلانيّة أداتيّا.
إنّ الأحاديّة كما تصوّرها الكتّاب المذكورين أدّت إلى مأسسة للحداثة وعقلنتها، وبالتّالي فإنّه يجب تجاوز هذه الأطر لفهم علاقات الحداثة. وهذا الفهم يتضمّن، عند «هابرماس»، التقاط مجموعة هذه البدائل وإخضاعها للتّجربة ومن ثمّة تنزيلها للحوار في خضم الصّراع الإجتماعي.
وفي الجزء الثاني من الكتاب يقوم هابرماس بتشخيص الزّمن الرّاهن أو الواقع المعاصر، فيبرز عمق الهيمنة المسلّطة على حياتنا ومصائرنا، ولذلك يطوّر في هذا الجزء بشكل قاطع أطر مجتمع نقدي ويعتمد في ذلك على نتائج بحوث «جورش هربرت ميد»، ودوركهايم والفينومينولوجيا الإجتماعيّة وكارل ماركس وكذلك من خلال جهد نقدي لبارسنز Parsons.
فإلى جانب البعد الوظيفي للخطوط العريضة للفضاء العام والمحيط البيئي، تدخل عند «هابرماس» العناصر الأساسيّة كما حدّدها علم الإجتماعي التّقليدي (الإنسان، المجتمع، الثّقافة) والتي يربطها «هابرماس» بشكل قاطع مع العناصر النّوعيّة العقلانيّة والقيميّة. وفي هذا المستوى لا تتأسّس عمليّة النّقد بالإعتماد على عوامل خارجيّة مثل اللّه، الطّبيعة والذات، وإنما، وكما أثبت ماركس أو لوهمان (Niklas Luhmann)‏ فقط عبر الإشكاليّة التي يفرضها أو يولّدها التّطوّر الإجتماعي نفسه. فكلّ المفاهيم العامّة، أيضا تلك التي تختص بفهم المعاملات Verständigungsorientierten Handeln والعقل التّواصلي يخضعون عند «هابرماس» لتطوّرات عبر مسلّمات كلّية وحصولهم على قيمة معياريّة يعود الفضل فيها إلى طبيعتهم التّجريديّة، التي يمكن أن تساهم في حلّ إشكاليّات عدّة وفي الوصول إلى طرق تعليميّة متعدّدة كما أنّها يمكن أن تعيق وتعطّل كلّ ذلك.
ولقد كان للكتاب تأثيره السّياسي الهامّ، فلقد كان مفهوم «السّيطرة على الحياة المعيشة أو الحياة المعيوشة» Kolonialisierung der Lebenswelt والدّعوة إلى ضرورة التّحرّر من هذه السّيطرة، وعلى الأخصّ سلطة السّياسة وسلطة المال، تأثير هام أعاد الحوار النّقدي للرّأسماليّة في إطار العولمة معاصرا وحيويّا. ولبناء الحياة المعيشة، المتحرّرة من أيّة سلطة، نحتاج، حسب «هابرماس»، إلى حوار صادق يقود إلى توافق. ويعتبر أنّ هناك نوعين من أنواع الحوار التّفاعلي:
- الحوار الإستراتيجي وهو حوار تحقيق وله هدف واضح ودقيق ويعتمد لتحقيق ذلك وسيلتي التّهديد والإغراء.
- النوع الثّاني للحوار هو الحوار التّفاعلي الذي يكون عبر تسويات وتفاهمات من خلال عمليّات تنسيق تصل إلى توافقات ليست مفروضة وتكون لها صلاحيّة التّنزيل والتّطبيق. 
وفي هذا المستوى يرتكز «هابرماس» على الدّراسات اللّغويّة ليستمد منها الكثير من المفاهيم ويهضمها ضمن نظريته في الحوار التّفاعلي.
ومن المعلوم أنّ الدّراسات اللّغويّة في عصره تجاوزت نتائج الدّراسات اللّغويّة التي عرفت في القرن التّاسع عشر، والتي ركّزت في بحوثها أساسا على البعد اللّغوي النّحوي وعلى البعد الدّلالي الذي نستقيه من هذا البناء النّحوي نفسه. غير أنّ هذه البحوث اللّغويّة تطوّرت بعد الحرب العالميّة الثّانية وخاصّة مع أوستن  Austin, John Langshaw في أوكسفورد وبوهلر  Karl Bühler في ألمانيا وأصبحت لا تركّزعلى البناء الدّاخلي للّغة وإنّما على اللّغة بوصفها فعل أو عمل اجتماعي براغماتي transzendentalpragmatisch أي في جانبها التّداولي. وعرف هذا التّحوّل بحركة فكريّة سمّيت بالإنعطاف اللّغوي Linguistic turn  وتمّت ترجمة هذا المصطلح الإنجليزي إلى اللّغة الألمانيّة كالتالي linguistische Wende auch sprachkritische Wende.
وقد حدّد فقهاء اللّغة الجدد وخاصّة «بوهلر» وظائف ثلاث للّغة وهي:
الوظيفة التّعبيريّة الإنفعاليّة المرتبطة بالمرسل 
الوظيفة التّأثيريّة الإنتباهيّة المرتبطة بالمخاطَب
الوظيفة التّمثيليّة المرتبطة بالمرجع
وقد اعتمد «هابرماس» على نتائجهما وخاصّة على «بوهلر» واستعمل اللّغة باعتبارها فعلا اجتماعيّا. ورأى أنّ الحوار لينجح ويثمر يحتاج إلى اللّغة. ومن ثمّة لم يتّخذ «هابرماس» مسارا لغويّا بحتا وإنّما ركّز على وظائف اللّغة، فطوّر الوظائف الثّلاث للّغة واعتبرها وظائف تداوليّة للّغة وأجملها في الوظيفة المعرفيّة والوظيفة التّفاعليّة أو وظيفة الإلتماس والوظيفة التّعبيريّة. واعتمد على هذه الوظائف الثلاث لتشييد نظريّة في السّياسة ثبّت أصولها بالعودة إلى «هيجل» واستعار منه مفهوم Sittligkeit أي الأخلاقيّة، وهو مفهوم يصعب ترجمته إلى اللّغة العربيّة ولكن يمكن أن نسمّيه «التّقاليد» أو «الأخلاقيّة». فالوظيفة التّأثيريّة أو وظيفة الإلتماس التي تكتسبها اللّغة والتي تحدث في الحياة الإجتماعيّة soziale Welt تقوم على خطاب عملي أساسه المصداقيّة أو الصّدقيّة Richtigkeitsanspruch وليتحلّى الخطاب بهذه الصّدقيّة يجب أن تتوفّر فيه قيم أخلاقيّة. وهذه القيم ميّز فيها «هابرماس» بين مبدأين: الخطاب الخلقي der ethische Diskurs  والخطاب الأخلاقي der moralische Diskurs. فالخطاب الخلقي هو كلّ ما يبحث عما هو خير وجميل ويشمل مجال الحياة الخاصّة، وأمّا الخطاب الأخلاقي فمجاله الفضاء العام ومجال الحياة المعاشة ويبحث عن الحقّ وسيادة القانون؛ وضمن هذا المجال يجب أن تتوفّر معايير منصفة يجب الإحتكام إليها للوصول إلى توافقات.
وهنا نرى تجديد «هابرماس» في المسألة الأخلاقيّة، فهو لم يعتمد التّصنيف التّقليدي للأخلاق الذي يميّز بين الأخلاق بما هي ضوابط وممنوعات وتقاليد من مثل لا تقتل، لا تسرق، لا تزن، ... ويقابلها في الألمانيّة مفردة«Moral» المشتقّة من المفردة اللاّتينية «Mos» والأخلاقي بما هو البحث النّظري الفلسفي أو الدّيني في الأخلاق وذلك بتحليل ظواهر متعدّدة للسّلوكيّات الأخلاقيّة فيه بهذا المعنى علم مجرد وتقابلها مفردة «Ethik» في اللّغة الألمانيّة الذي بدوره يعود إلى الإشتقاق اللّغوي من مفردة «έthos» اليونانيّة.
وبذلك يكون «هابرماس» أحد كبار المفكّرين الذين استطاعوا إدماج اللّغة في فهم الحوار التّفاعلي، لأنّ الخطاب عنده هو نوع من الكلام الذي يدور بين النّاس، ويهدف للوصول إلى توافق عقلاني، وهنا يختلف عن غيره من الفلاسفة اللّبراليّين الذين يتحدّثون عن اليد العمياء، التي تتحكّم في كلّ شيء وأنّ السّباق المادّي والعمل يحدث التّطور. كما اختلف مع فلاسفة مدرسة فرانكفورت النّقديّة الذين قاموا برفض كلّي للحداثة واعتبروا أنّها مشروع فشل.
وأمّا الخطاب عند «هابرماس» فهو ليس عشوائيّا وإنّما له شروط وضوابط خمسة هي كالتالي:
• أولا: كلّ شخص له الحقّ في المشاركة في هذا الحوار 
• ثانيا: يسمح لأيّ شخص بالتّشكيك في أيّ توكيد
• ثالثا: يسمح لأيّ شخص بطرح أيّ توكيد وبالتّعبير عن آرائه ورغباته واحتياجاته
• رابعا: إذا وجدت فكرتان متعارضتان فإنّه يتمّ قبول الفكرة التي لها قدرة أكثر على تبرير وتوضيح مقصدها والإقناع بجدواها.
• خامسا: لا يجوز منع أي شخص عن ممارسة حقوقه المذكورة آنفا، أي في المبادئ من 1 إلى 4.
وهنا تكمن عند «هابرماس» أهمّية اللّغة كأداة وواسطة يتمّ بها حسم الخلاف للوصول إلى توافقات لأنّ هذه المبادئ موجودة عنده في اللّغة نفسها. ولكن متى يجب التّركيز عليها؟
عند وجود الإختلاف نعود إليها ونعتمدها ونستطيع بذلك التّصدي للسّيطرة التي يعمل النّظام System المتمثّل في سلطة المال والحكم على فرضها علينا.
وفي كتاب «بين الحقائق والمعايير» الذي يمكن تلخيص فكرته الأساسية في الجملة التّالية بأنّه لا وجود للدّيمقراطيّة بدون وجود دولة القانون، ولكن أيضا لا يمكن وجود دولة القانون بدون ديمقراطية Kein  Demokratie ohne Rechtsstaat, aber auch kein Rechtsstaat ohne Demokratie يرى «هابرماس» أنّه لا بدّ من توفير شرط أساسي لتحقيق كلّ ذلك، فالدّيمقراطيّة المعاصرة لا تعدو أن تكون شيئا آخر غير تأثير المجتمع على نفسه تحت سيادة القانون.
وبهذه الطّريقة يجدّد «هابرماس» النّظرية السّياسيّة المعاصرة التي تؤكّد على أهمّية سلطة الشّعب Volkssouveränität من خلال نظريّة الحوار التّفاعلي Diskurstheorie والتي طوّرها بالإشتراك مع آبل K.O. Apel. 
إنّ القانون يوفّر عنده حقائق ومعايير. ويهتّم علم الإجتماع الوظيفي بالحقائق في حين تكون المعايير من مشمولات نظريّات الحوارDiskurstheorien . 
إنّ القانون لا يحتاج، حسب «هابرماس»، في ذاته إلى تبرير وتأسيس فلسفي، باعتباره حقيقة مغايرة إيجابيّة ومنفصلة عن الأخلاق. وأنّ عمليّة تأسيس وإستصدار القوانين هي فقط نتاج ثمرة حوار جاد وحقيقي، وبما أنّ الموضوع هنا يختصّ بالقانون فقط وليس بالأخلاق، فإنّ الحوار كما يحتاج إلى تحقيق نتائج تؤدّي إلى قرارات ملزمة فإنّه يحتاج أيضا إلى معايير ثابتة ودقيقة يهرع إليها الفرقاء أو المتحاورون عند الحاجة.
وحقوق الإنسان وحقوق المواطنة، التي يقرّ بها الأعضاء القانونيّون Rechtsgenossen بشكل متبادل تمكّن الجميع وتوصّلهم إلى بناء وتأسيس مسار منصف ein faires Procedure لإصدار القوانين والقبول بها كتشريعات في الحياة اليوميّة، وبذلك تتحقّق سيادة الشّعب. ولكن يجب فهم تحديد «هابرماس» لسيادة الشّعب باعتبارها مسارا إجرائيّا متحرّرا من الإعتبارات الإثنيّة والأخلاقيّة والدّينيّة. فمثلا عندما تعرض لنا حالة طارئة أو وضعيّة مستحدثة يتدخّل المجتمع المدني لإبداء رأيه في المسار وتحديده. ويكون هذا المسار، وكما بينه «هابرماس» في كتب أخرى، مسارا دائريّا،ومرتبطا بهذا الحادث الطارئ نفسه. وتكتسب الدّيمقراطية شرعيّتها من خلال الإجراءات القانونيّة المتّبعة.
خلاصات واستنتاجات نقدية
إنّ «هابرماس» يستعمل اللّغة والخطاب ليطوّر تداوليّة يصل من خلالها إلى بناء نظريّة سياسيّة قائمة على خطاب مضبوط بمجموعة من القوانين والمعايير الأخلاقيّة التي تحدّد واجبات يلتزم بها المتحاورون أو المختلفون ليصلوا إلى توافقات تحدّ من سيطرة النّظام في شكليه سلطة المال وسلطة السّياسة.  وجوهر النّظريّة السّياسيّة لهابرماس ليس مبنيّا على أساس الفرد، كما نجده عند اللّبراليين ولا هي مبنيّة على أسس ترانسنداتاليّة، كما عرضها الفلاسفة المثاليّون، كما أنّها ليست مرتبطة بطبقة كما فعل الماركسيّون، وإنّما نجدها في الخطاب اليومي وفي الفعل التّواصلي اليومي مع المعيش، أي في التّفاعل بين الأفراد كأعضاء في المجتمع باعتماد اللّغة
الهوامش
(1) عنوان أطروحته هو: Das Absolute in der Geschichte. Eine Untersuchung zu Schellings Weltalterphilosophie
(2) عنوان أطروحته هو: Strukturwandel der Öffentlichkeit. Untersuchungen zu einer Kategorie der bürgerlichen Gesellschaft
(3) صحيح أن هابرماس ساند ثورات الشباب في الستينات ولكنه نأى عنها عندما رأى فيها انحرافا.