القرآن والعلم

بقلم
نبيل غربال
كيف نُصِبَت الجبال؟ الجزء الأول
 نتدبّر في هذا المقال الآية 19 من سورة الغاشية ﴿ وَإِلَىٰ ٱلْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ﴾ وهي تنتمي الى مجموعة كبيرة من الآيات التي وردت في القرآن الكريم تدعو للنّظر سواء في الظّواهر الطّبيعيّة أو في الأحداث التّاريخيّة أو في النّفس البشريّة أوفي الآفاق(1). جاءت هذه الدّعوة في سياق استفهام يحتمل التَّعَجُّب وَالتَّوْبِيخ وَالْإِنْكَار لعدم النّظر في الكيفيّة التي نصبت بها الجبال وكيفيّات أخرى تتعلّق برفع السّماء وخلق الإبل وتسطيح الأرض(2) . وهي بصيغتها تلك تخبر في الآن نفسه وبوضوح بأنّ الجبال نُصِبَتْ ولم تكن موجودة وبكيفيّة يمكن التّعرّف عليها. فما هو هذا النّظر القادر على كشف الطّريقة التي نُصِبَتْ بها الجبال؟ وهل نُصِبَتْ الجبال فعلا؟ وبأيّ كيفيّة؟ هذا ما سنتناوله بالبحث على ضوء ما تسمح به اللّغة وما توصّل اليه العلم الحديث لنرى هل كان للاستفهام معنى وهي التي صيغت قبل أكثر من 1300 سنة من نشأة العلم الحديث وتطوّره. 
النّظر لغة:  
الكلمة: نَظَرَ يَنْظُرُ. الجذر: نظر. الوزن: فَعَلَ/يَفْعُلُ. (ش ع) (3) 
ينقل الأزهري عن اللّيث قوله: «فلان نظيرُك أي مِثْلُك لأنّه إذا نَظَرَ إليهما النّاظرُ رآهما سواءً». يتضمّن النّظر بناء عليه المعاينة والتأمّل كما جاء في مقاييس اللّغة(4) لأنّ الحكم على شيئين بأنّهما سواء يتطلّب رؤيتهما بالعين باعتبار أنّ «(عَايَنَ) الشَّيْءَ (عِيَانًا) رَآهُ بِعَيْنِهِ»(5)وكذلك «التَّفْكِيرِ العَمِيقِ فِي حَقَائِقِهما»(6) . 
وفي الفروق اللّغوية للعسكري(7) عن عَليّ بن عِيسَى أنّه قال: «النّظر طلب ظُهُور الشَّيْء... وَيكون النَّاظر الطَّالِب لظُهُور الشَّيْء بإدراكه من جِهَة حاسة بصره أَو غَيرهَا من حواسه» وقال أيضا: «وَالنَّظَرُ أَيْضا هُوَ الْفِكرُ والتأمّلُ لأحوال الْأَشْيَاء... وَمَعْلُوم أَنّه لَا يصلح النّظر فِي الشَّيْء ليعلم إِلَّا وَهُوَ مَجْهُول». وفيه أيضا أنّ «حدّ النّظر طلب إِدْرَاك الشَّيْء من جِهَة الْبَصَر أَو الْفِكر وَيحْتَاج فِي إِدْرَاك الْمَعْنى إِلَى الْأَمريْنِ جَمِيعًا» وأنّ «أصل النّظر الْمُقَابلَة فالنّظر بالبصر الإقبال نَحْو وَالنَّظَر بالقلب الإقبال بالفكر نَحْو المفكّر فِيهِ».
ولمزيد التّدقيق في المعنى الذي يحيل اليه الجذر (نظر) نستعين بالتّفريق الذي ذكره العسكري في الفروق اللّغويّة بين النّظر والتّأمّل إذ قال: «الْفرق بَين النّظر والتأمّل أَنّ النّظر هُوَ مَا ذَكرْنَاهُ (طلب ظُهُور الشَّيْء) والتّأمّل هُوَ النّظر المؤمّل بِهِ معرفَة مَا يطْلب وَلَا يكون إِلَّا فِي طول مُدَّة، فَكلّ تَأمّل نظر وَلَيْسَ كلّ نظر تأمّلا». 
وفي التّوقيـف على مهمّـات التّعاريف(8) أنّ النّظر عند أهـل الأصـول هو «الفكـر المـؤدّي إلى علم أو ظـنّ وأكثر استعمال للخاصّة يكون بمعنى البصيرة أي قوّة الإدراك والعلم والخِبْرة والفطنة». 
أمّا في المعجم الاشتقاقي المؤصّل(9) فتوصّل الكاتب الى أنّ استعمالات التّركيب الواردة في القرآن الكريم دائرة بين أمور منها «التّأمّل العقلي الذي يؤخذ اشتقاقيًّا من المواجهة بالنّظر لالتقاط الشيء» مستشهدا بما جاء في بصائر ذوي التّمييز أنّ: «النّظر أيضًا تقليب البصيرة لإدراك الشّيء ورؤيته، وقد يراد به الأمل والفحص».
كَيْفَ لغة
الكلمة: كيف. الجذر: كيف. الوزن: فَعْل. (ش ع)
نجد في كتاب العين(10) في باب كيف أن:«كَيْفَ: حرف أداة، ونصبوا الفاء، فرارًا من الياء السّاكنة لئلاّ يلتقي ساكنان». بمعنى أنّه: «كان يجب أن تكون ساكنةً لأنّ فيها معنى الاستفهام فأشبهت الحروف، ولكنّها حركت لالتقاء السّاكنين واختير لها الفتح لخفّته». كما نقل الحميري عن البعض في شمس العلوم. وعن الاستفهام نقرأ في الصّحاح (11) أنّ « كيف: اسم مبهم غير متمكّن وهو للإستفهام عن الأحوال وقد يقع بمعنى التّعجب كقوله تعالى: «كيف تكفرون باللّه» وهو ما يورده ابن فارس في مقاييس اللّغة اذ يقول: «فَأَمَّا كَيْفَ فَكَلِمَةٌ مَوْضُوعَةٌ يُسْتَفْهَمُ بِهَا عَنْ حَالِ الْإِنْسَانِ فَيُقَالُ: كَيْفَ هُوَ؟ فَيُقَالُ: صَالِحٌ». ولا يقتصر الاستفهام عن الحال بل يتعدّاه الى الصّفة كما يقع بمعان أخرى غير التّعجب وهو ما كتبه الفيومي(12) أي أنّ: «كَيْفَ كَلِمَةٌ يُسْتَفْهَمُ بِهَا عَنْ حَالِ الشَّيْءِ وَصِفَتِهِ يُقَالُ كَيْفَ زَيْدٌ وَيُرَادُ السُّؤَالُ عَنْ صِحَّتِهِ وَسُقْمِهِ وَعُسْرهِ وَيُسْرهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَتَأْتِي لِلتَّعَجُّبِ وَالتَّوْبِيخِ وَالْإِنْكَارِ وَلِلْحَالِ لَيْسَ مَعَهُ سُؤَالٌ وَقَدْ تَتَضَمَّنُ مَعْنَى النَّفْيِ وَكَيْفِيَّةُ الشَّيْءِ حَالُهُ وَصِفَتُهُ». فالاستفهام يمكن أن يكون حقيقيّا أو غيره كما يشير الى ذلك الزّبيدي(13) بقوله: «والغالبُ فيه أَنْ يَكُونَ اسْتِفهامًا عن الأَحْوالِ إِمّا حَقِيقِيًّا، ككَيفَ زَيْدٌ؟ أَو غَيْرهُ مثل: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللّهِ فإِنَّهُ أُخْرِج مُخْرَجَ التَّعَجُّبِ والتّوْبِيخِ، وقالَ الزَّجَاجُ: كيفَ هُنا: اسْتِفْهامٌ في معنَى التَّعَجُّبِ». أمّا عن معاني (كيف) في القرآن في كلّ مواضعها فقد لخّص أمرها صاحب المعجم الاشتقاقي فيما يلي: أ -البيان لهيأةٍ / حالٍ / صور؛ سؤالًا أو بغير سؤال، ب -سؤال عن هيأةٍ / حالٍ / صورةٍ وفيه تعجب أو إنكار. وهو سائر ما في القرآن الكريم منها.»
فكيف كلمة (حرف أداة / اسم مبهم) مَوْضُوعَةٌ يُسْتَفْهَمُ بِهَا عَنْ حَالِ الشَّيْءِ وَصِفَتِهِ والغالبُ في الاستفهام أَنْ يَكُونَ عن الأَحْوالِ إِما حَقِيقِيًّا أَو غَيْرهُ كأن يخْرِج مُخْرَجَ التَّعَجُّبِ والتّوْبِيخِ والانكار. وبإيجاز نقول ما قيل في التّوقيف على مهمّات التّعاريف أن كيف هي «كلمة مدلولها استفهام عن عموم الأحوال التي من شأنها أن تدرك بالحواس».
نصب لغة
«الكلمة: نَصَبَ يَنْصِبُ. الجذر: نصب. الوزن: فَعَلَ/يَفْعِلُ.» (ش ع). ونَصَبَ هو «فعل: ثلاثي. لازم ومتعدٍّ. مزيد بحرف». 
«(نَصَبَ) الشَّيْءَ أَقَامَهُ وَبَابُهُ ضَرَبَ» (م ص). و«النَّصْبُ: مصدر نَصَبْتُ الشّيء، إذا أقمته» (م ص) و«رَفْعُك شيئًا تَنْصِبُه قائمًا مُنتَصِبًا» (ع). «وفي مقاييس اللّغة: «(نَصَبَ) النُّونُ وَالصَّادُ وَالْبَاءُ أَصْلٌ صَحِيحٌ يَدُلُّ عَلَى إِقَامَةِ شَيْءٍ وَإِهْدَافٍ فِي اسْتِوَاءٍ. يُقَالُ: نَصَبْتُ الرُّمْحَ وَغَيْرهُ أَنْصِبُهُ نَصْبًا. وَتَيْسٌ أَنْصَبُ، وَعَنْزٌ نَصْبَاءُ، إِذَا انْتَصَبَ قَرْنَاهَا وَنَاقَةٌ نَصْبَاءُ: مُرْتَفِعَةُ الصَّدْرِ.وَالنَّصْبُ: حَجَرٌ كَانَ يُنْصَبُ فَيُعْبَدُ». «ومن المجاز: غبار مُنْتَصِبٌ»(14) أي مُرْتَفِعٌ. «يُقال: نَصَبْتُ الشّىءَ؛ إذا رفعْتَه، فانتصَبَ»(15) لذلك فإنّ النّصب هو: « الشّيء النّاتئ، الظّاهر، القائم كالرّمح أو البناء»(16). وفي المعجم الاشتقاقي نجد أنّ المعنى المحوري يدلّ على: «إقامة الشّيء إلى أعلى قويًّا متماسكًا أو شديدًا على وضع مستقيم دائم» (م ا). 
نخلص من هذا أنّ مادة «نصب» فيها معاني الرّفع والإقامة لجسم شديد التّماسك وما يستتبع ذلك من نتوء وظهور وتطاول، وأنّ استعمال النّصب للجبال يعني أنّها كتل هائلة متماسكة أقيمت ورفعت للأعلى على وضع مستقيم دائم باعتبار أنّ «أَقَامَ الشَّيْءَ أَيْ أَدَامَهُ» (م ص). والدّوام نسبيّ وهو هنا يقاس بعمر الإنسانيّة إذ الإنسان هو الذي وضع لفظ الدوام ليعبر على بقاء الشيء زمنا طويلا.
استنتاج
وتأسيسا عليه يكون النّظر المطلوب في الآية 19 من الغاشية هو دعوة للإقبال نحو الجبال بالبصر والبصيرة والتّفكير العميق في الكيفيّة التي نُصِبَتْ بها طلبا لإدراك شيء من حقيقتها وذلك من خلال الاستفهام عن أحوالها وصفاتها المتعلّقة برفعها الى أعلى متماسكة على وضع دائم. وبما أنّ النّظر فِي الشَّيْء لا يصلح ليعلم إِلَّا وَهُوَ مَجْهُول كما يتطلّب اللّسان العربي، فدلّ ذلك على أنّ الكيفيّة التي نُصِبَتْ بها الجبال كانت مجهولة زمن الوحي وأنّ القرآن حثّ العقل على دراسة الظّاهرة والبحث فيها حتّى تظهر حقيقتها ويعلم ما كان مجهولا عنها. كما يدلّ طلب النّظر على أنّ الكيفيّة التي نُصِبَتْ بها الجبال قابلة للإدراك الحسّي حسب الآية القرآنيّة والّا لما كان لتلك الدّعوة معنى وأنّ الجبال لم تكن موجودة ووُجدت. وبما أنّ الحواس محدودة ولكن لها امتدادات تتمثّل في وسائل القيس وأدوات الحساب فقد لقي ذلك الحثّ على النّظر طريقه نحو الإنجاز وأدّى الى تجلية حقيقة ظاهرة انتصاب الجبال.
لقد بيّنت الأبحاث المتعلّقة بتاريخ علوم الأرض أنّ جهل الإنسان بطبيعة الجبال وبالكيفيّة التي رفعت وببنيتها ووظيفتها ظلّ يصاحبه الى أن تراكمت المعارف العلميّة وأتقنت وسائل القيس وتطوّرت أدوات المعالجة الحسابيّة للبيانات. وبدأ الاشتغال على الجبال منذ القرن الثّامن عشر بمنهجيّة علميّة مستجيبا بذلك، كرها، لما تحثّ عليه الآية. لقد أصبح العقل العلمي المبني على المشاهدات الدّقيقة ومراكمتها والتّجربة والمحاكات العدديّة بحواسيب جبّارة مسّلحا بنظريّة علميّة تسمى «تكتونية الصّفائح» وهي إطار علمي فعّال وجامع لعلوم الأرض ككوب ديناميكي متغيّر. وتعنى هذه
النّظريّة بوصف وتفسير التّحوّلات التي يخضع لها هذا الكوكب وخاصّة تحرّكات غلافه الصّخري الخارجي. فكيف نصبت الجبال حسب هذه النّظريّة؟. هذا ما سنتعرّض له في العدد القادم إن شاء اللّه
الهوامش
(1) راجع الآيات التي ورد فيها لفظ «نظر» ومشتقاته في القرآن الكريم.
(2) ﴿ أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20)﴾ –سورة الغاشية.
(3) (نَظَرَ يَنْظُرُ) شمس العلوم-نشوان بن سعيد الحميري-توفي: 573هـ/1177م (ش ع)
(4) مقاييس اللغة (نظر) مقاييس اللغة-أحمد بن فارس-توفي: 395هـ/1005م. (م ل)
(5) مختار الصحاح-محمد بن أبي بكر الرازي-توفي: 666هـ/1268م (م ص)
(6) الغني-عبد الغني أبو العزم-صدر: 1421هـ/2001م (غ)
(7) (الفرق بين النظر والرؤية) أبو هلال الحسن بن عبد الله بن سهل بن سعيد بن يحيى بن مهران العسكري-توفي: نحو: 395هـ/1005م (ف ل)
(8)(النظر عند أهل الأصول) التوقيف على مهمات التعاريف-زين الدين محمد المدعو بعبدالرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري-توفي: 1031هـ/1622م (ت م ت)
(9)(نظر) المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم-محمد حسن حسن جبل-صدر: 1432هـ/2010م (م ا م )
(10)(كيف) العين-الخليل بن أحمد الفراهيدي-توفي: 170هـ/940م (ع)
(11) (كيف) منتخب الصحاح-أبو نصر الجوهري-توفي: 393هـ/1003م (م ص)
(12)(كيف) المصباح المنير-أبو العباس الفيومي-توفي: 770هـ/1369م  (م م )
(13) تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م ( ت ع)
(14)  أساس البلاغة (نصب) أساس البلاغة-أبو القاسم الزمخشري-توفي: 538هـ/1143م (أ ب)
(15) المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث (نصب) محمد بن عمر بن أحمد بن عمر بن محمد الأصبهاني المديني، أبو موسى-توفي: 581هـ/1185م (م م غ ق ح)
(16) المعجم المفصّل في الإعراب (نصب) طاهر يوسف الخطيب-صدر: 1412هـ/1991م (م م ا)