في العمق

بقلم
نجم الدّين غربال
التّقنِيّات الرّقميّة بوّابة نفع النّاس في المجال الصّحّي
 على وقع التّحول الرّقمي الذي نحياه ومُواصلة لانشغالنا بما ينفع النّاس، وحملا لأمانة تعمير الأرض حفاظا على كرامة الإنسان. وبعد ما بيّنا كيفيّة توظيف ما أفرزته مُتغيّرات التّحول الرّقمي لفائدة فئات المجتمع المحرومة والمقصيّة، اقتصاديّا وماليّا وبالتّالي اجتماعيّا وسياسيّا، سواء من خلال تقنية البلوك تشاين (Blok chain) أو سلسلة الكتل، كضمانة للجودة وتفعيل للحوكمة(1) أو من خلال العقود الذّكيّة (Smart Contrat) وما تمنحه من إدارة كفؤة للأصول ومصداقيّة للمعاملات (2) 
 وبعد ما بحثنا عن الكيفيّة التي يتطوّر بها أداء مؤسّساتنا سواء الاقتصاديّة منها أو الاجتماعيّة بما يُضاعف إنتاجها للسّلع وإسدائها للخدمات ويُحسِّن من نوعيّتها، من خلال إدارة المعرفة والذّكاء الاصطناعي (Artificial Intelligence ) رفعا للتّحدّيات وحماية من المخاطر(3). نفتح في ما يلي بوّابة نفع النّاس في عصرنا الحالي، في المجال الصّحي تحديدا، مُجسّدة بالتّقنيّات الرّقميّة، مُعدِّدين بعضا منها وأثرها في دعم خدمات الرّعاية الصّحية، ثمّ مُثيرين بعض الاشكالات التي تحول دون انتفاع كلّ النّاس بها، في أفق إيجاد حلول لها وصولا الى انتفاعهم جميعا دون استثناء. 
I. التّقنيّات الرّقميّة دعما لخدمات الرّعاية الصّحّيّة
تعتبر التّقنيات الرّقميّة في المجال الصّحّي إفرازا لتكنولوجيا المعلومات الصّحّية«HIT» التي تُعنى بمعالجة المعلومات وهندسة نظمها وتشمل أجهزة الكمبيوتر والبرامج التي تتعامل مع معلومات الرّعاية الصّحيّة والبيانات الصّحيّة والمعارف للاتصال واتخاذ القرارات في مجالات الرّعاية الصّحيّة والتّعليم الصّحّي والبحوث الطّبيّة الحيويّة، تعاملا يشمل التّخزين والاسترجاع والمشاركة والاستخدام والتّبادل لتلك المعلومات والبيانات والمعارف، وبمساهمات كلّ من علوم الحاسب والرّياضيّات وعلم النّفس(4) .
ووفقا لتقرير صدر عام 2006 عن وكالة أبحاث الرّعاية الصّحيّة وجودتها(AHRK)ا(5)، فإنّ الاستخدام الواسع والمستمر للتقنيات الرّقميّة في المجال الصّحّي سيؤدّي الى منافع عديدة على مستوى الرّعاية الصّحيّة منها:
- تحسين الجودة وزيادة الكفاءة والدّقة الطّبيّة والإداريّة
- منع الأخطاء الطّبية وتقليل التّكاليف ووقت العمل غير المنتج أو الخمول
- توسيع الوصول الى الرّعاية الصّحيّة بأسعار معقولة
- تمديد الاتصالات في الوقت الحقيقي للمعلوماتيّة الصّحيّة بين المتخصّصين في الرّعاية الصّحيّة؛
كما تعمل التقنيات الرّقميّة في المجال الصّحّي على تحسين رعايـة المرضى بشكـل فردي بالإضافـة إلى  جلب فوائد صحيّة عامّة من بينها:
- الاكتشاف المبكر لتفشّي الأمراض المعدية في جميع أنحاء البلاد
- تحسين تتبّع إدارة الأمراض المزمنة
- تقييم الرّعاية الصّحيّة على أساس القيمة الممكّنة من خلال جمع معلومات محدّدة عن الأسعار والجودة التي يمكن مقارنتها.
وقد تعدّدت التّقنيات الرّقميّة في المجال الصّحّي وتنوّعت لتشمل آلات جديدة وتُمكّن من العلاج عن بعد باستعمال تطبيقات الهاتف الجوال والشّبكة الالكترونيّة الخاصّة بتحميل المعلومات مثل قراءة نسبة جلوكوز الدّم وإرسالها الى الطّبيب أو الأجهزة التي تجري قياس ونقل لاسلكي للمعلومات، مثل قيس ضغط الدّم أو السّكر في الدّمّ أو وظيفة الرّئة إضافة الى أجهزة المراقبة المنزليّة للأشخاص من كبار السّنّ أو المصابين بالخرف والتي تكشف التّغيرات في الأنشطة العادية مثل الوقوع.
ومن أكثر المجالات الطّبيّة استفادة من تطوّر التكنولوجيّة الرّقميّة، مجال التّصوير الطّبّي الذي أصبح بفضلها تصويرا عالي الجودة وبأبعاد ثلاثيّة أو رباعيّة، ويعطي نتائج غاية في الدّقة ويُمكّن الطّبيب من تجزئة الصّورة مثلا ووضعها بمفردها على الشّاشة والتّدقيق في تفاصيلها من خلال تكبيرها أو تصغيرها بالقدر الذي يريد، ممّا يجعله يدرك بدقّة العلّة أو الخلل ويمكنه من حسن وصف الدّواء أو اتخاذ قرار آخر مناسب للحالة.
كما تمكن التّقنيات الرّقمية من إجراء عمليّات معقّدة على الجنين داخل رحم الأم وكشف العديد من أنواع الأمراض الخبيثة لدى آخرين أو أمراض القلب واضطرابات الدّماغ وغيرها.
ومن الخدمات التي قدّمها التّطور الرّقمي السّجل الصّحّي الالكتروني الذي يمكن من الحصول على نتائج الفحوصات المخبريّة ونتائج التّصوير الشّعاعي في ثوان ليصبح للطّبيب المعلومات الكافية حول المريض لاتخاذ القرار المناسب في وقت قياسي.
ومن ايجابيّات السّجلات الصّحيّة الرّقميّة أنّها تقلّل الأخطاء التي طالما وقعت فيها السّجلات الورقيّة كما تسهل على الأطباء متابعة المرضى كلّ حسب اختصاصه وتساعدهم على التّواصل مع بعضهم البعض في الوقت المناسب لأخذ القرار الذي يخدم صحّة المريض (6) .
ويبقى تعميم الانتفاع بهذه التّقنِيّات لكلّ النّاس في المجال الصّحي هدفا، يدفعنا انتماؤنا الى العنصر البشري كما عقيدتنا التي تعتبر أنّ «أحبّ الناس الى اللّه أنفعهم للنّاس»(7) الى الاهتمام به، خاصّة وأنّ وعدا الاهيّا لا لبس فيه مفاده أنّ الزّبد يذهب جفاء وأمّا ما ينفع النّاس فيمكث في الأرض(8)، ولكن ليس كل ما يتمناه المرؤ يدركه، لذلك وجب عرض الاشكالات التي تحول دون ذلك والبحث عن حلول لها.
II. تعميم الانتفاع بالتّقنِيّات الرّقميّة:  اشكالات وحلول
أصبح شائعا اليوم أنّ الإنسان يمكن له مراقبة وضعه الصّحّي باستعمال تقنيّات رقميّة عديدة مثل استخدام لاصق مراقبة «الجلوكوز» لتتبّع مستويات السّكر لديه واستخدام ساعة «فيتبيت» لإدراك أنماط نومه، واستخدام ساعة «ذكيّة» لمُتابعة معدل نبضات قلبه، إلاّ أنّ تلك الإمكانيّة تبقى غير مُتاحة للجميع لنقص في الامكانيّات الماليّة، ممّا يجعل الاستفادة من تلك التّقنيات محدودة ومقتصرة على من يملك موارد الإنفاق عليها.
ويبقى الأهم من استخدام الأدوات الرّقمية التي تُلبّي احتياجات الإنسان الصّحية هو تمكّن أكثر عدد مُمكن من الانتفاع بها، في أفق انتفاع الجميع بها دون استثناء، ممّا يجعل عمليّات تمويل الخدمات الصّحيّة خاصّة الرّقميّة منها، عنصرا أساسيّا لتفعيل قدرة النّظم الصّحية على الحفاظ على رفاه الإنسان وتحسين شروط حياته كما ذهبت الى ذلك منظمة الصّحة العالميّة (9) .  
فالتّمويل الصّحي والذي يشمل تجميع الموارد وحسن التّصرف فيها، إنّما وُضِع ليتمكّن سكّان بلد ما من الاستفادة من الخدمات الصّحية اللاّزمة دون التّعرض لخطر الصّعوبات الماليّة الشّديدة وذلك تحقيقا لعدالة إسداء الخدمات العلاجيّة والاستشفائيّة لهم.
وإذا قارنا إستخدام التّقنيّات الرّقمية في المجال الصّحّي بين البلدان الميسورة والبلدان الأقل موارد ماليّة، لاحظنا تباينا جليّا ممّا يعكسُ غياب المُساواة في إستخدامها ويُعمّق الفجوات بين شعوبها على مستوى الانتفاع بها. وعلى مستوانا الوطني وأمام تحدّي ندرة الموارد الماليّة ولتجاوز عدم ملاءمة نظامنا التّمويلي لاحتياجات شعبنا الصّحية ومتطلّبات المُتغيّرات والتّحوّلات الدّيمغرافيّة والسّياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والوبائيّة الّتي نعيش على وقعها لا بدّ من اتباع مسارات ثلاثة في آن واحد:
- مسار ينظر للصّحة كمسؤوليّة فرديّة وجماعيّة لكلّ صاحب قرار في مختلف الأنشطة الاقتصاديّة والحياتيّة عامّة. 
- توفير شروط تحريك عجلة النّمو الاقتصادي، خلقا للثّروة، وبخلفيّة تنمويّة مُتعدّدة الأبعاد وما تتطلّبه من حوكمة التّصرف في تلك الثّروة، بما يضمن تلبية الاحتياجات الصّحّية لكلّ تونسي وتونسيّة.
- البحث عن إثراء التّمويل الصحّي بموارد ماليّة من جنس آخر كالتّمويل الاجتماعي(حملات التّبرع، الزّكاة، الأوقاف...) الذي يُعتبر فرصة ذهبية(10) وإرساء كلّ ما من شأنه أن يجعله تمويلا ناجزا وفاعلا وناجعا، من وضعٍ لأطر تشريعية وآليات تفعيل واقعية.
 وإلى جانب إشكالية ندرة التّمويل تعترض الانتفاع بالتّقنيات الرّقمية في المجال الصحّي، اشكاليّة نوعيّة نظم سجلاّت المرضى، حيث تشترط تلبية استخدام الأدوات الرّقميّة لاحتياجات الإنسان الصّحّيّة أن تكون ذات قدرة عالية على تقديم تقييمات دقيقة لسجلاّت المرضى في الوقت المناسب، إذ أنّ كلّ نظام سجلّ للمرضى غير مدروس  أو مجزأ لا يخدم سوى القليل من الأغراض حتّى لو كان يشمل أكثر التّقنيّات تقدّما، بل قد يتسبّب ذلك في تعكير صحّة المريض بدل معافاته.
ومع تفاقم جائحة كورونا ازدادت الحاجة لاستخدام التّقنيّات الرّقمية في المجال الصّحّي تقويضا للعدوى الى جانب التّدابير الوقائيّة، وقد ابتكر العقل البشري تطبيقة «إحتراز» لحماية الصّحّة العامة لسكّان بلد ما، تطبيقة تُمكّن من معرفة الشّخص المريض بالفيروس وبالتّالي تُوفّر إمكانية منعه من الدّخول إلى الأماكن العامّة حتّى لا يتفشّى الفيروس.
وقد تمكنت الصّين التّي انتشر منها الفيروس من القضاء على آثار الفيروس في فضاءات واسعة من البلاد حين التزمت بشكل صارم بتتبّع المخالطين من حملة الفيروس عبر استخدام تطبيقة «احتراز».
ولا يخلو استخدام هذه التّقنية الرّقميّة من إشكاليات أيضا كتلك المتعلّقة بالحرّيات الشّخصيّة وما يمكن أن تشكّله من انتهاك لها كما ذهبت الى ذلك فئات عريضة من المجتمعات الغربيّة، حيث تعرّض استخدام التّطبيقة الى إنتقادات كبيرة بسبب ميلها الى جمع المعلومات الخّاصّة والشّخصيّة للمستخدمين(11) خاصّة في غياب قاعدة من قواعد الحفاظ على سلامة الانسان «لا ضَرر ولا ضِرار»(12)
الهوامش
(1) راجع مقال لنا بعنوان «البلوك تشين: ضمانة للجودة ولتفعيل الحوكمة» ص 27 بمجلة الاصلاح الالكترونية العدد 166 (ماي 2021) www.alislahmag.com.
(2) راجع مقال لنا بعنوان «العقود الذكية إدارة كفؤة للأصول ومصداقية للمعاملات « ص 18 بمجلة الاصلاح الالكترونية العدد 167 (جوان 2021) www.alislahmag.com.
(3) راجع مقال لنا بعنوان» إدارة المعرفة والذّكاء الاصطناعي رفعا للتّحديات وَحماية من المخاطر» ص26 بمجلة الاصلاح الالكترونية العدد 168 (جويلية 2021) www.alislahmag.com  
(4) RAND Healthcare: Health Information Technology: Can HIT Lower Costs and Improve Quality? Retrieved on July 8, 2006
(5) https://www.abbreviationfinder.org
(6) https://www.thearabhospital.com
(7) ما رواه الطبراني في «المعجم الكبير» (13646)، و»المعجم الأوسط» (6026)، و «المعجم الصغير» (861) عن عَبْد الرَّحْمَنِ بْن قَيْسٍ الضَّبِّيُّ عن سُكَيْنُ بْنُ سِرَاجٍ عن عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ.
(8) تدبر الآية 17 من سورة الرعد /القرآن الكريم
(9) https://www.who.int
(10) راجع مقال لنا بعنوان « تمويل الصّحة العمومية بتونس التّحدّيات والفرص» بالمجلة العلمية المتخصصة التي تصدرها الجمعية التّونسية للتّصرف الاستشفائي «صدى التّصرف الاستشفائي» العدد التاسع والعشرون (سبتمبر  2021 ) ص04
(11) https://www.aljazeera.net
(12) «لا ضرر ولا ضرار» عن أبي سعيد سعد بن سنان الخدري رضي اللّه عنه : أنّ رسول اللّه ﷺ قال : ( لا ضرر ولا ضرار ) ، حديث حسن رواه ابن ماجة والدارقطني وغيرهما مسندا ، ورواه مالك في الموطأ مرسلا : عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن النبي ﷺ.