نقاط على الحروف

بقلم
عمر الموريف
(1) صدر الجزء الأول من هذه المقالة بالعدد 169 من مجلّة الإصلاح (أوت 2021)- www.alislahmag.com (2)
 الدين كآلية للاستبداد
يرى عبد الرحمن الكواكبي بأنّ الشّرعيّة الدّينيّة من أهمّ أسس السّلطة السّياسيّة، وعند تدقيقنا في مكوّنات هذه السّلطة سنجد الثّروة من أبرز تجليّاتها، لذا لا غرابة أن نجد أيضا من يعتبر نشوء طبقة أرستقراطيّة في المجتمعات الإسلاميّة وجدت في الدّين طريقها إلى الثّروة(2). 
وعلى كلّ فالكواكبي لم ينفك يربط الاستبداد، بما يهدف إليه من احتكار للسّلطة والثّروات، من استغلال الدّين لتحقيق هذه الغاية، أي أنّه يتمّ الانحراف بقيمه ومبادئه العليا والفضلى إلى غايات أخرى دنيئة غايتها التّحكم في الرّقاب وإشباع الأهواء والنزوات.
يوضح الكواكبي أنّ أكثر آراء العلماء النّاظرين في التّاريخ الطّبيعي للأديان قد تظافرت على أنّ الاستبداد السّياسي متولّد من الاستبداد الدّيني، والبعض قال أنّه وإن لم يكن هناك توليد فهما أخوان، فما بنى عليه نتيجته قائم على مقدّمات ما نشاهد عليه المسلمين منذ قرون إلى الآن من استعانة مستبديهم بالدين(3).
والرّكون إلى الدّين كآليّة للاستبداد، في نظر عبد الرحمن الكواكبي، يتمثّل في استلهام السّياسي المستبدّ لما توصف به الذّات الإلهيّة من صفات، فإن كان الحكم والقهر ممّا ينفرد به اللّه سبحانه وتعالى وهو يقيم عدله ورحمته في الخلق، فإنّ السّياسيّين كذلك يبنون استبدادهم على أساس من هذا القبيل، فهم يسترهبون النّاس بالتّعالي الشّخصي والتّشامخ الحسّي، ويذلّلونهم بالقهر والقوّة وسلب الأموال حتّى يجعلونهم خاضعين لهم، عاملين لأجلهم، يتمتّعون بهم كأنّهم نوع من الأنعام التي يشربون ألبانها ويأكلون لحومها وبها يتفاخرون. وهذا التّشاكل بين القوّتين ينجرّ بعوام البشر، وهم السّواد الأعظم، إلى نقطة أن يلتبس عليهم الفرق بين الإله المعبود بحقّ، وبين المستبد المطاع بالقهر. فيختلطان في مضايق أذهانهم من حيث التّشابه في استحقاق مزيد من التّعظيم، والرّفعة عن السّؤال وعدم المؤاخذة على الأفعال(4).
هذا التّداخل والالتباس بين ما هو إلهي وما هو من صفات المستبد السّياسي نجد أنّ أحد المفكرين المعاصرين وهو المغربي طه عبد الرحمن قد وظّفه عند حديثه عن صلة الدّين بالسّياسة من منظوره الخاصّ، إذ خلص إلى أنّ السّياسي ينهل من صفات «العالم العلوي غير المرئي» لشرعنة أو ممارسة تصرّفاته السّياسيّة، إذ يؤكّد على أنّ الفاعل السّياسي يرفع العالم المرئي إلى مرتبة العالم الغيبي بمحاولته لتنزيل المبادئ المؤطّرة لعالم الغيب على العالم المرئي، وذلك من خلال مجموعة من الممارسات (المبادئ على حدّ تعبيره)، والمتجلية في نسبة الفاعل السّياسي الأشياء إلى نفسه وما ينتج عن ذلك من شعور بالملكيّة والسّيادة على ما ينسب إليه (وقد يكون ذلك قدرات، قرارات، منجزات...)، الشّيء الذي يحمله على حبّ التّسيّد على الغير، هذا التّسيّد الذي يصل ذروته عن طريق مبدأ السّلطان الذي يجعل به من ملكه ملكوتا واسعا، ومن قوّته جبروتا قاهرا، ومن شخصه ذاتًا متألّهة موحّدة ، متوسّلا لكلّ ما لديه من أجهزة لكي يبثّ في نفوس المحكومين حبّ الخوف، لكلّ هذا ينتج مبدأ التّنازع مع الغير حول مواقع القوّة والقرار(5).
 ويرى عبد الله العروي بدوره بأنّ كلّ دولة قامت في دار الإسلام، مهما بلغت من الاستبداد قد حافظت بالضّرورة على قسم من الشّريعة وحرصت على تطبيقه لأنّه ضامن للنّظام والأمن، فتطبق الشّريعة داخل السّياسة، وتجعل الدّولة المستبدّة نفسها ترث شيئا من خلافة الرّسول. وكلّ دولة، مهما خضعت للشّرع، تلجأ بالضّرورة إلى القوّة وتعتمد العصبيّة لكي تدوم وتستمر(6). ومن جهته يعتبر الكواكبي أنّ من بين ما تستعين به الدّولة المستبدّة في إرساء نظامها، العمل على نشر الدّين بين رعاياها، على أنّه ليس أيّ دين، وإنّما بممسوخ من الدّين وببعض أهله المغفّلين على ظلم المساكين(7)، وقد سلط الكواكبي على فئة خاصّة من هؤلاء هم «الصّوفيّة» الذين جعلتهم –كما أشار –الإنعامات على زواياهم أن يقولوا: لا يكون الأمير الأعظم إلاّ وليّا من أولياء اللّه، ولا يأتي أمرا إلّا بإلهام من اللّه، وأنّه يتصرّف، في الأمور ظاهرا ويتصرّف قطب الغوث باطنا. على أنّ الكواكبي يوسع دائرة هذه الفئات حينما يسائل من يسميهم بـ «فقهاء الاستبداد» من أين جاؤوا بتقديس الحكّام عن المسؤوليّة حتّى أوجبوا لهم الحمد إذا عدلوا، وأوجبوا الصّبر عليهم إذا ظلموا، وعدوا كلّ معارضة لهم بغيا يبيح دماء المعارضين(8).
وهكذا قد نصادف في التّفسيرات الحديثة لبعض النّصوص الدّينية ما يوافق ما خلص إليه الكواكبي في تحليلاته، ومنها ما ورد في صحيح مسلم وعند الحاكم من الحديث التّالي: «عن أبي سلام قال: قال حذيفة بن اليمان قلت: يا رسول اللّه إنّا كنا بشرّ فجاء اللّه بخير فنحن فيه فهل من وراء هذا الخير شرّ، قال: نعم، قلت: هل وراء ذلك الشّر خير، قال: نعم، قلت: فهل وراء ذلك الخير شرّ، قال: نعم، قلت: كيف؟ قال: يكون بعدي أئمّة لا يهتدون بهداي ولا يستنّون بسنّتي وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشّياطين في جثمان إنس قال: قلت: كيف أصنع يا رسول اللّه إن أدركت ذلك، قال: تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع». إذ من التّفسيرات التي قدّمت له نجد التالي: 
* قال الشّوكاني في النّيل: قوله في جثمان إنس بضمّ الجيم، وسكون المثلث أي: لهم قلوب كقلوب الشّياطين، وأجسام كأجسام الإنس، قوله: وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع فيه دليل على وجوب طاعة الأمراء وإن فعلوا في العسف والجور إلى ضرب الرّعيّة وأخذ أموالهم،
* وقد ذكر شيخ الإسلام في منهاج السّنة: أنّ رسول اللّه ﷺ قد أخبر أنّه يقوم أئمّة لا يهتدون بهديه ولا يستنّون بسنّته، قلوبهم قلوب الشّياطين في جثمان الإنس، وأمر مع هذا بالسّمع والطّاعة للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك، فتبيّن أنّ الإمام الذي يُطاع هو من كان له سلطان سواء كان عادلا أو ظالماً(9).
فهل هناك توافق بين هذه التّفسيرات وما خلص إليه الكواكبي حقّا؟ أم أنّ لأهل الاختصاص الشّرعي منحى آخر في التّأويل؟ قد يكون الجواب أرضيّة لمقال مقبل بحول اللّه تعالى.
خاتمة
إنّ هذه القراءة المتواضعة لفكر الكواكبي حول الجدليّة التي تربط الدّيني بالسّياسي بما يجعل من الدّين آليّة من الآليّات التي يستعملها الطّاغية لتكريس استبداده، جعلنا نستنتج أنّ نظريته هذه لا تزال حاضرة في الفكر الفلسفي السّياسي المعاصر، إذ تخلص الكثير من الدّراسات الفكريّة على أنّ العصر الحاضر يشهد تمكّن بعض الأنظمة السّياسية والطّبقات الحاكمة من استخدام الإسلام أداة فعّالة في تثبيت شرعيّتها وسيطرتها، فقد أقامت بعض العائلات الحاكمة شرعيّتها على الانتساب إلى النّبي ﷺ، وتأسّست في العديد من البلدان العربيّة أسر حاكمة على أساس تحالف قبلي-ديني متين كما يتجلّى في الوهابيّة والسّنوسيّة والمهديّة، أو على فرض الوصاية على المؤسّسات الدّينيّة والاستعانة بعلماء الدّين الذين يبرّرون سياستها، أو بثّ تلك الثّقافة الدّينيّة التي تدعو إلى طاعة أولي الأمر ونصرة السّلطان وترك السّياسة لأصحابها(10).
فالدّين، إذا، كما أكّد على ذلك علي مبروك، كان ولا يزال جزءاً من لعبة القوّة السّياسيّة وإحدى أدوات احتيازها، والإمساك بمفاتيحها في العالم العربي والإسلامي، وضمن هذا السّياق، ثمّة علاقة طرديّة بين تصوّر بعينه للدّين، وبين حجم القوّة التي يوفّرها للقائمين على توظيفه سياسيّا، أي أنّه كلّما كان الدّين حرفيّا وقطعيّا كان مقدار القوّة التي يقدّمها لهؤلاء السّاعين إلى التّخفّي وراءه أكبر -بما لا يقاس- من تلك التي يوفّرها لهم حين يكون موضوعا لتفكير مفتوح(11).لذا، فهناك من يرى(12)، ضرورة إعادة قراءة الدّين وتاريخ السّلطة، بهدف تحرير الدّين من ألاعيب السّلطات ومنع السّلطة من إمكانيّة استخدام الدّين وتخريبه، والأهم إعادة قراءة النّصوص الدّينية، و«الأفكار الدّينية» في تاريخيتها لجهة تعرية اللّحظة والكيفيّة التي ولدت فيها، وبالتّالي نزع القداسة عن كلّ «لا مقدّس» فيها، مع الحفاظ على روحيّة الدّين وجوهره المتعالي.
الهوامش
(1)  صدر الجزء الأول من هذه المقالة بالعدد 169 من مجلّة الإصلاح (أوت 2021)- www.alislahmag.com
(2)  حليم بركات، المجتمع العربي المعاصر: بحث في التغيرات والأحـوال، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت لبنان، ط 2، س 2009، ص 300.
(3) الكواكبي، المرجع نفسه، ص 19
(4) الكواكبي، المرجع نفسه، ص 20
(5) طه عبد الرحمن، روح الدين: من ضيق العلمانية إلى سعة الإئتمانية،منشورات المركز العربي الثقافي، الدار البيضاء المغرب، ط 2، س 2012. ص 179
 (6) عبد الله العروي، مفهوم الدولة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء المغرب، ط10، س 2014، ص 131.
(7) الكواكبي، المرجع نفسه، ص 22
(8) الكواكبي، المرجع نفسه، ص 28
(9) مصدره: https://www.islamweb.net/ar/fatwa/107887
(10) حليم بركات، المرجع نفسه، ص 308.
(11) علي مبروك، مفهوم الشريعة: بين تسييس الإسلام وتحريره، مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، الرباط المغرب، س 2017 ص 71
(12) محمد الكمزاري، صناعة الاستبداد باسم الدّين،مجلة شباب التفاهم، العدد 74، ربيع الثاني 1442هـ/ نوفبر 2020م،  الصّادرة عن وزارة الأوقاف والشّؤون الدّينية عمان، ص 7