تمتمات

بقلم
رفيق الشاهد
صرخة في صخب صامت (9)
تحتفل البنت «نوفل» في هذه السّنة بعيد ميلادها العشرين، وسيشاركها أصدقاؤها وصديقاتها من رفاق ورفيقات الدّراسة منذ السّنوات الأولى، لا في إحياء هذه الذّكرى بل الرّغبة في استغلال هذه المناسبة لجمعهم والتّمتع بدفء اللّقاء.
هؤلاء الأصدقاء الذين أخلصوا الودّ على قلّتهم، ملؤوا حياتها غبطة، وعوّضوا عزلتها أنسا وطمأنينة. لهؤلاء فقط انتظرت بشغف هذا اليوم من هذه السّنة التي تعني للبنات من سنّها الانعتاق والحرّية. عشرون سنة لمن تابعت دراستها بانتظام دون تعثّر تتزامن عادة مع السّنة الأولى أو الثّانية من التّعليم العالي بعد الحصول على شهادة ختم الدّروس الثّانوية (البكالوريا)، وهي عادة ما تكون فرصة لفئة كبيرة من الطّلبة والطّالبات لتغيير نمط حياتهم بالكامل، فيكتشفون البيئة الخارجيّة التي أتيحت للمنقطعين عن التّعليم من دونهم، والذين فتحت لهم المقاهي والملاهي أبوابها مشرعة ليلا ونهارا ويوم الأحد.
البكالوريا موعد يفتح للبنات الباب على مصراعيه للخروج من البيت وحيطانه العالية، ومن تحت جناح الأمّ الحاضنة ومن سطوتها إن لزم الأمر نتيجة قسوة من حولها. من فرط خوف الوالدين يصبح هذا النّجاح لعدد من هؤلاء الطّلبة ذكورا وإناثا غاية في ذاتها، وأوّل فرصة غالية يجب عدم التّفريط فيها للخروج إلى فضاء أرحب لبناء علاقات صداقة جديدة وأشياء أخرى خصوصيّة وحميميّة. 
ماذا أرادت «نوفل» من وراء استدعاء أصدقائها وصديقاتها القدماء والجدد؟ هل لتعقد بينهم لقاء وتوسّع مجال التّعارف لديها، أم للانتقال من محيط إلى آخر، فتودّع القديم لتستقبل الجديد؟
«نوفل» ليست ككلّ البنات في سنّها. فهي تعلّمت من تربيتها الخصوصيّة أن تكون أكثر تعقّلا في معاملاتها مع زملائها وزميلاتها، وأن لا توسع مجال الصّداقة إلاّ بمن يستحق. إنّما أرادت فقط أن لا تحرم صديقاتها وأصدقاءها من فرصة الالتقاء والتّسلّي. وما دعوتهم إلى حفلة صغيرة ومضيّقة بهذه المناسبة إلاّ إكراما لهم، وحتّى تبدو كأندادها فتتقّي حديث الغائب ممّن تعرفهم ولا تعرفهم، الذين لا يضيّعون فرصة لنشر الأخبار على حبال الغسيل «فيسبوك وانستاغرام وتويتر ...». 
على حسابها الخاصّ على إحدى هذه الشّبكات الاتصاليّة، ربطت علاقات مميّزة خارج نطاق معارفها من الأصدقاء القدماء أو الجدد. إن أمكن تسميتهم أصدقاء الفيسبوك من كلّ بلدان العالم، تشاركهم قضايا فكريّة وفلسفيّة، أتاحته لها ما اكتسبته من معارف في مجالات متعدّدة. فقد أصبحت صاحبة رأي وقادرة على إدارة حوارات جدّية وتبليغ رسالتها بكلّ هدوء وثقة في النّفس.
هي أيضا أصبحت تلقي ببعض الأوراق وتتناساها متعمّدة، حتّى يتسنّى لأبيها وأمّها الاطلاع عليها. هي التي كانت جدّ كتومة كثقب أسود لا يستطيع أن يخرج منه نور من فرط الانغلاق. من قال أن لا كتلة للثّقب ولا طاقة؟. تمسك «نوفل» بما إن فتحت دفّتيه ينفلق منه من النّور ما يبهر العالم. هذا ما كانت تلمسه من انبهار أبيها بما تسنّى له قراءته ممّا رسمت بقلمها. كيف لا؟ وهو الذي يضطرب فكره بين «ديكارت» و«سبينوزا» وهي تحاورهما وآخرين من فلاسفة الأنوار كما حاوروا بدورهم في زمانهم «جلجامش» و«أرسطو». 
لا يفتر هذا الاعتقاد مع مرّ الأيام وزيادة تعلّقها بالجديد الذي لا ينسيها القديم.  لا أحد يعرف أن لنوفل مجموعة كتابات عزيزة عليها لم تر النّور ولم تفتح حتّى تنير. عشرة سجلاّت بعدد السّنين وضعتها منذ شرعت في مسك مذكّراتها الشّخصيّة التي تعوّدت كتابتها بإتقان حتّى أصبحت أشياءها الحميمة.
عوّدها أبوها منذ الطّفولة المبكّرة على مسك دفترها الشّخصي في بداية كلّ سنة، ولكنّ الدفتر كان عادة ما يمتلئ في الأسابيع الأولى من الشّهر الأول من السّنة، ممّا يجعلها تحشو الدّفتر بأوراق تكميليّة، وتلتجئ في آخر السّنة إلى جمع كلّ ما دوّنت في سجل الكتروني على حاسوبها الشّخصي.
«نوفل» في سنّ العشرين هي التي عايشت عشريّة ما بعد الثّورة بكلّ أحداثها، وها هي اليوم تسجّل في مذكّراتها بعين بريئة بعيدة عن خبث السّاسة ومن والاهم من شيب وشباب تعلقت هممهم بالشّهرة وتكديس الأموال. ولا تخاطب البنت إلاّ أصحاب العقول الذين قلّ عددهم في زمن الفوضى والمشي على حافة الهاوية. «نوفل» الحكيمة جميلة قوية البنية رقيقة البشرة بلونها المميّز، أصبحت جذّابة يتمنّاها كلّ من يراها. ولكن جميع هؤلاء العاشقين والعاشقات يقرؤون على صفحة وجهها ما يحيلهم إلى لوحة «الموناليزا» أو «الجوكند» للرّسام الشّهير ليوناردو دافنتشي، بتلك البسمة على المحيّا تغشاها مسحة حزن يأسف لها كلّ محبّ ولهان لا يلمس من تقاسيم وجهها البريء إلّا الشّقاء والانكسار.  شيء في داخلها تكسّر ولا أحد يعرف كيف يجبّر. ليت لنوفل الجرأة لكي تقرأ ما كتبت بصوت عالٍ.
في كلّ مرّة فكرت في ذلك إلاّ فضحها حياؤها وغلبها خوفها أن تفقد تقدير أبيها. على قدر فظاعة الكلمات زاد حرصها على التّكتّم والخوف من كشف أسرارها. ماذا تفعل بين أناس لا يمكنهم أن يفهموا ما يدور بخاطرها. ماذا تفعل مع من بقي يعتقد أنّ الأرض لا غرس ينفع فيها، وإنّ البحر لا رزق فيه، فركبوا دون زورق، وعلّقوا آمالهم أشرعة تعبث بها الرّياح العاتية.
قرأت عن أبيها ذات يوم : «في مزرعتنا الموروثة أبا عن جد منذ، عهود قديمة، وفي نفس التربة التي تسقى بماء مجردة وملاّق وتاسة ونبهانة وزرود ومرق اللّيل، نزرع بذورنا الأصيلة وقد ذاع صيتها، ونحصد المحاصيل، فنختار منها أجودها بذورا جديدة للموسم التالي. لما كانت بذورنا نقيّة ممتازة لا تشوبها شائبة اتسعت لها مزارعنا عالية الطّوابي ووصل خيرها إلى كلّ بقاع العالم. ومنذ أن اندست في ترابنا ودسّت في تربتها حبّة سوء جاءت بها رياح الغيرة والحسد، وأنبتت نبتا خبيثا لا ثمر له، ضاع رأس المال، وأصبح يضرب فلاّح وملاّح كفا بكفّ أسفا على ما ضاع... 
...أما آن الأوان للمُزارع أن ينشر البذور والدّرنات إيذانا للموسم الجديد، فيفحصها ويغربلها ويزيل منها الخبيث الدّنس؟ ليس سهلا ولا مستحيلا إعادة نثرها. للمزارع أولاد.»
لن تسافر «نوفل» إلاّ على متن متين ولن تكون هجرتها إلاّ لنفع كبير. لقد خطّطت منذ سنين وأعدّت العدّة لا لتذهب إلى من هي في حاجة إليهم بل استدعت من هم في حاجة إليها. باسم مستعار تقدّمت «نوفل» عبر الفضاء الافتراضي وما يتيحه من إمكانات تخاطب صفوة النّخبة من جميع أقطار الكون وتحاورهم بلغاتهم. وجدت «نوفل» نفسها بين أناس في مرتبة فوق المراتب؟
 لا شكّ إنها استفادت من فكرهم وذكائهم المميّز، ولا تشكّ هي أيضا أنّ لها من المكتسبات ما يغري هؤلاء في عديد من المجالات اهتمت بها كلّ الاهتمام، دون أن تنسى أن تحدّد لنفسها في الفضاء المشترك محيطا لا يقترب منه إلّا من اختارته هي بنفسها وبصفة استثنائيّة.