في الصميم

بقلم
نجم الدّين غربال
العقود الذّكية إدارة كفؤة للأصول ومصداقيّة للمعاملات
 وقفنا في الحلقة الأولى(1) من بحثنا عن كيفيّة تحقيق النّفع للنّاس في عصر التّحول الرّقمي الى ضرورة إعادة النّظر في دورنا كقادرين على الفعل في المجتمع، وذلك من خلال توظيف ما أفرزته مُتغيّرات ذلك التّحول التّكنولوجيّ من إبداع لتقنيّات حديثة عكست الذّكاء البشري وأهمّية الاعتماد عليه تحقيقا لنفع النّاس وتيسير حياتهم.
ثمّ في حلقة ثانية(2)ومع ما تضمنه ابتكارات التّكنولوجيا الحديثة من شفافية ودقّة في التّعاطي مع المعطيات، ومع ما تزخر به تونس من طاقات وقدرات في المجال الرّقمي، ومع تأكّد الحاجة أكثر فأكثر إلى آليّات تمويل اجتماعي مُبتكر وشفّاف، أبرزنا الحاجة لمؤسّسة الأوقاف، ونجاعة استعمال التّكنولوجيا الحديثة الرّقميّة من خلال تقنية البلوك تشين(Blok Chain) أوسلسلة الكتل كضمانة للجودة وتفعيلا للحوكمة.
ولمزيد العمل على إستعادة الثّقة في التّمويل الاجتماعي الإسلامي بتونس خاصّة أمام محدوديّة التّمويل التّقليدي في المجال الإجتماعي، نُواصل البحث في كيفيّة توظيف ابتكارات التكنولوجيا الحديثة، ونُركّز هذه الحلقة على العقود الذّكيّة(Contrat Smart) واستعمالاتها في التّمويل الإجتماعي الإسلامي ليكون ذلك التّمويل رافعة حقيقيّة للإصلاح والبناء والتّنمية، خاصّة حين يتمّ ضبطها شرعا وتأطيرها قانونا، تأطيرا سليما ويتمّ تأسيسها على قاعدة الشّفافيّة والنّجاعة والفاعليّة. 
فماهي العقود الذّكيّة؟ وكيف يمكن الاستفادة منها تحقيقا لنفع النّاس وتيسير حياتهم؟
I. مفهوم العقود الذّكيّة 
تمّ ابتكار فكرة «العقود الذّكيّة» لتضع قانون العقود من خلال بروتوكولات التّجارة الإلكترونيّة وتصميم ممارسات الأعمال من خلال برامج الكمبيوتر على الإنترنت بين الغرباء، وتعرّف العقود الذّكيّة بأنّها«مجموعة من الوعود، يتمّ تحديدها في شكل رقمي، بما في ذلك البروتوكولات التي تُنَفِّذُ الأطراف بموجبها هذه الوعود»، فالعقد الذكي في الواقع برنامج أو خوارزميّة كمبيوتر يتمّ تنفيذها تلقائيًّا عند استيفاء الشّروط المُحدّدة مسبقًا. وبعبارة أخرى، فإنّ الحساب أو الحساب للأغراض العامّة يحدث عادةً على دفتر الأستاذ الموزّع أو البلوك تشين وفي هذا الصّدد، هو أكثر عموميّة من العقد التّقليدي، لأنّه يمكن أن يكون أيّ نوع من الخوارزميّة، وعبر هذا العقد يتمّ تحويل شروط وأحكام المعاملة إلى رموز إذا تمّ استيفاء الشّروط ليتمّ إبرام العقد على الفور.
ما تسمح به «العقود الذّكيّة» هو إجراء معاملات ذات مصداقيّة دون تدخل أيّ طرف ثالث، وهذه المعاملات قابلة للتّتبع ولا رجعة فيها، وتحتوي «العقود الذّكيّة» على جميع المعلومات حول شروط العقد والتي يتمّ تطبيقها في كافة مراحل التّنفيذ، وبشكل تلقائي.
يمكن للعقد الذّكي أن يُلَبّي بسهولة الشّروط التّعاقديّة الشّائعة ويُقلّل من الاستثناءات الضّارة والعَرَضِيّة وينفي الحاجة إلى تدخّل طرف ثالث وبالتّالي، فهو يُقلل من الحاجة إلى وُسطاء موثوق بهم ويُقلّل استخدامه من خسائر الاحتيال؛ وخفض التّحكيم والإنفاذ وتكاليف المعاملات الأخرى.
ولمعرفة كيفية عمل العقد الذكي يُمكن الإستئناس بمراحله الأربع التي يتضمنّها الشّكل المقابل:
 ولتوضيح فاعليّة هذا العقد على مستوى تحقيق النّفع للنّاس وتيسيرا لحياتهم خاصّة المحرومين منهم وأولئك الذين تمّ إقصاؤهم من طرف النّظام الاقتصادي والنّقدي والمالي السّائد، يُمكن عرض فاعليّة استخدام هذا النّوع من العقود في إدارة مشاريع الأوقاف على سبيل المثال.
II. استخدام العقود الذّكية في إدارة مشاريع الأوقاف
يُعتبر العقد الذّكي أقرب إلى العقد الإسلامي من حيث توافقه مع ما يُشدّد عليه الخطاب القرآني من بيان لكلّ شيء وما يتطلّبه من تفصيل، وذلك ضمانا لشفافيّة المعاملات وترسيخا لمبدأ الثّقة بين المتعاملين، شفافيّة يعكسها ما يقوم عليه العقد الذّكي من تعريف الأصول وشروط الدّفع والتّطبيق وثقة من خلال إتخاذها كمبدأ.
يُمَكِّن إنشاء عقود ذكيّة مرتبطة بمشاريع وقف محدّدة، وإيداعها في سلسلة الكتل (البلوك تشين) وذلك توفيرا لكفاءةٍ أعلى لجمع الأموال وإدارة ونقل ملكيّة الوقف، وهذه العقود عبارة عن بروتوكولات خاصّة ذات هدف واضح وهو تنفيذ التّفاوض أو أداء العقد.
وتوضيحا لفاعليّة العقد الذّكي في إدارة مشاريع الأوقاف، على سبيل المثال لا الحصر، يُمكن تحويل سند الوقف إلى خوارزميّة أو رمز، ثمّ بعد ذلك يتمُّ إدراج الخوارزميّة أو الرّمز في منصة البلوك تشين(3) في شكل عقد ذكي.
ويتمّ تنفيذ العقد الذّكي بشكل آلي، ويمكن لهذا العقد أن يتجنّب استخدام مُمتلكات الوقف في غياب شروط الوقف، وبهذه الطّريقة يمكن حماية عمل الوقف والالتزام به، وهذا مثال بسيط حيث يستطيع الوقف الاستفادة من العقد الذّكي.
من منظور كُلّي، يمكن أن يؤدّي استخدام العقود الذّكيّة إلى تعزيز أداء وفعاليّة مؤسّسة الوقف، كما أنّ دمج العقود الذكيّة في عمليّة الوقف، يمكن أن يؤدّي أيضًا إلى تقليل التّكلفة، مع زيادة الأمن والالتزام بأحكام الوقف.
طوّرت قاعدة الخدمات الماليّة «فينترا»(Finterra)ا(4) منصتها للتّمويل الجماعي (Crowdfunding)ا(5) باستخدم البلوك تشين لإنشاء عقود ذكيّة يُمكن ربطها بمشاريع وقف مُحدّدة كما لِتُوَفِّرَ بذلك طريقة أكثر فعالية لجمع الأموال وإدارة ونقل ملكية الوقف، وأنشأت سلسلة الوقف(Waqf Chain)ا (6) التي من شأنها إتاحة الفرصة للمشاركين لإنشاء مقترحات مشاريع لتطوير وتنشيط خصائص الوقف.
كما يمكن لآخرين أيضا تمويل مقترحات المشاريع هذه من خلال المساهمة في الأموال إذا تمّ تحقيق أهداف المشروع، ويتمّ قبول اقتراح المشروع، وإنشاء عدد معين من رموز الهبات وتوزيعها على المموّلين المشاركين.
 ولهذه المنصّة فوائد رئيسيّة منها:
• تخزين وثائق «العالم الحقيقي» لكلّ مشروع بشكل كبير وثابت لجميع أصحاب المصلحة لرؤية ومراجعة، وضمان سلامة وشفافيّة المشروع مع تقدمه.
• عدم امكانية التّلاعب بالمساهمة وتصويت أصحاب المصلحة والشّروط الخاصّة بما تفرضه من موافقة البلوك تشين عبر عقد ذكيّ.
• التّعامل التّلقائي مع توزيع الرّموز وإيرادات المشروع في منطق العقد الذّكيّ بما يضمن العدالة والدّقة المحاسبيّة لحاملي الرّمز المُمَيّز.
يتبيّن لنا ممّا سبق ذكره أهمّية التّكنولوجيا الرّقميّة في تحسين إدارة مؤسّسات الأوقاف ومزيد فاعليتها، كما تتأكّد تبعا لذلك الحاجة الملحّة للتّركيز على هذه التّكنولوجيّات، وما هو منتظر مزيد من البحوث بالتّعاون بين تخصّصات متعدّدة والتّركيز على تطوير أدلة المفاهيم وتنفيذها فيما يتعلق بالأوقاف، كما على علماء الاقتصاد الإسلامي أن يفقهوا بعمق مُستجدّات الواقع المعاصر ويُلِمُّوا بالتّقدّم التّكنولوجي الرّقمي ليُحسنوا توظيفه في مجال التّمويل الاجتماعي الإسلامي كالأوقاف، وبما يُمكّنهم من توجيه وإرشاد هذه الجهود بطريقة مُتوافقة مع إرادة الله سبحانه لتيسير حياة النّاس(7)وتثبيت النّفع لهم في الأرض(8).
من المعتقد بشدّة أنّه مع الأسس العقائديّة الرّاسخة لمثل هذه المؤسّسات(وما الوقف إلاّ إحداها)، فإن النّهج المبتكر الذي يعتمد التّطورات التكنولوجيّة الرّقميّة، مثل «البلوك تشين» والعقود الذكيّة، يمكن أن يضمن مشاركة فاعلة ومجدية لمؤسّسات الأوقاف وغيرها وبشكل فعّال في التّنمية المجتمعيّة والاقتصاديّة للمجتمعات البشريّة ولمجتمعنا التّونسي على وجهٍ أخصّ، ومن هنا يُمكن البدء في بلورة مبادرات للتّمويل الاجتماعي الإسلامي بأبعاده الأخلاقيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة وبطريقة فعّالة ومُجدية وذات قابلية للإنجاز.
إنّ ما يمكن أن يتحقّق بما سلف هو الجمع بين فكرة البلوك تشين والعقود الذكيّة ومفهوم الأوقاف كنقلٍ لملكيّة فرديّة لأصول لتحقيق النّفع لخواص أو عوام ليسوا مالكين لها، فكلّ من هذه الابتكارات تجعل المعاملات في مجال الأوقاف تقوم في الأساس على مبدأ الثّقة والحفاظ عليه، وذلك ضمانا لنفع المجتمع وأفراده، سواء في الوقت الحالي أو في المستقبل.
الهوامش
(1) راجع العدد 165 لمجلة الاصلاح الالكترونية (أفريل 2021) مقال لي بعنوان « نفع الناس في عصر التحول الرقمي» ص 14
(2) راجع العدد السابق 166 لمجلة الاصلاح الالكترونية (ماي 2021) مقال لي بعنوان «البلوك تشين: ضمانة للجودة ولتفعيل الحوكمة» ص 27
(3) راجع العدد السابق لمجلة الاصلاح الالكترونية عدد 166 مقال لي بعنوان «البلوك تشين: ضمانة للجودة ولتفعيل الحوكمة»
(4)  https://finterra.org
(5)  https://www.crodlending.fr
(6)  https://mywaqf.com
(7) تدبر الآية 185 من سورة البقرة  في القرآن الكريم
(8) تدبر الآية 17 من سورة الرعد في القرآن الكريم