نقاط على الحروف
بقلم |
![]() |
أ.د.احميده النيفر |
الخطاب الدّيني الرّسمي وصراع المرجعيّات في تونس (4/4) |
من أجل إنهاء الارتهان والتيه
لم يتردّد الرّئيس الحبيب بورڨيبة وهو يعرّف بطبيعة مشروعه التّحديثي في تونس في القول :«لقد صنعتُ، من سَفَلَة الأفراد ورواسب القبائل والعشائر الخاضعين والمستكينين في جبريّة مهينة، شعبا من المواطنين»(1). ما يعنينا في هذا القول إلى جانب ما يفيده من إفراط مَرَضي في الثّقة بالنّفس(2) هو التّجاهل الكامل لحقيقة تاريخيّة متعلّقة ببناء الدّولة الحديثة وبخطابها الرّسمي وبمؤسّساتها المجتمعيّة. ذلك أنّ ما وقع إرساؤه بعد الاستقلال ما كان لينجح لولا تمثلّه واستفادته خاصّة ممّا كان قد توفّر قبل ذلك بعقود عديدة ضمن النّظام الملكي الحسيني، لأنّه من المستحيل انتقال تونس من التّذرّر والخضوع واللاّدولة واللاّمجتمع إلى منظومة شعب من المواطنين في بضع سنوات وبفضل جهود زعيم أوحد.
المؤكّد أنّ ما تحقّق من نجاح للتّجربة التّونسيّة في عملها التّأسيسي التّحديثي إنّما كان ثمرةَ عدّة عوامل من أبرزها أنّ الحركة الوطنيّة استطاعت أن تكون مُجسّدة لسيرورة سياسيّة- مجتمعيّة بدأت قبل الحماية وتواصلت أثناءها ملتحمة مع فاعليّة نسيج أهليّ فعّل ثقافته وقيمه ومؤسّساته من جهة ثانية.
نتيجة هذا الحراك المجتمعي تقلّصت «حرّية رجال الشّرع»، خاصّة فيما يتعلّق بما ينهجونه من المضامين والطّرق التّدريسيّة وأراء في الإفتاء والرّؤى وتأكّد تراجعهم في معركة مرجعيّة الدّولة بصورة كاملة عند قيام دولة الاستقلال.
هذا ما استشعره شيخ الإسلام المالكي قُبيل الاستقلال حين أعلن في خطاب رسمي أمام آخر بايات العائلة الحسينيّة أنّه مُنكرٌ ومُقاوم لإقحام اللاّئكية فيما عسى أن يحدث من نظم في هذا البلد... لأنها [ اللاّئكية] باعث قويّ على التفرّق والانقسام ...وهل من شكر نعمة الاستقلال تنكرُنا لديننا الذي هو مقام ذاتنا...» (3)
كان الشّيخ مُدركا أنّ معركة المرجعيّة على وشك أن تُحسم وأنّ مُقتضى الواقع الموضوعي لم يكن إلى جانب توجّهه بما يوحي بأنّ الأوان قد فات. لقد تأكّد أنّ أسس شرعيّة الدّولة صارت قائمة على ما تسمّيه العلوم السّياسيّة التّغاير بين مرجعيّة السّلطة السّياسيّة وبين الإسلام. هو تغاير يقوم على الفصل والوصل في ذات الوقت: فصل مرجعيّة الدّولة عن التّراث الإسلامي عامّة والسّياسة الشّرعيّة خاصّة ووصل عبر ما توفّره قيم الإسلام وعموم تعاليمه من رافعة يقع استعمالها وفق الحاجة السّياسيّة. ليس هو الفصل التّام بين الدّيني والسّياسي بل توظيف الأول واستتباع له بما يتجاوز ما كان رجال الشّريعة والطّريقة في تونس يطمحون إليه من التّعدديّة الإيديولوجيّة للدّولة المتمثّلة في النّسق التّنافذي القديم.
أبرز ما في هذا الوضع أنّ الأمر لم يقف عند هذا الحدّ بل تجاوز حدّ سيطرة الفكر الوضعي للدّولة الجديدة ولما تَسنُّه من قوانين ليبلغ مدى أبعد متمثّل في إرادة الاستيلاء على مرجعيّة المجتمع نفسه بما سيُعرف بـ «دولنة» الدّين.
لم يبقَ الصّراع الجديد ضمن إطار أن تكون الدّولة هي صاحبة السّلطة التّشريعيّة فحسب، بل تحوَّل الاختيار في امتلاك الدّولة مضمونا فكريّا وثقافيّا يكون هو الأوحد والواجب اتباعه وفرضه بكلّ الوسائل.
ضمن هذه المعركة الضّارية سخّرت إدارة الدّولة المستقلّة المدرسة والفنون والاجتماع والاقتصاد فضلا عن القوانين والتّشريعات لفرض «هندسة» جديدة للمجتمع.
تواصل هذا المشروع التّحديثي لإعادة بناء ثقافة المجتمع اعتمادا على مقولة «الأمّة التّونسيّة» والإنسان التّونسي الجديد الذي لا صلة له بالواقعيّة الاجتماعيّة التّاريخيّة التّونسيّة. لم يبق عندئذ مُسوِّغٌ لمفهوم الشّعب والمجتمع بما يعنيانه من مهمّة تاريخيّة يلتقي فيها التّواصل مع الماضي بالرّغبة في البقاء تحقيقا لإرادة الفعل في الواقع. هذا ما جعل الخطاب الرّسمي يُعلي من شأن «الأمّة التّونسيّة» و«القوميّة التّونسيّة» إثباتا لعلاقة خارجة عن كلّ دلالة تاريخيّة ومستقبليّة للمجال العربي الإسلامي فيما يحمله من جذور ومعنى وقيم ومآل.
في نفس هذا الخطاب الرّسمي لم تعد ثقافة المجتمع كائنا حيًّا قادرا على أن يتشكّل في نُظم مختلفة باختلاف الأزمنة والبيئات والنّظم الإنتاجيّة والسّياسيّة بما يشتمل عليه من عناصر رمزيّة واعتقاديّة وأخلاقيّة وعمليّة. هذا ما جعل الخطاب الرّسمي يعتبر أداء بعض الشّعائر الإسلاميّة تبديدا للثّروة وإضعافا للفاعليّة الاقتصاديّة(4). تواصلت الحملة التّحديثية دون هوادة مؤكّدة أولويّة الاستحواذ على مرجعيّة المجتمع في شتّى المناحي وقصد التّغيير القسري للبنية الذّهنية للفرد والمجتمع.
من هذه المسائل ومن غيرها(5)يتّضح أنّ الصّراع على مرجعيّة المجتمع كان سبيله «دولنة» الدّين وأنّ الخطاب الرّسمي استند في ذلك إلى قاعدة منهجيّة متمثّلة في التّركيز على قيمة العقل وِحدةً دلاليّة وسلطة مرجعيّة لكلّ فعل اجتماعي وسياسي مُسدَّد(6).
أساس هذه القاعدة الذّرائعيّة التي تُعنى بالنّجاعة والفَعَاليّة وتتمثّل في أنّ الدّولة هي رمز الحكمة وبؤرة التّدبير وأنّها تحتلُّ المكانة العليا في سُلَّم القيم وأنّها مُشَخَّصَةٌ برئيسها لا محالة(7). ثمّ تتمظهر هذه القاعدة في احتلال هذا الرّئيس مكانة الإمام الذي يضاهي «المجتهد المطلق» الذي يسمح لنفسه أن يطوّر الأحكام « بحسب تطوّر الشّعب وتطوّر مفهوم العدل ونمط الحياة»(8).
عند هذا الحدّ يمكن العَوْدُ إلى سؤال الانطلاق المتعلّق بالمفارقة الكبرى بين ما كان سائدا في خمسينات القرن الماضي وستيناته وبين ما آلت إليه الأوضاع في السّنوات الأخيرة حين افتقد خطاب دولنة الدّين في تونس مصداقيته.
لقد أثبتت عقود التّحديث هشاشة خطابها والتباس نظامِها الفكري والسّياسي ممّا أدّى إلى تهاوي خطابها الرّسمي «للدّين» لأنّه كان في ظاهره دينيّا في حين كان في حقيقته خطاب سيطرة واستتباع. معضلةُ هذا الخطاب فيما أوجده من حالة فراغ هائل مكّن لبروز عنصر إسلامي، احتجاجي ودعوي، لكن ضمن مشهد مجتمعي اختلّ نَسَقُهُ الدّاخلي فغَدَا مُتَشَضياً مفتقدا لمؤسّساته وفاعليّته.
ما نستخلصه من هذا الوضع هو ضرورة التَنَبـُّه إلى الدّلالة الحقيقيّة للمفارقة التّونسية الكبرى. ذلك أنّ الفرق الذي يبدو شاسعا بين ما عرفته سنوات تأسيس دولة الاستقلال من غياب العنصر الدّيني وبين ما عرفه اليوم من حضور لذلك العنصر لم يكن فرقا نوعيّا لأنّه لم يُنْبِئُ بتحوّل في طبيعة الخطاب.
ما تثبته العقود الماضية أنّ تجربة «دولنة» الدّين في سعيها لاحتواء المجتمع والتّسلط على ثقافته واصلت رحلة التّيه فلم تُسهم في تكريس دولة التّحديث ولم تُكسب خطابها المصداقيّة اللاّزمة من جهة كما أدّتْ إلى تسطيح المجال الدّيني وانسحابه من تطوير الواقع السّياسي والاجتماعي والثّقافي من جهة أخرى.
لقد ظلّ الخطاب الدّيني أسيرَ مُثَلَّث إحداثيّات: الارتهان والانكفاء والاحتجاج ممّا أذكى صراعا عقيما للمرجعيّات مُعطّلا كلّ جهود الإصلاح إذ وجّهها وجهة سياسيّة سلطويّة.
انضواءُ الإسلاميين اليوم في إعادة بناء الدّولة دون التفات لتجديد الوعي الدّيني المؤسّس لنهضة حضاريّة في مستوى الفرد والمجتمع إنّما هو مواصلة في استلاب المجتمع وإفقاده قدرته على الفاعليّة والإبداع. تواصلُ خطاب السّلطة المقطوع عن خطاب المعرفة والاجتهاد سيعيد إغراقَ الدّولة والمجتمع في دائرة التّجاذب السّياسي والإيديولوجي وإذكاء صراع المرجعيّات وتنافيها.
هو تأبيد للحظة خمسينات القرن الماضي ومواصلة الدّوران في حلقة مُفرغة لا تحقّق أيَّ تحوّل نوعي في معالجة إشكاليّة الهويّة الدّينيّة بتجاوز مأزق مرجعيتها التّاريخي الذي تعاني منه تونس خاصّة والبلاد العربيّة عامّة.
لقد مثّل مشروع «الدّولة – الأمّة» مرحلةً تاريخيّة أفضت إلى استلاب المجتمع والدّين عوضَ أن تكون فيه الدّولة مركزا لحياد إيجابي حاضنٍ لفاعليّة الشّأن الدّيني بحيث تكون راعية لقانونيّة تنظيم نشاطه وحسن إدارته الذّاتية وتمكينه من التّطوّر والتّجديد. لقد اقتصر أمرُ المشروع على انتشار عقلانيّة شكليّة غير نافذة بما جعل مآلات الخطاب الدّيني الرّسمي مُنصرفة ومُنحصرة في ثقافة السرّية وأحاديّة الإجابة واحتكار المعنى.
هذا ممّا يؤكّد ضرورةَ تجاوزِ صراع المرجعيّات بما يقتضي التّمييز بين أن يكون للإسلاميين «سلطة» تسيّج الوعي الدّيني وبين أن يسهموا في إرساء مرجعيّة علميّة ومنهجيّة في المستويات التّعليميّة والفكريّة والثّقافيّة تكون استجابة للحظتهم التّاريخيّة ومستلزماتها المنشودة في العلم والسّياسة والفكر التّاريخي والدّيني.
تلك هي اللّحظة المنشودة لنشأة خطاب حضاري أساسه تكريس مرجعيّة دينيّة منتجة لرؤية إنسانيّة معاصرة واجتهاد متفاعل مع طبيعة سلطات المؤسّسات القائمة ومع احتياجات المجتمع في الفاعليّة والتّحرر.
الهوامش
(1) D’une poussière d’individus, d’un magma de tribus, de sous tribus, tous courbés sous le joug de la résignation et du fatalisme, j’ai fait un peuple de citoyens.
(2) يعود تاريخ هذا التصريح إلى سنة 1973 وهو مؤشر على مرض الهــوس الاكتئابــي (syndrome maniaco-dépressif) الذي يؤكد الباحثون إصابة الزعيم به شأنه شأن سياسيين آخرين، انظر http://www.frm.org/dossiers-161.html
وكذلك https://www.webteb.com/mental-health/diseases
(3) ألقى الشيخ عبد العزيز جعيط خطابه هذا أمام الباي محمد الأمين بمناسبة عيد الأضحى، راجع جريدة الزهرة 2-8-1955 وانظر بحثنا: «الدّولة الإسلاميّة، حديثة وأكثر»، مجلة 15/21 عدد 16 جوان 1988.
(4) كان ذلك شأنه مع الأضاحي وأداء فريضة الحجّ التي اقترح الرّئيس بورڨيبة في خصوصها رصد الأموال التي تنفق لأدائها لصندوق التّضامن الاجتماعي أو إقراضها للدّولة مضيفا:«من شاء التّبرك فإنّه يستطيع زيارة قبر أحد أصحاب رسول اللّه كأبي زمعة البلوي دفين القيروان». تمثّلت أبرز مراحل هذه الحملة في الدّعوة للإفطار في رمضان بحجّة مقاومة التّخلف الاقتصادي. حصل ذلك في مدينة القيروان أثناء الاحتفال بذكرى المولد النّبوي الشريف تذكيرا بما وقع من تصريح بضرورة الإفطار في شهر رمضان السّابق. في ذلك يقول الرّئيس بورڨيبة:«لم نتردد بمناسبة حلول شهر رمضان الأخير في الدّعوة إلى التّوسّع في باب الرّخص وإعمال الرّأي في فهم المقصد والنّتائج من عبادة الصّوم التي زاغ فيها النّاس عن الأصول القارّة والسّنن الجوهريّة»، راجع خطاب القيروان ألقي في 3 سبتمبر 1960 وقد سبقه رفض الشّيخ عبد العزيز جعيط تقديم فتوى تُجيز الدّعوة للإفطار في رمضان ممّا أدى إلى عزله من منصب الإفتاء الذي بقي شاغرا سنتين إلى أن عيّن فيه الشّيخ الفاضل ابن عاشور، راجع آمال موسى في «بورڨيبة والمسألة الدّينية» المذكور آنفا.
بعد ذلك توالت المسائل الصّدامية لتشمل الدّعوة إلى المساواة في الإرث بين الذّكر والأنثى والتي لم يتوصّل النّظام إلى تحقيقها وإلى إقرار برنامج لتحديد النّسل عبر جملة من الحلول مع مقاومة صريحة للحجاب الشّرعي باعتبار أنّه « لا دخل للدّين الإسلامي في مسألة الحجاب» المرجع السّابق ص 214.
في المجال الاقتصادي عبرّت القيادة الرّسمية للدّولة عن إباحة الرّبا بناء على ما تقتضيه ضرورة التّعامل المادّي والتّعاون بين الأفراد لتحصيل « كسب جديد تمكن قسمته وتوزيعه على المساهمين» راجع الخطب الرّسمية الجزء الثّاني عشر نشريّات وزارة الإعلام ص 286.
(5) نذكر في هذا الصّدد إصدار مجلة الأحوال الشّخصيّة وإلغاء التّعليم الزّيتوني لأنّه أصبح قوّة تعطّل دولة الاستقلال حسب الرّؤية الرّسمية إضافة إلى إلغاء اعتماد التّاريخ الهجري في الوثائق الرّسمية وإباحة الإجهاض، راجع عبد الرزاق الحمامي «الفكر الإسلامي في تونس»، مركز النشر الجامعي تونس 2005.
(6) الجزء السّابع عشر من خطب الحبيب بورڨيبة، نشريّات وزارة الاعلام والشّؤون الثّقافية، المطبعة الرّسمية 1980 ص 191. لقد ركّز الخطاب الرّسمي على أنّ العمل في الدّنيا هو ضرب من الجهاد للتّحرّر الدّنيوي بالأساس وهي إشادة بأولويّة الدّنيوي التي تكسب العمل في الدّنيا ومن أجلها مكانة مستقلّة عن الدّار الآخرة التي لا يراها الخطاب الرّسمي مستقرّ سعادة المسلم وغاية اهتمامه. هذا ما نجده واضحا في الخطاب الرّسمي المنكر للزّهد في الدّنيا طمعا في « خيرات الدّار الآخرة ...فلا نريد بيع دنيانا بآخرتنا لتكون صفقة رابحة في الدّار الآخرة ...» م. س. ص 80.
(7) م. س. الجزء الثلاثون ص 165.
(8) م. س. ص 163.
|