تمتمات

بقلم
رفيق الشاهد
لا تغريد خارج السّرب
 مازلنا في تونس نتساءل أين نحن من الثّورة وأهدافها. ومازال الشّارع التّونسي مع الشّارع المغاربي والعربي يتابع مآل هذا الحدث الجلل الذي ميّز البلاد وينتظر بشغف أجوبة على أسئلة بقيت ومازالت مبهمة. من قام بهذه الثّورة؟ ومن هم حاموها ومن هم أعداؤها إن كان لها أعداء؟ مازلت أتساءل مثل هؤلاء طالما أراني في ذاتي في قلب الرّحى وأرى الآخر مفردا يغرّد خارج السّرب. 
أين «صالح داودي»؟ لم نسمع له صوتا بين الأصوات الصّاخبة في سوق بلا صدى. وأين «ابتسام بوسلامة» لتحدّثنا عن تارديو Tardieu ومرآته المبهورة أو عن حوارها مع الفنون المبدعة؟. أين «عائشة ابراهيم» لتغوص في أعماق شاعريّة «قارسيا لوركا» وتكشف درّة الأندلس المكنونة في هويّة هذا الشّاعر الملتبسة والجدليّة التي أسالت الكثير من الحبر لعلّها تكشف نبذه أخرى من أسرار النّفس البشريّة؟.
 هؤلاء وآخرون اكتشفتهم من خلال ملخّص مخرجات المنتدى التّاسع للجمعيّة التّونسيّة للجماليّة والشّاعرية -هكذا أمكن لي ترجمة «استيتيك ويويتيك» من الفرنسية. صدر هذا العدد منذ أربع عشرة سنة (شهر مارس 2006 ) تحت عنوان «شاعريّة الوجود - استراتيجيّات معاصرة للفنون « ليؤكّد مدى عمق الفكر الثّوري لدى المثقّف والفنّان التّونسي بانفتاحه على التّعدّدية باعتبارها إبداعا ومقاومة وعلى ثراء الاختلاف الذي يعتبره «توني نقري» خلطة أو مضغة من عدّة نزوات فرديّة.
يعيش الأكاديميّون أنبياء زمانهم في مراتب العلم والنّظريات. وكلّ تموقع وانحياز لفئة أو سرب من الأسراب الفاعلة لا يكون إلاّ انحدارا بل هبوطا وسقوطا في جحيم الفساد السّياسي، فيتحوّل المبدع حينها إلى حطب أو تبن يدسّ في تنورها ليؤجّج سعير الصّراعات الإيديولوجيّة والفكريّة التي لا طائل منها سوى إلهاء النّاس عن قضاياهم الأساسيّة.
نعم للصّراعات الفكريّة والإيديولوجيّة على مدارج الجامعات والكلّيات لتنير العقول المؤهلة لقبول الآخر، لعلّها تفهم مزايا التّعدّديّة وأهمّيتها كتقنية فضلى للإبداع والمقاومة وإحدى القيم التي يرتكز عليها بناء هذا الإنسان لبنة، لبنة بما تراكم من تجارب فرديّة وفئويّة وجمعيّة.
كل عزف منفرد يبدو في أوّله غريبا وغامضا حتّى ينسجم لحنه مع عزف آخر لآلة أخرى. هكذا، أظنّ حدثت الثّورة ببلدي. اندلعت لمّا تناغمت الإيقاعات الفرديّة وتشكّلت في أسراب انسجمت بدورها على إيقاع الكرامة الوطنيّة. هذا الدّفع الثّوري المتواصل الذي ترسّخ في مخيال الأجيال الصّاعدة لم يفكّ شفرته السّابقون الذين وإن سلكوا سبل الإبداع إلاّ أنّهم لم يعدّلوا أوتارهم على وقْعي الزّندالي أو الرّبوخ.
لكلّ عصر جماليته وشاعريته. لكن من يمكنه أن يغوص في ثنايا ومبهمات هذه الحياة العصريّة التي يمرّ عليها الفرد دون التّنبه إلى الجميل منها ولا القبيح؟ كيف، لمن لم يتسلّح بالأدوات الأساسيّة أن يتجاوز في قراءة لوحة الفنّان تمييز الألوان والأشكال؟ أمّا الغوص في أحاسيس الفنان رسّاما كان، شاعرا أو مُلهَما بشكل من الأشكال فيتطلب معرفة نقديّة لفكّ رموزه الذّاتية، تاريخه بما حمله من تأثيرات نفسيّة ربّما حدّ العُقد وتأثيرات أخرى فكريّة ربما حدّ التّطرف. هكذا على خطى «عائشة ابراهيم» مع شاعريّة «قارسيا لوركا» لفهم دوافع الفنّان لاختيار تقنية دون أخرى وأسلوب مستنبط دون آخر منقول.
هل يؤدّي العمل رسالته الفنّية ويبلغ درجة الإبداع ورفعة المقاومة إن لم يؤمّن كلّ من النّاشر والنّاقد عمله بنفس الحسّ الجمالي والشّاعري، فيلتقط القارئ حينها الرّسائل المراد فهمها؟
هل نأمل اليوم التقاء هذه الأسراب المتباعدة لتتناغم؟ هل من حكيم لهذا الزّمان لحلّ الشّفرات المختلفة وتفكيك الرّسائل بعد تقطيع الإيقاعات وإعادة نسجها كلّها دون تمييز ولا إقصاء، لأنّ السّرب أسراب وأقلّه أفراد.