دراسات

بقلم
د.عماد هميسي
أسلوب الحوار: الواقع والأهميّة (2)
 المسألة الثّانية: التّطبّع بثقافة الحوار‏
يعتبر مفهوم الحوار من المفاهيم الأكثر رقيّا في التّعامل بين البشر، فمنذ اللّحظة الأولى ‏للتّكوين الإنساني كان الله تعالى يكرّس هذه القيمة الجماليّة الّتي يمكن أن يكون لها أثر ‏واضح وجليّ في تدعيم الحياة بين البشر. والحوار في حدّ ذاته ليس قصرا على الفرد بعينه ‏بل يمكن أن يتعدّى ليصبح حوارا بين الأمم. وعليه فالحوار البنّاء والهادف هو المليء ‏بالفهم للآخر والاحترام لآداب التّداول المعرفي والتّناول الموضوعي للمواضيع ‏المطروحة، فيكون بذلك مقياسا لرقيّ المتحاورين، وحرصهم الصاّدق للوصول إلى الحقيقة ‏المجرّدة عن الغموض والتّزييف. وبالتّالي فإنّ سمات المتحاورين وطريقة تفكيرهم تبدو ‏أكثر جلاء ووضوحا عند احتدام النّقاش ووصول الطّرفين إلى نقطة الخلاف الّتي يدور ‏الحوار حولها. وهنا تتبلور الشّخصيّات المتحاورة ما بين محاور واثق من رأيه وواضح ‏الفكرة بليغ العبارة، حريص على إيصال الفكرة إلى الآخر، وما بين داخل إلى حلبة صراع ‏يحسب أنّ آراءه لا بدّ لها من صوت هادر وكلمة نابيّة وإرغاء وإزباد وشتم واحتقار ‏للآراء المعاديّة، حتّى تصل إلى الأسماع،  وتملأ الأذهان. وما بين مبيّن لأفكار ليست له، ‏مناد على بضاعة غيره، يتّخذ من النّفاق والتّزيّن والخداع والمظهر البرّاق للكلمات ‏مدخلا للحوار الأجوف، الّذي لا يشعره هو نفسه بصدق فكرته ولا بنبل هدفه، وما بين ‏محبّ لفكرة سامية، مشفق على مصيرها، ساع إلى إيصالها لغيره، حريص على إظهارها. و‏لأنّ الإنسان هو النّاطق الوحيد بين باقي الكائنات، فإنّ اللّغة هي الوسيلة الأمثل لديه في ‏التّعبير والبيان. و بما أنّ اللّغة مليئة بالمفردات المصنّفة ما بين لغة راقية إنسانيّة اللّهجة، ‏نديّة التّعابير، سهلة الاستيعاب، وما بين لغة سوقيّة المفردات، همجيّة المعاني، استبدادية ‏الإقناع، يقول للآخر: «ما أريك إلاّ ما رأى»، وأنت مخطئ مرفوض  الرأي، منبوذ ‏الفكر. وهكذا يفقد الحوار نكهة الرقيّ وإمكانيّة الاستمرار، وبالتّالي تعطّل اللّقاءات ‏الحواريّة المتحاربة على شفا الإصطدام المدمّر لآخر خيط من خيوط التّفاهم والتّواصل ‏وتلاقي الأفكار المبدعة، وتآخي النّقاط الجامعة لكلّ الأطراف على هدف واحد ألا وهو ‏الوصول إلى الحقيقة.‏
لقد ذكر لنا القرآن الكريم الكثير من الحوارات التّي دارت بين متحاورين مختلفي الأفكار والمعتقدات والأهداف والغايات و حمل كلّ حوار روحاً خاصّة به، فيها معانيه، ‏ومنطقيّته عند هذا الطّرف أو ذاك [1].‏ ولنبدأ من تلك المحاورة بين الخالق العظيم، وملائكته الأبرار.‏
يقول الله تعالى : «وَّ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّى جَاعِلٌ فِى الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن ‏يُّفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَآء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ، قَالَ إِنِّىَ أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ» [2] ‎‏ ‏ ‏. ‏
لقد جاءت الفكرة واضحةً كلّ الوضوح، والغاية منها لا لبس فيها ولا احتمالات، فالله ‏تعالى يضرب الأمثال، ويعلّمنا أنّ الأمور كلّها فيها تحاور، وأنّ كلّ الآراء قابلة للاستفسار. ‏فإذا كان الله تعالى قدّم الدّليل للمتسائل، وطالبنا بالبحث عن أدّلة وجوده، وحكمته ‏سبحانه وتعالى، وهو العليّ العظيم الحكيم، الّذي أمره كن فيكون، فنحن البشر الضّعفاء ‏القابلين للخطأ والصّواب والضّعف والتغيّر والجور وقصور الإدراك، حريّ بنا أن ‏نتحاور ونقدّم الأدلّة، ونرتقي بأسلوب الطّرح، و نعذر بعضنا بعضاً في الاختلاف، ونأخذ ‏بأسباب نجاح الحوار، ونقبل حجّة غيرنا إذا كانت أصحّ، ونوسّع صدورنا ‏للآراء التّي تحمل أوجهاً عديدة [3] ‎‏ ‏. ‏
إنّ ما أودّ قوله لكلّ من يؤمن بالحوار كوسيلةٍ لإثراء التّجربة الإنسانيّة، وكوسيلةٍ ‏للإصلاح، وكرافدٍ حضاري لمسيرة المجتمعات، وكمغيّرٍ إيجابي لوجه البشريّة الحزين، وكشراكة إنسانيّة مخلصة تسعى لإيصال فكرةٍ طيّبة للآخر، أيّها المتحاورون، الفكرة الواحدة تحتاج إلى دليل، والدّليل يحتاج إلى منطق، والمنطق يحتاج إلى إيمان صادق بأحقّيته، وتاج هذا كلّه الأدب المنبثق من انسانيّتنا، ومن الاحترام المتولّد عن شعورنا بكرامتنا، و‏المحبّة للإنسان كمخلوق يحرص على أن يلقى الله تعالى على الحقّ والنّور. فالآخر لديه ‏رأي ولديه تصوّر وعنده مبرّرات مثلك تماماً، فإذا أردت إقناعه برأيك، فكن مقتنعاً بما ‏تقول، واعتنق واحترم فكرك وقدّمه في أجمل حلّة وأبسط مقولة وأدقّ تعبير، و‏ليشعر الآخر أنّك حقّاً تحبّ له ما تحبّ لنفسك، و تعطيه من الإصغاء والإنصاف ما ‏تتمنّى أن يعطيك. لقد أكل الدّهر وشرب على مقولة « نحن على صواب مطلق والآخر على ‏خطأ مطلق « لأنّها مقولة تعقّد مسارات الحوار، فضلاً عن أنها لا تملك واقعيّة في كثير من ‏المجالات، فإلغاء الآخر يضع الحوار أمام أبواب مغلقة، وأمام تعقيدات صعبة، بل أمام ‏بدايات متشنّجة. لذلك نرى القرآن الكريم يضع المتحاورين في صفّ واحدٍ مهما كانت ‏القناعات، إذ الحقيقة ليست ملكاً لهذا الطّرف أو ذلك، والأطراف كلّها تشترك في رحلة ‏البحث عن الحقيقة. فربّما يكون أحد الأطراف واثقاً كلّ الوثوق أنّه يملكها، إلاّ أنّ منهج ‏الحوار الموضوعي يفرض عليه أن يعتبر نفسه باحثاً عن الحقيقة ومتعاوناً مع الآخر في ‏الوصول إليها‎.‎‏ ‏جاء في القرآن الكريم على لسان الرّسول صلّى الله عليه وسلّم وهو يحاور المشركين: «... ‏وَإِنَّا‎ ‎أَوْ‎ ‎إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى‎ ‎أَوْ فى‎ ‎ضَلالٍ مُّبِينٍ» [4]‏.‏
فلم يكن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم شّاكاً وهو الّذي جاء بالحقّ وصدّق به، وكان واثقاً كلّ ‏الوثوق أنّه يملك الحقيقة كلّ الحقيقة ويملك الهدى كلّ الهدى، والآخر لا يملك إلاّ الضّلال، ‏ولكن منهج الحوار يفرض عليه أن يحرّك أجواء الحوار في خطّ الحياة الفكريّة واعتبر ‏نفسه لا يملك رأياً مسبقاً، ولم يدّع أنّه على هدى والآخر على ضلال، بل يساوي بينه و‏بين الآخر في فرضيّة الصّواب والخطأ، وفي فرضيّة الهدى والضّلال. وهذا لعمري ‏لأرقى أسلوب في الحوار. فإذا كان أحدث ما وصلت إليه أساليب الحوار القاعدة التّي  تقول :«رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصّواب» فإنّ الطّرح القرآني، ‏والنّهج القرآني قد تجاوز هذه القاعدة بمسافات كبيرة جدّاً، وقدّم صيغةً تمثّل القيمة في ‏حياديّة الحوار، وذلك من خلال القول بأنّ رأيي ورأي غيري يحتمل الصّواب والخطأ في ‏درجة واحدة، فأيّ حياديّة أرقى من هذه الحياديّة، وأيّ منهج حواري أرقى من هذا المنهج. ولا شكّ أنّ هذا الأسلوب المتقدّم جدّاً له معطياته الكبيرة في مسارات الحوار. هذا الأسلوب ‏يجتذب الآخر إلى أجواء الحوار ويخفّف من حساسياته الفكريّة أو المذهبيّة أو السّيــاسيّة ‏‏... ويفتحه على أفكارنا ويدفعه للتّأمل والتّفكير بهدوء ورويّة.‏
بل أكثر من ذلك يعطي الحوار بهذه الكيفيّة، الاختلاف بعداً انسانيّاً يضعه في شكله الطّبيعي ‏ولا يسمح له بالتّحوّل إلى طاقةٍ تدميريّة، بل أنّه يخفـّض من مستوى سلبيّات الاختلاف و‏يرفع من مستوى إيجابيّاته، ليكون في هذا الإطار رحمةً وخيراً ودافعاً للإصلاح و‏المراجعة المستمرّة. كما أنّ البعد يمنح الحوار مضموناً مصيريّاً وموقعا مهمّا في استمرار ‏الحياة بطعمها المستقرّ، ويبقى الجنس البشري بمستوى ما حباه الله تعالى من عقلٍ وقدرةٍ ‏على التفكّر والاختيار.‏
إنّ الحوار أداة للكشف عن الحقائق والأشياء الخفيّة، ومن خلاله تتمّ الإجابة عن كثيرٍ من ‏علامات الاستفهام، والإشكاليّات العالقة في الذّهن أو تزيد من القناعات الذّاتيّة، كما يمكن من ‏خلاله كشف الباطل ودحضه، وكشف مؤامرات بطلأنه و دلائله. و بشكلٍ مجمل، فهو ‏ينضج الأفكار، والقرارات، أي أنّه ينمّي الأفكار ويعقّمها، ويشذّ بها عمّا علق بها من ‏انحراف أو جمود أو شوائب، ويحرّك العقل باتّجاه الإبداع والتّجديد والتّحرّر ‏في الحدود التّي تفرضها مرجعيّة الاختلاف [5] ‎‏ ‏.
المسألة الثاّلثة: الحوار منهج ربّاني‏
لقد عنى القرآن الكريم عنايةً بالغةً بالحوار، وذلك لا غرابة فيه أبداً، فالحوار هو الطّريقة ‏الأمثل للإقناع ، وهو حاجةً مستمرّة وضرورة حضاريّة  لبناء المجتمع  وتطوّره والارتقاء به، لأنّ أيّ مجتمعٍ انساني يتألّف من أفراد ومن مجموعات مختلفة ‏المشارب والأذواق وطرق التّفكير والنّظر والتّأمّل في الأمور. ومن ثمّ فإنّ الوسيلة ‏النّاجعة لتقريب هذه الأذواق بعضها لبعض وإيجاد أرضيّةٍ وقواعد مشتركة، يقف عليها ‏هؤلاء النّاس، وينطلقوا من خلالها هي وسيلة الحوار. ‏
ولمّا كان هذا المنهج أسلوبا من أساليب القرآن الكريم، بيّن لنا الله تعالى هذا المنهج من خلال ‏ذاته سبحانه، ليعلّم النّاس طريق الحقّ والخير، ويهديهم إلى الصّراط المستقيم، وليكون ‏منهجا في الحياة يتعلّمون منه ويتعاملون به. ولقد فصّل لنا القرآن الكريم الكثير من ‏المحاورات الّتي تواجه فيها الفكر السّليم والحجّة والبرهان الجلي والعلم العزيز و‏المنطق السّديد مع الجهل والتّحايل والتّشنّج والعدوانيّة الفكريّة والنّظرة المتعالية لكلّ ‏مخالف، والأسلوب المتّهم غير المؤيّد، كحوار موسى عليه السّلام مع فرعون، وحوار ‏رجلي سورة الكهف، وما بين الظّالم و المظلوم كابني آدم عليه السّلام الشّهيد، و‏القاتل. ولأنّ الحوار على هذه الشّفافيّة، وهذه القيمة الجماليّة الّتي تلفّه، فإنّ الله تعالى يضع ‏لنا فلسفة الحوار مع الآخر حتّى ولو كان إبليس، فالله تعالى يمثّل الخير المطلق، وإبليس ‏ذروة الشرّ المطلق إلاّ أنّ الله سبحانه و تعالى سمح له بالحوار وبالسّؤال والجواب، ‏حينما أمره والملائكة بالسّجود لآدم.‏
يقول الله تعالى:«قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِى مِنْ نَّارٍ وَّخَلَقْتَهُ ‏مِنْ طِينٍ»[6] ‎.‎ فإبليس رفض السّجود لآدم، لكنّه لم يرفض فرصة الحوار مع الله تعالى، وقد عبّر عمّا في ‏نفسه، وقدّم طلبه إلى الله تعالى، وبعد أن قدّم طلبه عبّر عن خطّته: «قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِى ‏لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ‎ ‎‏»[7]‏ ‏‎.‎ يجيبه الله تعالى:«إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنْ اتّبعكَ مِنَ الْغَاوِينَ» [8] ‎‏ ‏‎.‎ 
حوار بين الله تعالى ربّ الكون وبين إبليس يعطينا فكرة أنّ المخلوق حتّى ولو كان متمرّدا ‏فإنّه لا يفقد فرصة الحوار مع خالقه، الّذي يعطيه فرصة ليتحدّث عمّا في نفسه كما يجيبه ‏على ما يحتاج إليه. الاستنتاج الثاني هو أنّه ليس هناك شخص ‏مرفوض في الحوار، فإمكانك أن تحاور أي انسان مهما كانت درجة انحرافه الإنساني و‏الدّيني والاجتماعي. الأمر الثّالث الّذي يجب أنّ يعلمه النّاس أنّ الطّريق للإصلاح وإحقاقه ‏لا يكون بالقوّة وإنّما عن طريق الحوار العقلاني البنّاء مهما كانت طبيعة الخلاف. ومن ثمّ ‏فإنّ الحوار من المسائل المهمّة في المنطق القرآني كأسلوب متحرّك عملي في الوصول إلى ‏الحقيقة، وفي حركة الصّراع في القضايا الفكريّة والسيّاسيّة والاجتماعيّة، لأنّه ‏الوسيلة المثلى الّتي يعبّر بها الإنسان عن فكره بطريقة خاصّة سواء كان بالرّفض أو ‏الإيجاب أو قبوله لأفكار الآخرين [9] ‎‏ ‏.‏
أمّا محاورته تعالى مع ملائكته، فهي تختلف عن سائر المحاورات القرآنيّة الأخرى، إذ هي ‏نموذج أعلى للإرشاد والقدرة والتّوجيه حيث جعل الله تعالى من ذاته معلّما ومثالا أعلى ‏يقتدى به في مثل هذه المحاورة، ويقول الله تعالى: « وَّإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّى جَاعِلٌ فِى ‏الْأَرْضِ خَلِيفَةً...» [10] ‎
ففي هذه المحاورة بيّن الله تعالى وملائكته نوعا من التّخيّل وذلك بإبراز المعاني المنقولة ‏بالصّور المحسوسة تقريبا للأذهان. وقد يتبادر إلى ذهن القارئ والسّامع لهذه الآيات انه ‏ثمّة معارضة من الملائكة لله تعالى على خلقه وقراراته والواقع ليس كذلك، بل هو مجرّد ‏اختلاف في الرّأي مع الله سبحانه وتعالى، وما كان لهم أن يضعوا أنفسهم في هذا الموقف ‏مع الخالق سبحانه، ولكنّ الله تعالى وضعهم فيه ليعطي من خلالهم لمخلوقاته دروسا في ‏التّشاور، وأن لا يضيق الإنسان بالرّأي المخالف، بل ينبغي أن يتّسع صدره، وعقله ‏لاستيعاب ما يوجّه إليه من تساؤلات، وألاّ يعالج هذا الخلاف بمنطق الغضب ولا بمنطق ‏السّلطة والقوّة في حواره معه، بل يجب أن يكفل لكلّ ذي رأي مخالف حرّيته، ثمّ يعتمد على ‏الحجّة والمنطق حتّى يتّضح الحقّ، فيرجّح المجانب عن رأيه. وفي هذا المجال لا بدّ من ‏الإشارة إلى أنّ القول بأنّ التّنوّع والتّعدّديّة لا يعنيان الفوضى أو غياب النّاظم في عمليّة ‏التّنافس الاجتماعي والحضاري، وإنّما النّاظم الّذي يضبط حركة التّنوّع في المجتمع هو ‏ناظم سيادة القيم الّتي تشكّل المرجعيّة العليا في المجتمع بأسره. ولذلك فالتّنوّع في حقيقته و‏جوهره هو خلق بيئة ومناخ يدفعان كلّ مواطن وإنسان إلى المشاركة الفعّالة في بناء ‏الوطن وتعزيز قدراته المختلفة.‏ ولذلك قال الله تعالى:«قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِىَ أَدْعُو إِلَى اللَّهِ  عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتّبعنِى  ‏وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ» [11] ‎‏ ‏ ‎.‎
وكذلك في حوار الله تعالى مع كثير من الأنبياء والرّسل عليهم السّلام، درس ثالث من ‏الدّروس الإلاهيّة العظيمة، فهي حوارات تمثّل موكب الإيمان في طريق التّواصل الطّويل و‏تعرض قصّة الدّعوة إلى الله تعالى،  واستجابة البشريّة لها جيلا بعد جيل. كما أنّ فيها ‏توضيح للمواقف وجلاء للحقائق وهداية للعقل وتحريك للوجدان واستجاشة للضّمير، ‏وفتح للمسالك الّتي تؤدّي إلى حسن التّلقّي والتّدرّج بالحجّة احتراما لكرامة الإنسان و‏إعلاء لشأن عقله الّذي ينبغي أن يقتنع على بيّنة ونور.‏
إنّ استلهام المنهج القرآني في الحوار يفضي إلى درء جملة من الآفات كالعنف، و‏الجمود والانغلاق، كما يعمل الحوار على ترسيخ ثقافة السّلام بدل الحرب والتّسامح بدل ‏التّعصّب، ويساهم في بناء مجتمع إسلامي منفتح على الآخر ويساعد على الإبداع و‏الاجتهاد بدل الاستهلاك والتّقليد والتّبعيّة. ويتجلّى الأدب باحترام إنسانيّة الطّرف ‏المحاور واستماع رأيه دون تسفيه أو تحقير، وإعطائه الفرصة كاملة لعرض الفكرة و‏شرح الرّأي. وهذا ما كان يفعله النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في سياسة المفاوضات ودوننا أمثلة كثيرة من السّيرة النّبويّة على هذا، نستشهد بحادثة: فقد استمع صلّى الله عليه وسلّم ‏إلى عمّه أبي طالب في عرض موقف المشركين بإنصات وأدب حتّى فرغ من عرضه قدّم ‏رأيه بأدب وثبات وحجّة [12] ‎‏ ‏.‏
الهوامش
[1] ‎‏ اُنظر صالح بن عبد الله بن حميد: «أصول الحوار وآدابه في الإسلام»، موقع صيد الفوائدhtt//saaid.net -‎‏- واُنظر أحمد صمّادي: «أدب الحوار و‏الخلاف في الشّريعة الإسلاميّة»، مجلّة الدّراسات،عدد1، ص118 واُنظر محمّد المهدي: «الحوار الإيجابي ودوره في الحدّ من العنف»، بحث على ‏الانترنات ‏www.wtc.com‏ 
‏[2] سورة البقرة، الآية 30.‏
[3] ‏ اُنظر الزّمخشري: «الكشّاف»، ص 538. واُنظر بسّام داود عجك: «الحوار الإسلامي المسيحي»، ص77.‏
[4] ‎ ‎‏ سورة سبأ، الآية 24.‏
[5] ‏ اُنظر محمّد السّماك: «مقدّمة إلى الحوار الإسلامي المسيحي»، دار النّفائس طبعة 1 ، 1418 هـ /1998 م- لبنان، ص13-14. واُنظر محمّد ‏الحدّاد: «الإسلام: نزوات العنف واستراتيجيّات الإصلاح»، دار الطّليعة طبعة 1، 1427هـ/2006م، بيروت لبنان من الصفحة 187 إلى 206.واُنظر مصطفى ‏السّادة: «نحن و الآخر: الانفتاح او التّعصّب»، مجلّة النبأ،عدد 48، 1400هـ/2000م، ص11.واُنظر «ضوابط النّقد البنّاء»،عدد52، 1400هـ/2000م، ص‏‏10.واُنظر مرتضى معاش: «التّواصل مع الآخر تأصيل لمنهجيّة التّعايش»،مجلّة النّبأ، عدد47، 1422هـ/2001م، ص1.‏
[6] ‎ ‎‏ سورة الأعراف، الآية 12.‏
‎ [7]‎‏ سورة الأعراف، الآية 16.‏
‎ [8]‎‏ سورة الحجر، الآية 42.‏
‎ [9]‎‏ اُنظر ابن كثير: «تفسير القرآن العظيم»، ج 2، ص231-232.واُنظر محمّد محفوظ: «الفكر الإسلامي المعاصر ورهانات المستقبل»، المركز الثّقافي ‏العربي، طبعة 1، 1420هـ/ 1999 م، بيروت لبنان ص22 وما بعدها.
‎ [10]‎‏ سورة البقرة، الآية 30.‏
[11] ‏ سورة يوسف، الآية 108.‏
‏[12] اُنظر ابن كثير: «تفسير القرآن العظيم»، ج2 ، ص477. واُنظر عصفور جابر: «هوامش على دفتر التّنوير»، المركز الثّقافي العربي والهيئة المصريّة ‏العامّة لقصور الثّقافة، طبعة1، 1415هـ/ 1994م  مصر، ص225. واُنظر صلاح عبد الفتّاح الخالدي: «القصص القرآني: عرض وقائع و‏تحليل أحداث»، دار القلم ودار الشّاميّة، طبعة 1، 1419 هـ /1989 م، بيروت دمشق،ص167 واُنظر ابن هشام: «السّيرة النّبويّة»، دار الكّتاب ‏العربي، طبعة 3، 1410 هـ/1990 م، 1/330.‏