في الصميم
بقلم |
لسعد الماجري |
النموذج النبوي أم عيد الميلاد؟ |
وهذا عيد ميلاد جديد يحلّ على الأمّة العربية والإسلامية، عيد ميلاد خير البشرية محمد بن عبد الله الهاشمي القرشي. فماذا أثّر فينا مقدمه وحلول بشائره من جديد علينا؟ وقد نتساءل أيضا ماذا أثّر علينا مجيئه سنوات عديدة تلت؟
الحقيقة أو الإجابة عن هذا التساؤل وغيره كثير نجدها في الوقائع التي أمام أعيننا دون تلفيق أو تنميق:
(1) ملامح الواقع كما قرأناها
إن كل متطلع إلى حال الأمة العربية والإسلامية اليوم يرى بوضوح مدى التخلف في الفكر والممارسات – فليس هذا حال المسلمين الطبيعي – فلقد عرف المسلمون في تاريخهم عصورا راقية من الحضارة والتنوع، أمّا اليوم فالمسلمون مشتتون متصارعون وضعفاء. والغرب الأوروبي والأمريكي بتحالف مع قوى أخرى طامعة له مصلحة واضحة في تواصل تخلف هذه الأمّة وتمزيق أوصالها. ونؤكّد على أنّ هذه الأمّة وهنت بشكل كبير ليس بعده وهن وتسارع الآخرون إلى التهام ما تبقى فيها من ثروات ومن مصادر طاقة. ثم إنّ العرب والمسلمين لم يقوموا بأيّ جهد لنهضة شاملة وأجهضت أي محاولة جادّة للنّهضة والرّقي وترسيخ الحريّات – وتلاشى أمل هذه الأمّة في النّهوض من جديد إلاّ من بوادر بعض الإشارات المقاومة التي ما انقطعت هنا وهناك في فلسطين والعراق ولبنان...الخ حتّى أنّ الثورات الأخيرة من الرّبيع العربي لم تؤت أكلها كما كان منتظرا منها ووقع استثمار البعض منها من القوى المعادية للأمّة. هذا الربيع العربي بدأنا نفهم يوما بعد يوم أنّه ليس كما كنا نأمل، فهو لا يرتقي إلى مستوى الثورات التي ينتظر منها التغيير الجذري للعقليات والقضاء نهائيا على مظاهر الاٍستبداد والنهوض والتنمية. فنرى في مجمل البلدان التي عرفت ربيعا عربيا كتونس ومصر وبعدها بشكل مختلف ليبيا واليمن ثم سوريا... لم تنجح نجاحا واضحا في رسم خطية ثوريّة كالقطع مع النّظام القديم والاستقلال عن النّظام العالمي اقتصاديّا واجتماعيّا وإنّما كانت الثورة في هذه البلدان مجرّد انتفاضة للشّعب على الظّلم والقهر المسلّط عليه دون طرح بدائل ثوريّة ترتقي إلى المستوى المطلوب وما زال في هذه البلدان يرتع المستبدون وبقايا النظام القديم. ثم برزت مظاهر جديدة في المجتمع مثل الفوضى العامّة والعنف السّياسي والدّيني والمذهبي. وأصبح لا يخفى على أحد ارتباط بعض التيارات السياسية أو المتديّنة ببعض الدول الإقليمية حيث تحصل منها على الدعم المالي والإعلامي واللوجيستي كما حصل في سوريا، حيث ينكشف يوما بعد يوم دعم بعض الدّول العربية للمحاربين المسلّحين اللذين يصنفون كسلفيّة مجاهدة ترى في نفسها الحلّ الأمثل لمشكلات الشّعوب العربية والتي يتلخّص فكرها المتساهل والمتهافت على أنّ الحل في الإسلام وأنّ القرآن دستور وتطبيق الشّريعة حلّ أمثل وسريعا ما ابتدؤُوا في تكفير الآخرين من الناس وانطلقوا في فرض أنفسهم بالقوة واتخذوا لأنفسهم شكلا غاب عنه المعنى فحضرت اللحية الطويلة والنقاب واللباس الأفغاني والقمصان المتدلية ...الخ. وغاب عن هؤلاء أن الحلّ ليس في اللّباس وليس في الاٍرتماء في أحضان الإسلام والقول بأنّ القرآن هو الدستور أو الشريعة قانونا وإنّما كان عليهم أن يبرزوا للمجتمع رؤى علمية واضحة في الاستنباط من القرآن واستحضار النموذج النّبوي لاستلهام ما يصلح للمجتمع المعاصر دون السقوط في الاٍختزال. وكان أجدى بهم أن يتصالحوا مع مجتمعاتهم عوض تخويفها والتناقض معها وكان أحرى بهم تقديم فهم مقاصدي للشريعة عوضا عن التلويح بأعلام سوداء تحمل راية الرسول محمد صلى الله عليه وسلم. وكان عليهم الاٍنكباب على دراسة القرآن وتتبع المنهج النبوي الفريد من أجل بلورة رؤى معاصرة بدلا عن الأخذ مباشرة عن مشائخ القنوات الفضائية اللذين يقولون ما لا يفعلون ويحرضون الشباب على الثورة وفي بلدانهم الغير ديمقراطية لا يخرجون ولا يثورون. وبات واضحا أن هؤلاء الشباب مما يحسب على السّلفية شباب بسيط متحمس للدّين باحث عن الهويّة عطوف على دينه ولكن هذا غير كاف لبناء الحضارات وتشييد المدنية، فتراهم يخرجون في الشوارع والساحات كرد فعل على الأفلام أو الرسوم المسيئة للنبي الكريم عليه أفضل الصلوات وأزكى التسليم كما حصل في الاٍعتداء على السفارات الأمريكية في المنطقة أو ضد الفنانين أو المبدعين وأصبح استفزازهم سهلا ورد فعلهم معروفا مسبقا وسهل على أعداء الثورة إجهاض الثورة باستخدام هؤلاء دون أن يعلموا في إثارة العنف والفوضى في البلاد وبين العباد.
(2) ملامح النموذج النبوي
اٍن المتأمل في شخصية النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه يلحظ مباشرة الكثير من الخاصيات التي غابت بشدة أيامنا هذه نلخّصها في ما يلي :
أ. الحكمة والرّشاد: كان سلوك نبينا الكريم أكثر ما يتصف بالحكمة وسداد النظر فكانت مواقفه تأخذ عن تفكير وتدقيق نظر تراعى فيها كل الجوانب ولا يقع الاستسهال في أخذها دون دراسة كل جوانبها. فهو صلى الله عليه وسلم كان ينظر للأشياء والوضعيات المختلفة التي تحصل زمنه بنظرة ثاقبة لا يقدّم فيها جانب عن آخر ولا زاوية عن أخرى واٍنّما تراعى فيها كل الحيثيات وهذا سلوك الحكماء فالرسول ليس مفكرا ولكن حكيما ومن أوتي الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا. فنراه في أكثر من مناسبة يتصرّف على هذا الأساس مثلا في حادثة الأعرابي الذي شوهد يتبوّل في أحد أرجاء المسجد بحضوره وكذلك حادثة صلح الحديبية وقرار الدعوة السرية ثم الجهر بالدعوة ثم الهجرة النبوية ثم حادثة اختيار مكان بناء المسجد في المدينة والاحتكام إلى المكان الذي سيرابط به الجمل وكذلك في مؤاخاته بين المهاجرين والأنصار لتقاسم كل شيء. نفس التمشّي نراه بوضوح في استراتيجيا تعامله مع أهل الكتاب من يهود ونصارى خاصة في المدينة مع اليهود.
ب. بعد النّظر: وهذه الصفة مرتبطة بسابقتها فالذي يكتسب الحكمة هو من له بعد النظر فلا ينظر فقط إلى مستوى قدميه وإنما ينظر إلى أبعد من ذلك و النبي الكريم كانت أهم خصائصه عدم التسرّع والتروّي الشديدين. فهو لا يسارع في الموقف وإنما يمرّره قبل ذلك على مستويات متعدّدة من التصفية والانتقاء كي يبني في النهاية التصرّف الأمثل في الوضعية المطروحة أي يبحث دائما عن أحسن الأداء في المشكلات التي تعترضه. نرى ذلك جليّا في بحثه عن أناس آخرين من قرى مجاورة لنصرة الدين الجديد ونجاحه في اٍنجاز البيعة. ثم يظهر ذلك في إرساله أصحابه أول هجرة إلى الحبشة والتي يعلم أنّ فيها ملكا نصرانيا عادلا يميل إلى فكرة التوحيد. ونراه أيضا يتّصف ببعد النّظر عندما أمر الرّماة الخمسين اللذين اختارهم على ملازمة أماكنهم فوق جبل الرماة في غزوة أحد مهما حدث وأمّر عليهم عبد الله ابن جبير ونعلم كيف أن أربعين منهم سارعوا إلى النزول وترك مواقعهم سعيا وراء الغنائم حالما رأوا تقهقر جيش الأعداء وهروبه ولكن استطاع خالد ابن الوليد الذي كان حينئذ على رأس كتيبة وراء جبل أحد أن يقوم بمناورة ناجحة فقتل العشرة من الرماة اللذين التزموا بالأمر النبوي ومنهم ابن جبير كبّدت المسلمين خسارة كبيرة كمقتل حمزة عم النبي والتمثيل بجثته.
ت. اللطف واللين : كان الرسول الحبيب إلى قلوبنا ليّنا لطيفا في خطابه كما في ممارساته ومواقفه فهو طيب القلب لطيف بعباد الرحمان يخاف الله الكبير المتعال في كل شاردة وواردة لا يغلظ على قومه من أتباعه ولا غير أتباعه. فهو يرأف بالناس وكان دائم القول إنما بعثت مبشّرا لا منفّرا. فهو يدعو إلى السعادة في الدارين فلماذا يضطر من يدعو الناس إلى السعادة إلى أن يتجّهم وجهه تجاههم أو أن يعاملهم بقسوة في الخطاب أو السلوك ! «ولو كنت فضا غليظ القلب لانفضوا من حولك فأعفوا عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر». نرى ذلك جليّا في موقفه عندما همّ يهودي أقرض الرسول مالا بالتهجّم على الرّسول وبصحبته عمر بن الخطاب وكيف أنّ عمرا أخذ بتلابيب اليهودي وكاد يضربه لولا تدخّل الرّسول وعدم رضاه عن تصرف عمر وأجزل في قضاء الدّين لليهودي محاولة منه للتّخفيف عنه من روع التّصرف العمري.
ث. الصبر والمكابدة : اتصف الرسول الحبيب إلى قلوبنا أيضا بالصبر ومكابدة المشقات وعدم الخنوع للملمّات فقد تحمّل ما لا تقوى عليه الأنفس والأرواح. فقد عاش يتيم الأب والأم إلا من عم وجد كفلاه على مراحل. ثم اٍنه تحمّل مصاعب الحياة فتيّا واجتهد في كسب رزقه حلالا صافيا. وقد تحمّل عملية تصفيته الملائكية من الأدران ومضغة الشرور. وتحمّل بعد ذلك تجربة الوحي الشاقة التي تنوء عن حملها الجبال وحملها الإنسان اٍنّه كان ظلوما جهولا: تجربة «دثريني دثريني». ثم تحمّل أذى قريش و تجربة الحصار الاقتصادي ثم المهمة الشاقة في الطائف أين ضرب بالحجارة واستهزئ منه أيّما استهزاء ثم نجح في تجربة الخوف من الاغتيال في مكة ونجاته عبر نجاح هجرته بعد أن هاجر كل أصحابه وبقائه هو وحده في انتظار مصيره على أيدي خبثاء مكة.
ج. المعاشرة الطيبة: من صفات الحبيب المصطفى حسن معاشرته لزوجاته رغم تعدّدهم ولأصحابه رغم اختلاف أمزجتهم فمنهم الصلب واللين ومنهم اللطيف والعسير ومنهم الغني والفقير ومنهم الأبيض والأسود وكذلك معاشرته لمن يشتركون معه في الموطن ومنهم المسلم والكافر ومنهم المؤمن والمنافق والنصراني واليهودي ...الخ كان حلو المعشر كما قالت زوجته الفتية عائشة رضي الله عنها.
ح. الاعتدال في المواقف: كان الرسول محمد صلى الله عليه وسلّم متّزنا في مواقفه غير أعرج ميّالا إلى أخذ الأشياء من الوسط أو كما يقول : «لا تكن لينا فتعصر ولا صلبا فتكسر» وكان يقول «اٍنّما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» وبذلك لم يسارع في نفي ما قبله كي يثبت وجوده ولكن كان بنّاء على مكارم الأخلاق التي وجد شيء منها من قبله عند العرب. لم يقل أنه سيقضي على كل ما سبق وأن يبني على الأنقاض وإنما يعيد صياغة الخير على أسس أكثر متانة. نرى سلوكه المعتدل عند فتح مكّة فلم يتشفّ في قومه رغم سوء المعاملة والطرد من الموطن وافتكاك الأموال والأملاك والاعتداء على الأرض والعرض. وإنّما تنادى بأنّ من دخل دار أبي سفيان عدوّه اللّدود فهو آمن.
المجال يضيق هنا عن ذكر كلّ محاسنه أو كما قال الشاعر البوصيري في كتابه: «محمد سيد الكونين والثقلين والفريقين من عرب ومن عجم.....» فهلاّ تعلّمنا شيئا من سيره المتعدّدة عوض المسارعة في كل عام على التركيز على العصائد والشهوات ونكران الصفات والسلوكيات.
-------
أستاذ جامعي
mejrilassad@yahoo.fr |