من الأعماق

بقلم
يسري بوعوينة
سوريا...المهمة الأولى
 بثّت قناة الجزيرة الفضائيّة مساء الأحد الموافق لـ 18 جانفي 2015 تحقيقا بعنوان المهمّة الأخيرة للمصوّر الصّحفي العراقي الشهيد «ياسر الجميلي». البرنامج كان عبارة عن تحقيق حول الجماعات الجهاديّة في سوريا و قد دام التّصوير 13 يوما إنتهت بمقتل المصوّر «ياسر الجميلي» على يد ميليشيات إسلاميّة مسلّحة والدوافع مازالت مجهولة.
لست هنا لأضيف سطرا جديدا إلى المراثي التي تقال على سوريا التي تتداعى عليها الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها..لست هنا لأبكي دمشق وحلب وحمص وغيرها من المدن السّوريّة التي أضحت خرابا ومدن أشباح... أريد أن أقدّم لمسة وفاء للشّهيد «ياسر الجميلي» لأنّه فتح عيني بشجاعته وجرأته على الواقع السّوري كما هو بدون «رتوش» أو مساحيق تجميل زائفة....لم أستطع ليلتها النّوم..حزنت للنّهاية المأساويّة للصّحفي ولكني أيضا ولأول مرّة خفت بشدّة...خوفي لم يكن من عصابة إجراميّة تقطر أياديها بدماء الأبرياء...لقد خفت من الإسلام وعلى الإسلام حينما يصبح سلاحا للدّمار الشّامل وإيديولوجيا لتبرير القتل والذبح والخراب وسفك الدّماء. 
طوال رحلته السّورية مع مختلف الفصائل المتحاربة سواء «لواء التوحيد» أو «تنظيم الدولة الإسلامية» أو «جبهة النصرة» أو «الجيش السوري الحرّ»..لم نر سوى عصابات مسلّحة وأعين تتطاير بالشّر والرّغبة الجامحة في القتل وسط أناس هم أشبه بالرّهائن وحيث الخوف من المجهول يملأ المكان...حاول شباب «جبهة النصرة» إعطاء صورة مغايرة عن تلك التي تقدّمها وسائل الإعلام عن تنظيم القاعدة حيث نظّموا مقابلة في كرة القدم (و معلوم أنّ تنظيم الدّولة الإسلاميّة يحرّم كرة القدم و يعدم من يشاهدها)، كما حرصوا على تقديم القهوة السّاخنة وإبداء حسن الضّيافة...كل ما سعوا إلى إبرازه يسقط أمام منظر الخراب حول أولئك الشّباب في مكان موحش ومقفر..يحاربون من أجل ماذا ولإعلاء راية ماذا؟ وحده الله ومن دفعهم إلى ذلك المكان يعرفون الجواب، أما هؤلاء الشّباب فأكاد أجزم أنّهم حتى هم يجهلون سبب تواجدهم هناك، فهم  فليسوا سوى وقود الحرب وقد جاؤوا للموت الذي سينال منهم عاجلا أم آجلا.
أكثر الأماكن خطرا هي طبعا التي يسيطر عليها «تنظيم الدولة الإسلامية في العراق و الشام» وهناك قتل الصّحفي «ياسر الجميلي»...في تلك الأماكن لمست شراسة وغلظة المقاتلين وفي تلك الأماكن تعرف في وجوه النّاس الخوف والحزن...لم يثر النّاس في سوريا ليستبدلوا «حزب البعث» بأشرّ منه «تنظيم داعش»..لم يثوروا لتدخل دمشق دار الإيمان لأنّه من تلك المدينة سطعت أنوار العلم والدّين وسيوف الفاتحين...لا ينقص أهل الشّام الإيمان حتّى يأتيهم من تونس وليبيا والسعودية وغيرها، أقزام أمعائهم مازلت لم تجف من أنواع الخمور وألسنتهم نتنة من الكذب ليحملوا راية الدّعوة إلى أهل الشّام... هؤلاء الأقزام المبرمجة على القتل هم من يذلّون الشّعب السّوري ويخربون الأوطان ويشيعون الخراب والدّمار حيثما حلّوا..في أفغانستان والصومال والعراق واليمن وليبيا..حيث ما أطلّت رؤوسهم أطلّت معهم الفتنة. «دولة الإسلام في العراق والشام» ليست ولن تكون يوما دولة الإسلام إن كان لا بدّ للإسلام من دولة...إنّ أول تعريف تعلّمته للمسلم هو أنّه من سلم الناس من يده ولسانه...هو من يترك الصّلاة في المسجد حتى لا يؤذي غيره بالرّائحة إن أكل ثوما أو بصلا..هو الذي لا يزال في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما..أين كلّ هذا من أفعال مجرمي داعش؟ الذين يقتلون على الشبهة وأحيانا للتّسلية ودائما بالباطل...أين داعش من حفظ النفس والأعراض وهي تستبيح دماء وأعراض النّاس دون تفرقة ولعل المسلمين هم أكثر من إكتووا بنارها، ألم تنصّ أحد الوثائق التي عثر عليها في العراق على إستراتيجيتهم وهي «رصاصة للصّليبيين وتسع رصاصات للمرتدّين» والمرتدّون يقصد بهم عامّة الناس مّمن يرفض منهجهم. أي عزّ لدولة الإسلام وزعيمها «البغدادي» مختف كالفئران من غار إلى سرداب، وأي نصر وأي عزّ لدولة الإسلام ومدنها لا تفوح منها سوى رائحة الموت والدماء وحيث النّاس خائفون والرجال مقتولون والنساء أيامى والأطفال أيتام...هل العزّ والنصر والتمكين للدّولة الإسلاميّة اختزل في سيارة مصفّحة ترفع راية سوداء وبعض المجرمين الملثّمين في مداخل المدن؟ أين نشر العدل وأين المعرفة وأين العلم؟ أين الصنائع وأين الإبداع؟ أين الحرية وأين الفكر؟ لا شيء ثم لا شيء...ومن بعد ذلك العدم....سوريا ليست دولة تحتضر ولكنها حضارة تلفظ أنفاسها....سوريا الجريحة تدعو الجميع وخاصة المسلمين للإنخراط في معركة أعظم من غزوة أحد..معركة يجب أن يدحر فيها خليط الجهل والتعصّب والإجرام المتلبّس بزي الإسلام...إنّها ليست معركة سلاح فقط...إنها معركة فكر وثقافة وقبل ذلك معركة ضمير...إنّها الحضارة في مواجهة التوحّش..التّسامح في مواجهة التعصّب...العلم في مواجهة الجهل...النّور في مواجهة السواد والظّلام...لا يجب أن تقود هذه المعركة أنظمة لا تتميّز عن «داعش» في شيء إلاّ أنها تقتل في السرّ و تعذّب في السرّ وتسجن في صمت...ليست الأردن ولا السّعودية ولا المغرب ولا الإمارات هي حاملة لواء الحرّية والحضارة...ليست هذه الدّول التي تطلق طائرتها لتقصف من الجوّ أماكن «يشتبه» فيها وجود متطرفين لتقتل مجرما واحدا ومعه غالبا مئات الأبرياء (لا عجب فدمائنا صارت رخيصة)، ليست هي من ستحقّق المبتغى...ليس بشار الأسد هو من سيقف في وجه الإعصار الجاهلي الجديد فبشّار نفسه إنتهى ولولا جرعات الأوكسيجين القادمة من إيران وحزب الله (الذي يدفع مقابل ذلك ثمنا غاليا) لكان مصيره أشنع من الزّعيم الليبي معمّر القذافي..إنّ المعركة الحقيقية يجب أن يخوضها الضمير..ليس الضمير الذي تألم لموت 12 شخصا في باريس ويغطّ في نوم عميق لمصير 200 تلميذة نيجيرية إختطفتها «بوكو حرام» و60 طفلا قتلوا في مدرسة بيشاور وأطفال غزة والأمثلة أكثر من أن أعدّدها وأنتم تعرفونها...هذا الضمير ذو الوجهين لا يصلح لهذه الحرب الحضاريّة...الضمير الإنساني واحد في أحزانه وواحد في أفراحه والبشرية كلها جسد واحد إن تألّم منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى...منظمات الإغاثة وجمعيات المجتمع المدني يجب أن تنطلق إلى مخيمات اللاجئين في لبنان والأردن وترابط هناك...يجب الإحاطة بأكثر من 4 ملايين لاجئ سوري...يجب مقاومة التّمويل الفكري للإرهاب والتأويل الإرهابي لنصوص الإسلام...يجب الكشف عن كل الخلايا التي تقوم بتجنيد الشّباب للسّفر إلى سوريا بداعي الجهاد...يجب أن تستيقظ ضمائرنا.. نحن الذين نعاني من السمنة وأطفال سوريا جياع...نحن الذين نبكي على ضياع العشيق وأطفال سوريا يبكون ضياع الأهل والوطن...نحن الذين نتأفف من لسعات البرد ونحن في بيوت دافئة آمنين وأطفال سوريا في العراء يواجهون البرد القارس والغربة...الثورة السورية لم تعد ملكا للسّوريين...الثورة السورية هي الآن ثورة حضاريّة عربية وإسلاميّة للقضاء على معاقل التطرّف والضّلال والتخريب التي تريد الإنطلاق من سوريا والتي وجبت مقاومتها على كل ذي نفس حرّ بيده ولسانه وماله وإلا فالخراب آت إلى كلّ الديار...
كانت تلك الرسالة الصامتة... للصحفي «ياسر الجميلي» رحمه الله...
-------
طالب مرحلة ثالثة في العلوم السياسية
yosri.bouaouina@gmail.com