نقاط على الحروف
بقلم |
لسعد الماجري |
المشروع الإسلامي وأزمة السياسة |
هدف هذا المقال هو محاولة نقد مشروع الإسلام السياسي والبحث عن تأسيس منحى ووجهــة جديدة ثقافية تجمــع كل من يؤمن بالمشروع الحضاري الإسلامي كحلّ لمعضلات هــذا العصــر، لا يختزل المشروع الإسلامي بطم طميمه في البعد السياسي ويكون ذا بعد تقدميّ لا رجعيّ.
اٍن مشروع الاٍسلام السياسي والذي ساد منذ ظهور حركة الاٍخوان المسلمين في مصر وبعض من الدول العربية الأخرى مثل سوريا والأردن والجزائر والمغرب وموريتانيا والسّودان وغيرها كثير مما أسمى نفسه تارة الاٍخوان المسلمين أو الاخوان الطلائع أو الشبيبة الاسلامية أو الجماعة الاسلامية وببعض الاختلاف ظهرت كذلك حركة الاتجاه الاسلامي في تونس والتي تطورت فيما بعد في شكل حركة النهضة. لعلّ مجمل هذه الحركات رغم اختلافاتها الفكرية والتنظيمية تشترك في جملة من الخصائص تجعلها في نفس التصنيف رغم أننا لا نحبذ عادة اٍصدار المواقف التجميعية ومبدأ التعميم لأنه يجهض الدراسة العلمية ويضفي عليها نوعا من المصادرة واستباق النتائج قبل البحث الرصين والمتزن.
واٍن اختلفت في الشكل التنظيمي وفي الممارسة السياسية اٍذ أن بعضها ارتمى في أحضان العنف وغيرها آمن بالعملية السياسية السلمية وانخرط في اللعبة الديمقراطية عندما سمح له ذلك، فاٍن مجمل هذه الحركات تتميّز بـ :
أ) الإيمان المسبق بأن الإسلام كدين يحمل في طياته الحل لمعضلات العصر وذلك دون الولوج بعمق إلى تبيان وتركيز ملامح رؤية واضحة المعالم لمظاهر هذا الحل ودون صياغة البدائل العملية للواقع المتخلف للأمم العربية والإسلامية. هذه الحركات لا نسمع منها إلا الدفاع عن الدين دون أن تنتج لنا روّادا ومفكرين أو باحثي اجتماع أو علماء مجددين وإنما اكتفت بإنتاج الدّعاة اٍلى الدين واٍلى الرّجوع اٍلى منهج السّلف. إذ لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها. وحتّى واٍن أنتجت في بعض الأحيان بعض المفكرين أمثال سيد قطب ومحمد قطب وأبي الأعلى المودودي ويوسف القرضاوي وغيرهم إلاّ أنهم لم يتميزوا كمفكرين مبدعين في مجتمعاتهم ولو يكونوا مقبولين من الجميع كروّاد لأن خطابهم كان في غالبيته حزبيّا سياسيّا دعويّا. في حين نجد أن رجالا قبلهم من اللذين تحدّثوا وكتبوا عن الإسلام وعن واقع المسلمين من رواد مدرسة الإصلاح أمثال جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا وعبد الرحمان الكواكبي وجدوا أكثر ترحيبا واعترافا بتميزهم مقارنة مع مفكري الإخوان.
ب) إن هذه الحركات ترى أن الحل الإسلامي الأمثل يكون انطلاقا من السياسة وأن التّغيير يكون فوقيّا أي أن التّغيير ينطلق من القمّة اٍلى القاعدة وليس العكس. فكان تفكيرهم هرميّا لا ينظر إلى الميكانيزمات الحقيقية للتغيير والتي ترى أن التغيير لا بدّ أن ينطلق من الناس أنفسهم ويتناسى هؤلاء الآية الكريمة التي تقول : «لا يغيّر الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم». وعليه فقد انطلقوا في مشروعهم إلى السعي إلى الحكم واٍلى إقامة ما أسموه «الدولة الإسلاميّة» وأصبحت حلمهم الذي يمثل مركز تصوراتهم للأشياء وللتغيير. وهنا اختلفوا قيما بينهم فمنهم من انخرط في اللّعبة الديمقراطية بأمل الوصول اٍلى سدّة الحكم ومنهم من كفر بالدّيمقراطية والتي حسب رأيهم مأتاها غربي وبالتالي رفضوها لأن كل ما هو متأتّي من الغرب مرفوض وهنا نرى بعض التميّز لحركة النهضة التونسية في هذا النسيج الحركي الإسلامي السياسي والتي آمنت بالديمقراطية بصورة أسرع من الحركات الإسلامية الأخرى رغم أنّها لم تستطع أن تؤسّس فكرا سياسيّا مدنيّا واضح المعالم والسبب حسب رأينا لهذا الاختلاف هو أن التطور في الذهنية التونسية عموما أثر في هذه الحركة فمنتموها تونسيون وهم بطبيعة الحال يتأثّرون بالمجتمع الذي يعيشون فيه والذي كان مجتمعا أكثر تطوّرا في الذهنية من المجتمعات الشرقية الأخرى والتونسيون متفتحون بطبيعتهم على منجزات الغرب ومقبلون عليها.
ت) رفض العلمانية واللائكية، حيث ترى أن الدّين والسّياسة متداخلان وكذلك الدّين والدولة. ورغم انخراط بعض هذه الحركات في العملية السّياسية وفي الممارسة الدّيمقراطية إلاّ أنها لم تستطع إلى حدّ الآن وحتى بعد ثورات الرّبيع العربي أن تقلع نهائيّا عن الفهم الدّيني الحرفي للسّياسة وللحكم ولم تؤسس بعد فهما مدنيّا للدّولة وأن تضع حدودا لما هو ديني وما هو مدني، فالدّين ليس بالضّرورة مناقضا للمدنيّة والعلمانيّة ليست دائما موجّهة ضد الدين.
ث) عدم امتلاك مشروع سياسي واضح المعالم للحكم، حيث تكتفي أغلب هذه الجماعات بإطلاق شعارات فضفاضة تنادي بالقرآن كدستور وبالشريعة كوسيلة حكم وبالحاكمية لله انطلاقا من الآية الكريمة والتي تقول : «ومن لم يحكم بما أنزل الله....الخ» وتسقط هذه الحركات الآية على الحكم بالمعنى السّياسي الضّيق في حين أن الله عزّ وجل لم يتكلّم أبدا عن دولة بالمعنى الواضح وإنّما عن قيم عامّة للخير وللحقّ لا بدّ من إقامتها في حياتنا وكنس مظاهر الظّلم العام والاستبداد الفردي وغياب العدالة الاجتماعية وتضييق الحريّة.
ج) اعتبار القرآن دستورا يمكن اعتماده في الحكم. والقرآن واٍن ضمّ المبادئ العامة للحياة السّعيدة الإنسانيّة، فإنّه لا يمكن اختزاله والتنقيص من شأنه باعتباره رديفا للدّستور واٍنّما هو مصدر للدّساتير عند الإنسانيّة التّائقة للخير والعدل والحريّة.
في الحقيقة لا يمكننا أن ننكر مدى شموليّة النّص القرآني ومدى سموّه نحو الكمال الإنساني بدعوته إلى القيم الحقيقية السّامية وإلى الأداء والعمل المتواصل لتحقيق ما يسمو إليه الإنسان- فألمح بذلك إلى مجمل أسباب الوجود الإنساني وأشار إلى الهدف الأساسي من خلق الإنسان والسلوك الواجب إتباعه من أجل بلوغ السعادة الإنسانية في الدنيا والآخرة. إلا أنّ التملّص من دورنا الحضاري ومن الفعل التاريخي بالقول بأن القرآن جمع فأوعى هو نوع من التواكل وعدم الإفادة بشروط النّص القرآني الإلهي.
فالقرآن قدّم الأصول دون الفروع ونادى بالكلّيات دون الجزئيات فهو إذن لا يمثل نظريّة اقتصاديّة أو اجتماعيّة ولا يمكن وصفه بكتاب علمي أو كتاب قانون أو غير ذلك من النّعوت والإسقاطات التي تحطّ من قدر وقيمة هذا الكتاب المقدس. نعم لقد جمع فأوعى ولكن ضمن منهج ربّاني أصولي : شمل مجمل الأشياء دون المرور إلى الترتيبات التقنيّة التي تعود إلى الإنسان ضمن اجتهاده وتفكيره وضمن فهمه وعمله. فلقد دعا القرآن مثلا إلى الشّورى كمنهج قويم وجب إتباعه لتحقيق التّوازن في المشاركة الفكريّة والسياسيّة ولم يقدّم لنا نظريّة في الديمقراطيّة – نفهم من ذلك أنه وجب علينا داخل الأطر الإسلاميّة الابتعاد عن كل السّياسات الأوتوقراطيّة والدكتاتوريّة التي ترمي إلى استبداد الفرد دون تشريك المجموعة- وفهمنا أنّ تشريك الآخرين واجب ولكن طريقة تشريكهم هي موضع اجتهاد الإنسان وهنا مربط الفرس. هناك أمثلة عديدة يمكن سياقها في مثل هذا الإطار والتي تؤكد ما نقوله- فالقرآن قدّم لنا قيما عامة وبطريقة تربوية جدّ عالية كي نستلهم منه مشاريع حياة ومجتمع وأطرا للسلوك القويم
ح) أما الشريعة التي يدّعون الدفاع عنها فهم لا يعرفونها ويجهلون كنهها، فهي عندهــم مجموعـــة من الأحكـــام التي طبّقت في فتــرات من حكم المسلمين بالرجوع إلى استنباط للأحكام من القرآن قام بها علماء الأمة آنذاك ووقع إيقاف العمل بتلكم الأحكام في العصور الأخيرة بعد سقوط الخلافة الإسلامية. ونسي هؤلاء أنّ الشّريعة قبل أن تكون أحكاما هي في الحقيقة مجموعة من المقاصد السمحاء التي تهدف إلى حفظ المال والنّفـــس والعرض والدّيـــن. ولقد نادى الكثير من المجتهدين ومن العلماء إلى ضرورة تحيين الشّريعة كي تطابق الواقع الجديد والذي تطوّر كثيـــرا عن حيثيات الأحكام القديمـــة والتي لا يمكن اليوم إسقاطها على مجتمعات تطور حسّها الاجتماعي والثقافي والمدني.
ولعله من الجدير بنا تقديم تعريف مفصل لمفهومنا في الشريعة الإسلامية – فهي تعبير عن عملية جدليّة بين ثلاث عناصر مهمّة إذا غاب طرف منها فشلت العملية الفكرية برمتها – هذه العناصر الثلاث هي :
(*) النص: (القرآني وما صحّ نقله عن رسول الله عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم من حديث) ويتّصف النّص بأنّه مجمل وثابت وذو منحى عام أقصد النّص القرآني خصوصا حيث أن الحديث يفصل الأحكام أكثر ضمن شروح الرّسول (صلى الله عليه وسلم).
(*) العقل: أي ذلك المجهر الذي يفهم ويؤول النّص ضمن شروط مفاهيميّة محدّدة – فهذا العقل تشترط فيه الوسطيّة والاتّزان والرّصد لما هو خفيّ بين أسطر النّص من تلميحات وإشارات تتجاوز أحيانا العبارات.
(*) الواقع: الذي يتنزل فيه النّص أي ذلك المحكّ لأي نظريّة. فهو الميدان الذي سيستوعب هذا النّاتج الخام عن العملية الفكريّة (نصّ + عقل). وفي الحقيقة فهو المرصد والمقيم لمدى نجاح هذه العمليّة الفكرية التجادلية –
فلا يمكن إسقاط النّص المجمل على الواقع المدقق والمفصّل ولا يمكن للعقل أن يعمل خارج الواقع وأسبابه وظروفه- فالواقع يحدّد ليس فقط مجال نشاط العقل وإنما أيضا مدلولات النّص في الفهم الإنساني المتقبل للوحي- فالذي يفهم النّص هو إنسان في ظروف معيّنة وبعقل معيّن.
اٍن المبادئ العامة التي يمكن البناء على أساسها من أجل صياغة مشروع حضاري إسلامي عوضا عن المشروع السّياسي الفاشل والذي اختزل المشروع الإسلامي في السّياسة هي :
أ) إعادة الاعتبار للعقل الإسلامي كمصدر مهمّ من مصادر الفهم فهو مشروع ذو طابع عقلاني لا سلفي.
ب) عدم الانخراط في اللّعبة السّياسية للحفاظ على نقاوة ونصاعة المشروع الإسلامي وعدم اختزاله في تجربة سياسيّة تفشل لا محالة لأنّ الإسلام هو بالأساس دين وحضارة وهو يتّسم بالقداسة في حين أنّ السّياسة هي بالأساس عمل بشري فيه الكثير من المكر والخداع والتّلاعب وذلك من شأنه الحطّ من المشروع الحضاري.
ج) المشروع الحضاري يرفض المذهبيّة وتقسيم المجتمع ويدعو إلى الوحدة ضمن منطق الاختلاف والحرية الفكريّة.
د) يركّز على حرية الفرد فكرا وممارسة وعدم انصياعه للقطيع فله مجال واسع لإعمال فكره وعقله دون حدود وذلك يكفله الامتداد الحضاري الإسلامي وقدرته على استيعاب جملة الأفكار والمناهج الفكرية.
ه) المشروع الإسلامي هو أيضا مشروع وجدانيّ يخاطب وجدان الأمّة ويدعو إلى خوض تجربة أنسيّة إنسانيّة ضمن ضمير الأمّة الجمعي. وهذه التجربة يعمل فيها قلب كل فرد على خوض تجربة عرفانيّة روحيّة خاصّة متميّزة تؤدي بالأفراد إلى الولوج لعوالم معرفيّة ووجدانيّة متطوّرة ترتقي بهم إلى مقامات عرفانية متميزة لكي يكونوا جديرين بالحياة الإنسانيّة الراقية ولكي ينتجوا فكرا وفلسفة وحكمة ورشادا.
ث) المشروع الحضاري الإسلامي لا يكفر بالعلمانية في حدودها الدنيا، إيمانه بالعلم كمحفز أساسي للإنسان لبلوغ التطور والرقي الحضاري وبالتالي يفصل الدّين عن الدّولة وذلك كي لا يختلط الفهم عند النّاس بأنّ اللذين يحكمون هم رجال دين معصومون من الخطأ ويرفع بذلك الحصانة عن رجال السّياسة بكونهم ليسوا رجال ديـــن ولا يتحدّثون باسم الدّين لأنّ الدّين سام ولا يمكن لأحد أن يتحدث باسمه. ومن يمارس السّياسة لا يعرف أساسا بمرجعيّته الدينيّة، فتلك علاقته بخالقه ولكن مرجعيّته بشريّة وليس له حصانة غير الجهد والعمل ويقع تقييمه على أساس أدائه وليس على أساس انتمائه الديني أو المذهبي.
ولكن الدين ليس مفصولا عن السّياسة فله رأيه وموقفه من الشأن العام وكيفية تسييره بالحكمة والعدل والقسطاس المستقيم وليس بالهمجية والاستبداد. فالدّين يقف مع الحريّة ضدّ الاستبداد ومع العدل ضدّ الجور والظلم ومع تكافؤ الفرص ضدّ الاستحواذ. ومن هذا المنطلق نرى أن المشروع الحضاري الإسلامي كي ينجح في تأسيس نهضة أمّتنا لا بدّ له أن يقف على الحياد تجاه الدّولة وهو بالأساس مدنيّ من هذا المنطلق ولكنّه لا يفصل الدّين عن المجتمع وعن الشأن السّياسي، ومن هذا المنطلق فهو يقيّم الأداء السّياسي على أساس النّتائج في واقع الجماهير من شغل وتنمية وحرية وعدالة وليس على أساس الانتماء الدّيني. فاٍن كان الذي يحكم عادلا ما همنا انتمائه المذهبي إذا كان أدائه ضمن ضوابط العدل؟، فالعدل أساس العمران كما قال ابن خلدون والمفروض أن يكون الدّين محفّزا لا منفّرا.
ق) هو مشروع فكريّ ثقافيّ أساسا يهدف للدّفع إلى حركيّة ثقافيّة ومعرفيّة. فمحاربة الجهل والتّكفير والأنانيّة والاستبداد تكون بالفكر والثقافة وليس بالسياسة، فاٍن تثاقفنا وتحاورنا اقتربنا من بعضنا البعض وان تسيّسنا حارب بعضنا البعض الآخر.
إذا فالمشروع الإسلامي حسب رأينا، مشروع ذو طابع حضاري لا سياسي جامع للأمّة غير مفرّق لها وهو صمّام أمان لهّا ضدّ الفتن المذهبيّة التي تلوّح بالعودة بنا إلى مربّع الصّفر، والدولة التي نصبو إليها هي دولة مدنيّة نابعة من المشروع الحضاري الذّاتي لشعوبنا وليست الدولة المدنية التي تأخذ مبادئها من الآخر.
-------
أستاذ جامعي في الاٍعلامية الصناعية
وتواصل الاٍنسان والآلة
mejrilassad@yahoo.fr |