الإفتتاحية

بقلم
فيصل العش
من نجاسة الاستبداد إلى طهارة حكم الشعب
 «السياسة» في دول العالم العربي والإسلامي وفي دول عديدة لم تعرف في تاريخها إلاّ الاستبداد والحكم العضوض، هي اغتصاب كرسيّ الحكم ومواقع النّفوذ من طرف شخص أو قبيلة أو مجموعة ايديولوجيّة لتحقيق أكبر قدر ممكن من الامتيازات العينيّة والمعنويّة وتوسيع رقعة ممتلكات العائلة الحاكمة وحواشيها من الذين كرّسوا حياتهم لخدمة الحاكم والتّمعش من سلطانه ونفوذه. والحكم عند هؤلاء غنيمة والسياسة هي البحث عن السّبل الناجحة للسّيطرة على مراكز النفوذ وبالتالي على المحكومين ودمغجتهم واستمالة تأييدهم بالاعتماد على الدّين تارة وعلى قاعدة الترغيب والترهيب تارة أخرى وإن كان الترهيب أحب إلى قلوب هؤلاء الحكام من الترغيب.
طيلة قرون، اعتُبِر العمل السّياسي حكرا على الحكام وحواشيهم وهو جريمة يعاقب عليها غيرهم إن فكّر فيها خارج أسوار فكر السلطان واختياراته فيحاصر ثمّ تمنع عنه الحياة بين الناس وتسلّط عليه أقسى العقوبات فينكل به تنكيلا ويُصَبُّ عَلَيْهِ سَوْطَ عَذَابٍ. وإذا ضجر الناس وخرجوا إلى الشوارع مطالبين بحقوقهم في العيش الكريم اعتبر ذلك فتنة وضلالا وجوبهوا بالعنف والقوة.
هذه «السّياسة» لم تصنع دولا متقدّمة ولا أمّة متّحدة بل عجّلت بتدمير نقاط القوّة فيها وأنشأت منظومة قيم تخدم السّلطان وتتكامل معه وتسبّبت في تعفّن الأخلاق وانتشار الفساد ونمو ثقافة مشوّهة تقوم على تراجع الاهتمام بالشّأن العام وغياب الضّمير والتّفريط في معايير أداء الواجب. كما تسبّبت هذه «السّياسة» في الاحتقان الاجتماعي وزرع الحقد بين شرائح المجتمع وانتشار الفقر وزيادة حجم المجموعات المهمّشة والمتضررة وخلق جوّ من النّفاق السّياسي وخنق كل فكر مستنير يخالف هوى السّلطان ومزاجه وفسح المجال لخطاب سياسي يخاطب الغرائز لا العقول. والأخطر من كل ذلك ترسيخ «التّبعية» للقوى الخارجيّة التي يستنجد بها الحكّام لتمتين ركائز حكمهم في ظلّ انعدام الثّقة بينهم وبين شعوبهم.
لم يختف هذا الفهم  للـسّياسة بعد اندلاع الثّورات في بعض الدّول العربيّة وعلى رأسها تونس بالرّغم من تغيير رأس النّظام وفتح المجال أمام الجميع لاقتحام المجال السّياسي ، ذلك أنّ الجزء الكبير من الطّبقة السّياسية لم يسع إلى تغيير مفهوم  العمل السّياسي وانخرط في معارك طاحنة مع المنافسين للوصول إلى السّلطة فانقسم مناضلو  الأمس إلى حكّام ومعارضة وخاضوا صراعات مستمرّة ضدّ بعضهم بسبب ذاتيّة وانتهازية بعضهم وضيق أفق البعض الآخر وضعف بصيرته، فانحرفوا بالمسار وكادوا يعصفون به.  
لقد تسبّب هذا التمشّي خلال السنوات الثّلاث الماضية في نفور غالبيّة المواطنين من الاهتمام بالشّأن السّياسي وخلق لديهم قناعة بفساد السّياسة والسّياسيين بمختلف أنواعهم ومشاربهم، بل عاد حنين بعضهم إلى نظام الاستبداد الذي ثاروا من أجل تغييره والقضاء عليه. فما الفائدة من تغيير حاكم بآخر لايختلف عنه إلاّ في الشكل وفي التّسميات؟ 
إنّنا  في زمن الثّورة ومن واجبنا أن نطرح على النّاس فهما جديدا للسّياسة يقوم على خدمة مصالح الشّعب عن طريق الحكم الرّشيد وسيادة القانون ومراقبة الشّعب. إنّ «السّياسة» التي ننشدها ونعمل على ترسيخها في المجتمعات المتحرّرة من الطغيان والاستبداد هي علاقة بين الحاكم والمحكوم تهدف إلى بناء «دولة المجتمع» تكون فيها مؤسسات المجتمع المدني رقيبا شرسا على آداء الحكام من دون المسّ من هيبة السّلطة وذلك عبر الالتزام بالقانون الذي ينبع من الدّستور ذلك العقد الاجتماعي الذي يتضمّن خلاصة لما اتفق عليه المجتمع من مبادئ وقيم. 
و«السّياسة» التّي نبشّر بها هي « كل فعل يكون معه النّاس أقرب إلى الصّلاح وأبعد عن الفساد»  فهي بالتّالي القيام على الشّئ بما يصلحه عبر اجراءات وطرق وسائلها وغاياتها مشروعة، فلا تقوم السّياسة في فهمنا على قاعدة «الغاية تبرّر الوسيلة» وليست بيع الأوهام وتسويق الشّعارات لكسب ودّ النّاخبين حتّى إذا ربح السّياسي المعركة الانتخابيّة وفاز نسي ما وعد به ناخبيه وتنكّر لهم.« السّياسة» التي نريد بحاجة لعقليّة المقاومة والشّجاعة وروح التّضحية وهي تتطلّب سياسيّين جدد يؤمنون بالعمل الميداني بعيدا عن البيروقراطية، يكونون قريبين من النّاس، مطّلعين على همومهم عارفين لانتظاراتهم ومطالبهم. 
إن نجاح الثّورة لا يتمّ إلا عبر النّجاح في تغيير مضمون العمل السّياسي وفسح المجال أمام من يعيد للسّياسة قيمتها الأخلاقيّة، ويخرجها من «نجاسة الاستبداد» إلى «طهارة حكم الشّعب». فهل سينجح التونسيّون في امتحانهم القريب ويختارون من يعمل على إنجاح الثّورة أم ستغريهم شعارات السّياسيين المتزلّفين فيقعون في شراك «أعداء الثورة»؟