تطوير الذات

بقلم
محمد أمين هبيري
مبدا التفضيل الزمني
 يمثّل مبدأ التّفضيل الزّمني مفتاح فهم سلوك المستهلكين والمستثمرين في عالم الاقتصاد. يعكس هذا المبدأ استعداد الأفراد لتفضيل الحصول على قيمة ماليّة معيّنة في الوقت الحالي بدلاً من الحصول عليها في المستقبل، ممّا يعكس تفضيل الاستهلاك الفوري على حساب التّوفير للمستقبل. وبلغة سهلة يسيرة نقول أنّ مبدأ التّفضيل الزّمني يتمثّل في استعداد الأفراد لتفضيل الاستهلاك الفوري على حساب التوفير للمستقبل.
لفهم جذور مبدأ التّفضيل الزمني، يجب النّظر في العوامل المؤثّرة فيه. يأتي في مقدّمتها معدّل الفائدة، حيث يتأثّر تفضيل الزّمن بارتفاع هذا المعدل أو انخفاضه. كما يلعب الدّخل والعمر دورًا هامًا في تشكيل هذا المبدأ، حيث يميل الأفراد ذوو الدّخل المرتفع والعمر الصّغير إلى التّفضيل للمستقبل، في حين يتّجه ذوو الدّخل المنخفض والعمر المتقدّم إلى الاستهلاك الفوري. تشكّل الضّبابيّة والتّوقّعات المستقبليّة أيضًا عوامل أساسيّة، حيث يميل الأفراد إلى التّفضيل للحاضر في ظلّ ظروف غير واضحة أو متغيّرة.
في سياق نظريّة الاستهلاك، يسهم المبدأ في فهم سلوك المستهلكين الذين يواجهون تحدّيات في تحديد كيفيّة توزيع دخلهم بين الاستهلاك الفوري والتّوفير للمستقبل. هذا يلقي الضّوء على العلاقة بين ارتفاع معدل الفائدة وتحوّل تفضيلات الزّمن للمستهلك.
في المجال الاستثماري، يلعب المبدأ دورًا حيويًّا في تحليل قرارات المستثمرين. يساعد في فهم سبب اختيار المستثمرين للاستثمار في مشروعات تتطلّب وقتًا طويلاً لتحقيق العائد، ممّا يرتبط ارتباطًا وثيقًا بتقييم التّكلفة الفعليّة لرأس المال.
في سياق السّياسة النّقديّة، يقدّم مبدأ التّفضيل الزّمني إطارًا لتوجيه السّياسات النّقديّة. يساعد في تحديد مستويات الفائدة والتّحفيز الاقتصادي، مع التّركيز على كيفيّة تحقيق توازن بين تحقيق النّمو الاقتصادي في الحاضر وضمان استدامته في المستقبل.
من خلال نظريّة التّمويل، يتّضح أكثر دور المبدأ في تحديد تكلفة رأس المال وتقييم الاستثمارات. يشكّل هذا المبدأ أساسًا لتفسير كيفيّة تحديد سعر الفائدة وكيف يؤثّر ذلك على قرارات الاستثمار. كلّ هذه المظاهر وغيرها جعلت من مبدأ التّفضيل من أهم المبادئ السّياسيّة (بما هي تدبير للأمر الفردي على مستوى كياني) الأساسيّة التي من الجدير البحث فيها.
الجزء الأول: مبدأ التّفضيل الزّمني في ذاته 
يمكن تقسيم الجزء الأول إلى عنصرين؛ الأول نتحدث فيه عن أساس المبدأ (العنصر الأول)، أما الثاني فنتحدث فيه عن مبرّرات المبدأ (العنصر الثّاني)  
العنصر الأول: أساس المبدأ 
يرتكز المبدأ على أساس مجموعة من العوامل التي تشكّل أساس فهم سلوك الفرد تجاه الزّمن والاستهلاك. أولاً وقبل كلّ شيء، يعكس هذا المبدأ حقيقة عدم اليقين بالمستقبل. فالتّأكد من الأحداث المستقبليّة يظلّ أمرًا صعبًا، ممّا يجعل الأفراد يميلون نحو الاستهلاك الآني لتفادي المخاطر المحتملة.
فيما يتعلّق بالاستهلاك الآني، يتيح هذا المبدأ للأفراد الاستمتاع بالمتعة والسّعادة الفوريّة، ويجعلهم يتجاهلون المكافآت المستقبليّة التي قد تكون أقلّ وضوحًا. ومن ثمّ، تلعب الفائدة دورًا مهمًّا حيث تشكّل عائدًا على تأجيل الاستهلاك، ممّا يدفع البعض للاستهلاك الآني لتجنّب دفع فوائد إضافيّة في المستقبل. تتراكب هذه العوامل معًا لتكون أساسًا لمبدأ التّفضيل الزّمني، الذي يلقي الضّوء على تعقيدات السّلوك الاقتصادي والتّفاعل بين الحاضر والمستقبل.
العنصر الثاني: مبرّرات المبدأ 
يعكس مبدأ التّفضيل الزّمني توجيه الأفراد نحو اتخاذ القرارات الماليّة باعتبار الزّمن وتأثيره على القيمة النّقديّة للمبالغ الماليّة. تتجلّى هذه التّفضيلات في عدّة جوانب، ومنها احتياجات الإنسان الحاليّة وتفضيل الاستهلاك الحالي على حساب المستقبل، بالإضافة إلى النّظر في العائد على الاستثمار وتأثير التّضخّم والعوامل النّفسيّة.
أحد الجوانب الرّئيسيّة لتطبيق مبدأ التّفضيل الزّمني هو تلبية احتياجات الإنسان الحاليّة. حيث يجد بعض الأفراد أنفسهم في حاجة ملحّة إلى المال لتحقيق أهداف شخصيّة مثل شراء منزل أو سيارة، وفي هذه الحالات، يميلون إلى تفضيل تلقّي المبالغ الماليّة الآن بدلاً من التّأجيل.
من جهة أخرى، يظهر تفضيل الاستهلاك الحالي كمظهر آخر من مظاهر مبدأ التّفضيل الزّمني. يميل بعض الأفراد إلى الحصول على متعهم واحتياجاتهم الفورية دون النظر إلى المستقبل. هذا التوجه يعكس الرغبة في الاستمتاع بالحياة اليوم دون الانتظار للحصول على مكاسب أكبر في المستقبل.
من ناحية أخرى، يرتبط مبدأ التفضيل الزمني أيضًا بفهم الأفراد للعائد على الاستثمار. حيث يميل بعضهم إلى تلقّي المبالغ الماليّة الآن للاستثمار في مشاريع قد تحقّق عوائد مستقبليّة. هذا يعكس التّفكير الاستراتيجي في استغلال الفرص الاستثماريّة لتحقيق المكاسب الماليّة على المدى الطّويل.
ولا يمكن تجاهل تأثير التّضخم في سياق مبدأ التّفضيل الزّمني. حيث يميل النّاس إلى تفضيل تلقّي المبالغ الماليّة الآن بسبب التّضخّم، حيث يقلّل التّضخّم من القيمة الشّرائيّة للعملة مع مرور الوقت، ممّا يجعل الحاجة إلى التّحصين ضد فقدان القوّة الشّرائيّة للنّقود.
علاوة على ذلك، تدخل العوامل النّفسيّة كمكمّل لمبدأ التّفضيل الزّمني، حيث يمكن أن يؤثّر القلق والتّوتّر على قرارات الأفراد بشكل مباشر. فالتّفكير في الحاضر قد يكون ناتجًا عن تأثيرات نفسيّة تلعب دورًا في تحديد تفضيلاتهم الزّمنيّة. بشكل عام، يُظهر مبدأ التّفضيل الزّمني تعقيد العوامل التي تتداخل في اتخاذ القرارات الماليّة، حيث يتأثّر بمتغيّرات متعدّدة تتراوح بين الاحتياجات الفوريّة والتّوقعات المستقبليّة، ممّا يجعله ظاهرة فريدة تختلف من شخص لآخر.
الجزء الثاني: مبدأ التّفضيل الزّمني في موضوعه 
يمكن تقسيم الجزء الأول إلى عنصرين؛ الأول نتحدث فيه عن نتائج المبدأ (العنصر الأول) أما الثاني فنتحدث فيه عن حدود المبدأ (العنصر الثّاني)  
العنصر الأول: نتائج المبدأ 
يمكن تطبيق مبدأ التّفضيل الزّمني، بما هو مبدأ سياسي ذو بعد اقتصادي يعكس اتجاه الأفراد والشّركات نحو اختيار الفرص واتخاذ القرارات استنادًا إلى الوقت المستقبلي لتحقيق العوائد في عدّة مجالات. ممّا يؤثّر على سلوك الاستهلاك واتخاذ القرارات الماليّة. وتعدّ من جملة نتائج هذا المبدأ تطبيقاته في بعض المجالات الرّئيسيّة:
* في مجال الاستهلاك، يلعب المبدأ دورًا هامًا في فهم القناعات والقيم التي يرتكز عليها الكيان، حيث يتباين مستوى صبر الأفراد. يفضّل البعض التّهوّر والاستهلاك الفوري، بينما يختار آخرون الصّبر والتّوفير للمستقبل. هذا التّباين في الصّفات الشّخصية يسهم في تشكيل قرارات الاستهلاك.
* في مجال الاستثمار، يظهر تأثير مبدأ التّفضيل الزّمني عندما يختار المستثمرون الاستثمارات التي تتيح عوائد سريعة على المدى القصير بدلاً من الاستثمارات ذات العائد البطيء على المدى الطّويل. على سبيل المثال، قد يختار الأفراد استثمارات في الأسهم التي تعد بعوائد سريعة، بدلاً من الاستثمار في سندات تتطلّب وقتاً طويلاً لتحقيق عوائد كبيرة.
* في مجال القروض، يمكن لمبدأ التّفضيل الزّمني أن يؤثّر على اختيار الأفراد لأنواع القروض. فمن المعروف أنّ النّاس يميلون إلى اختيار القروض ذات الفائدة المنخفضة التي تتيح لهم توفير المزيد من المال في المدى القصير، بدلاً من القروض ذات الفائدة المرتفعة التي قد تؤدّي إلى دفع مبالغ أكبر على المدى الطّويل.
* وفيما يتعلّق بالتّقاعد، يمكن أن يؤثّر مبدأ التّفضيل الزّمني على اختيار الأفراد للتّوفير للتّقاعد. فيميل النّاس إلى الاستثمار في حلول التّقاعد المبكرة لضمان مستقبلهم المالي والتّمتّع بفترة تقاعد مريحة. يمكن أن يتضمّن ذلك الادخار الشّهري أو الاستثمار في حسابات التّقاعد التي توفّر فوائد طويلة الأجل.
في الختام، يظهر مبدأ التّفضيل الزّمني تأثيره في مجالات متعدّدة من الحياة الاقتصاديّة، حيث يشكّل عاملاً مهماً في توجيه قرارات الكيان نحو تحقيق أقصى استفادة في الوقت الحالي والمستقبل.
العنصر الثاني: حدود المبدأ 
رغم أنّ مبدأ التّفضيل الزّمني يعتبر مفتاحًا لفهم سلوك الأفراد واتخاذ القرارات الاقتصاديّة، إلّا أنّه يجد نفسه محدودًا أمام عدّة عوامل تلعب دوراً في تحديد سياق تطبيقه. تلك الحدود تلقي الضّوء على تعقيدات القرارات الماليّة وكيف يمكن أن تتأثّر بالظّروف المتغيّرة وتطوّر العوامل الاقتصاديّة والاجتماعيّة.
في المقام الأول، يعتبر الوعي بالمخاطر حجر الزّاوية في تحديد مدى فعاليّة مبدأ التّفضيل الزّمني. يمكن أن يؤدي تغيّر درجة الوعي بالمخاطر المحتملة لتأجيل الاستهلاك إلى تغيير في اتجاهات الأفراد. على سبيل المثال، قد يميل الأفراد في فترات اقتصاديّة غير مستقرّة إلى تفضيل الاستثمار في أصول آمنة وذات مخاطر منخفضة، حتّى لو كان ذلك يعني تحقيق عوائد أقلّ في الوقت الحالي.
تعتبر التّغيّرات في القيم من العوامل التي تحدّ من تأثير مبدأ التّفضيل الزّمني. فتغيّر في القيم الشّخصيّة يمكن أن يؤدّي إلى تحوّل في سلوكيّات الاستهلاك والاستثمار. على سبيل المثال، قد يتغيّر تقدير الأفراد للتّوازن بين الحاضر والمستقبل، ممّا يؤدّي إلى تحوّل في قراراتهم الماليّة.
يشكل تأثير التّطورات التّكنولوجيّة حداً آخر يجب مراعاته. وقد يؤدّي تقدّم التكنولوجيا السّريعة إلى تغيير جذري في أسلوب الحياة واحتياجات الأفراد، ممّا يؤثّر في تفضيلاتهم الزّمنيّة. على سبيل المثال، قد يؤدّي تطوّر التّكنولوجيا إلى تغيير في أولويات الاستهلاك ويعزّز اتجاهات الإنفاق على الابتكارات الحديثة والتّكنولوجيا.
يمكن ضمن الأمثلة التّطبيقية التي تلخّص حدود مبدأ التّفضيل الزّمني الإشارة إلى الاستثمار في التّعليم. حيث يمكن أن يكون التّعليم استثمارًا يتطلّب تكلفة كبيرة وتأجيلًا للعائد، ولكنّه في المقابل يمكن أن يؤدّي إلى عوائد هائلة على المدى الطويل من خلال فتح أفق الفرص الوظيفيّة وتحسين المهارات الشخصيّة.
في النهاية، يعتبر مبدأ التّفضيل الزّمني أداة قويّة لفهم توجّهات الأفراد في اتخاذ القرارات الماليّة، ولكن يجب أن يتمّ التّعامل معه باعتباره جزءًا من نظام معقّد يتأثّر بتفاعل العديد من المبادئ السّياسيّة المختلفة.