نافذة على الفلسفة

بقلم
أ.د. عبدالرزاق بلقروز
سؤال الحقيقة والفعل في فلسفة القيم إشكالات وإيضاحات(1-3)
 الإشكال الأول : من الحقيقة/ القداسة إلى الحقيقة/ الدّليل
أولا . مفتتح
يشير فيلسوف القيم الألماني هينريش ركرت rickert  إلى  التّمييز  بين «مملكة القيم وبين عالم  الواقع، وبين مملكة المعنى، وهذه الأخيرة تشمل الذّات وتمكّن من إقامة ارتباط بين المملكتين الأخريين. ويصنّف «ركرت» القيم بحسب الميادين التّالية «المنطق، علم الجمال، التّصوّف والأخلاق شؤون الجنس، وفلسفة الدّين، ويناظرها القيم التّالية على التّوالي : الحقيقة، الجمال، القداسة غير الشّخصيّة، السّعادة، القداسة الشّخصيّة»(1)، وجليّ إذن أنّ الحقيقة هي موضوع أو ميدان من  ميادين فلسفة القيم، وقد اعتبر «هيجل» في موسوعة العلوم الفلسفية، « أنّ أوّل سؤال يصادفنا هو : ما هو موضوع المنطق؟ وأبسط وأوضح إجابة هي: موضوع المنطق هو الحقّ Truth أو الحقيقة… غير أنّنا قد نلتقي في الحال، بالاعتراض الآتي: أنحن قادرون على معرفة الحقيقة؟ إذ يبدو أنّ هناك ضربا من التّنافر وعدم التّجانس بيننا بوصفنا موجودات متناهية وبين الحقيقة التي هي مطلقة، وتبدأ الشّكوك تظهر حول ما إذا كان يمكن أن يكون هناك جسر بين المتناهي واللاّمتناهي. اللّه هو الحقّ أو الحقيقية، فكيف يتسنّى لنا أن نعرفه؟ إنّ هذه المحاولة تتعارض فيما يبدو مع فضائل التّواضع البشري وشعور الإنسان بضآلته» (2) .
ثانيا  .في مفهوم الحقيقة وتعدّد معانيها
قبل مباشرة أيّة مساءلة تحليليّة أو تفكيكيّة لمقولة الحقيقة والمفاهيم المتشعّبة عنها:كالمعرفة وأدوات الإدراك الإنساني  وتحوّلات مفهومها وقيمة شعاراتها، فإنّ المقتضى المنهجي والسيّاقي يستوجب التعرّض لمفهومها بالتّوصيف والمقارنة فضلا عن تحديد عناصر التَّمفصل والاختلاف بين منظورات متعدّدة في قراءتها وتأويلها،كاستشكال علاماتها ومعاييرها وماهيتها ومستوياتها ودرجاتها أو المؤسّسات المنتجة لها، بخاصّة وأنّ الفكر الغربي منذ الفلسفة الإغريقيّة جعل من الحقيقة القطب الرّئيسي لنشاطاته.
وقبل البدء باقتباس بعض التّعريفات  للحقيقة، هناك تلميح منهجيّ مؤدّاه أنّ الحقيقة من جهة الدّلالة ليست واحدة إلاّ على صعيد الاسم، وداخل هذا الاسم منظورات تعكس في تنوّعها النّسق الفلسفي الذي يؤطّر مفهومها ويُشغّل وسائلها في فعل البحث عن المعرفة.
إنّ الحقيقة Veritas, Vérité تعرّف «بأنّها مطابقة الفكر للأشياء»، وبلغة الأسكلائيين: «الحقيقة هي تطابق الشّيء والعقل est adequation Rei et intellectus Varitas . فالحقيقة إذن تتضمّن  مقاربة بين حدّين: الفكر من ناحية، والشّيء أو الأشياء من ناحية أخرى؛ وهنا تنقسم الحقيقة إلى نوعين، بحسب وجهة نظرنا إلى الفكر، أو إلى الشّيء:
• الحقيقة المنطقيّة- وتُعرّف بأنّها تطابق الفكر مع الشّيء Adaeqution Intellecus Cum Rei، فإذا تطابقت رواية حادث مع الواقع كانت الرّواية حقيقيّة.
• الحقيقة الوجوديّة – وتعرّف بأنّها تطابق الشّيء مع الفكر المعياري الذي يحكم عليها: أي تطابق الشّيء مع العقل rei cum intellectu Adaptation وأعني مع معايير العقل. وإذا قلت هذا رجل كريم:فمعنى هذا أنّ خُلقه يتطابق مع قيمة الكرم كما قدّرها العقل» (3) .
ولا يختلف هذا التّحديد للحقيقة عن المعنى المنطقي الذي نجده مبثوثا في شعب المنطق الصّوري وفي المنطق المادّي، فالأول يشتقّ حقيقته من التّطابق بين الفكر ومبادئه الكلّية النّاظمة للمعرفة، والثّاني يشتقّها من الواقع باعتبار أنّ الحقيقة هي تطابق الفكر مع الواقع أو كما كان يقول مناطقة العرب: مطابقة ما في الأذهان مع ما في الأعيان.
وقد جاء في أحد المعاجم  الفلسفيّة تعريف يتضمّن المعنى الذي جرى توصيفه سابقا، وهو أن «الحقيقة Vérité هي التّوافق بين ما نقوله وبين ما هو موجود، فالحقيقة إذن صفة في معارفنا  واسم لكلّ شيء موصوف بالوجود الواقعي، وتُعرّف في أنماط الفكر الكلاسيكي،  بواسطة الرّبط بين تفكيرنا(إدراك، حكم) وبين الواقع المدرك» (4)
وإذا ما عرّجنا على «أندريه لالاند» A.Laland في معجمه التّقني والنّقدي للفلسفة، فسنجد استجماعا لمفاهيم ورصدا لتمظهرات مختلفة المرجعيّة ومتباينة المقاصد، فعبارة حقيقة «تعني صفة كلّ ما هو حقيقي، فالأحلام التي نتخيّلها ونحن نائمون لا يحقّ أبدا أن تجعلنا نتشكّك في أفكارنا ونحن مستيقظون.[كما تتفرّع تعريفات أخرى يحصيها لالاند فيما يتوالى]:
-العبارة الصّحيحة «فعندما تكون هناك حقيقة ضروريّة، فإنّنا نجد معقوليّتها متوسّلين بالتّحليل، فنحلّلها إلى أفكار وحقائق أبسط، إلى أن نصل إلى الحقائق الأوّلية (لايبنتز المونادولوجيا، 33.)
– ما جرى التّحقق منه عمليّا، أو ملاحظته من قبل شاهد يرويه «شهادة متطابقة مع الحقيقة».
– بمعنى شديد التّعميم، الواقع» (5).
أمام هذا التّجميع لمفهوم الحقيقة، تستوقفنا مفردات الضّرورة والتّطابق والقيمة العمليّة؛ وهذا لا يجعلنا نغادر أرض المعنى التّوافقي بين المعرفة والواقع، ودلالة هذا أنّ وراء هذا التّنوّع نموذجا معرفيّا كامنا يحدّد مفاهيم الحقيقة ويفصلها عن غيرها أو ما يتعارض معها كالوهم والخطأ والزّيف.
غير أنّ مساءلة دلالة الحقيقة في حقول المعرفة التّراثيّة العربيّة الإسلاميّة تجعلنا نلمس ملامح المخصوصيّة والاختلاف، بخاصّة في مستوى أسبقيّة الدّلالة اللّغويّة واندراجها في النّظام البياني للدّلالة، وأيضا ازدواج معانيها بمفردات أخرى تساوقها في التّركيب اللّفظي فضلا عن اشتراكها  معها في المضمر الدّلالي منها: الحقّ، الحقيقي، حقيقة الحقائق: «فالحقيقة هي اسم لما أريد به وضع له فعيلة من حقّ الشّيء إذا ثبت بمعنى فاعلة لي بمعنى حقيق، والتّاء فيه للنّقل لا للتّأنيث، وفي الاصطلاح هي الكلمة المستعملة فيما وضعت له في اصطلاح يراد به التّخاطب… وبمعنى آخر هي  كلّ لفظ يبقى على موضوعه وقيل ما اصطلح النّاس على التّخاطب به…أمّا حقيقة الشّيء فهي ما به الشّيء هو هو كالحيوان النّاطق للإنسان بخلاف مثل الضّاحك والكاتب ممّا يمكن تصوّر الإنسان بدونه وقد يقال ما به الشّيء هو هو باعتبار تحقّقه حقيقة وباعتبار تشخّصه هويّة ومع قطع النّظر عن ذلك ماهية» (6). أي أنّ دلالة الحقيقة هنا لا تتحدّد مبتدءا في صورتها المعرفيّة وفي علاقتها  بدَرْك حقائق الأشياء، إنّما تتموضع في الدّائرة  الشّرعيّة  وفي الدَّائرة اللُّغويّة ابتداء. وما يتشعّب عنهما من بعد ذلك من استعمالات، أمّا مفردة الحقيقي كوصف في الأشياء فيُطلق بالاشتراك على معانٍ متعددة «منها الصّفة الثّابتة للشّيء مع قطع النّظر عن غيره موجودة كانت أو معدومة، ويقابله الإضافي بمعنى الأمر النّسبي للشّيء بالقياس إلى غيره. ومنها الصّفة الموجودة ويقابله الاعتباري الذي لا تحقّق له، سواء كان معقولا بالقياس إلى غيره أو مع قطع النّظر عن الأغيار» (7). وهذه المعاني التي  يتبدّى لنا  فيها المعنى المنطقي للحقيقة، أي صحّة التّصوّر المُعبّر  عنه بالحكم، يمكن تسميتها بالحقيقة العقليّة المنطقيّة التي تتمثّل في أنظمتها مقوّمات التّفكير السّليم المبثوثة في شعب التّفكير المنطقي: كالأحكام والتّماسك والتّطابق واليقين، فضلا عن وصل العلاقة التّطابقيّة من أجل الحقيقة بين ما في الأذهان وما هو موجود في الأعيان.
ثالثا .سؤال الحقيقة : من الحقيقة/القداسة  إلى الحقيقة / الدّليل
سندخل إلى سؤال الحقيقة هنا من زاوية الفكر الفلسفي اليوناني، للضّرورة التّعليميّة و ليس للقيمة الفلسفيّة، فكيف فكّر الإغريق في سؤال الحقيقة؟، هل هي ذات مفهوم ثبوتي سكوني من حيث المعايير أم أنّها تمرحلت أي مرّت بمراحل، وشهدت تحولات في أسسها ومعاييرها وعلاماتها، وإن كان الأمر هكذا، فما سرُّ هذا التّحوّل والتّمرحل والإرتهان إلى التغيُّر؟
1.    القداسة موطن الحقيقة والفلسفة استشراف للمقدّس
إنّ مفهوم الحقيقة كما تشكّل في المحاضن اليونانيّة اللّغويّة والتّداوليّة الأولى كان حاملا لمدلولات ذات مضامين دينيّة ميتافيزيقيّة ثمّ استحال بعد هذا همّا عقلانيّا بمحدّدات وضعيّة؛ هذا ما تستجلبه لنا  المساءلة الايتيمولوجيّة E’tymologie لمصطلح الحقيقة، «فإذا عدنا إلى الأصل اللّغوي لـ(Alétheia) وجدنا أنّ الكلمة مُكوّنة من الجذر (Léthé) أي النّسيان، ومن حرف النّفي (A) وتصبح الحقيقة في مفهوم (Alétheia) هي استرجاع الذّاكرة والخروج من النّسيان ثمّ التّذكّر، وفي هذا المعنى، يقول Détienne إنّ الحقيقة (Alétheia) لا يقابلها الكذب ولا الخطأ ولكن يقابلها النّسيان عند اليونانيين القدامى، فمفهوم (Alétheia) في اليونان القديمة مرتبط بالذّهنيّة الأسطوريّة، ونجده مجسّما في خطاب الكاهن والشّاعر وملك العدل (8) (Roi de Justice).
من هنا، فالحقيقة تتأتّى قوّتها لا من سعي الإنسان أيّا كان لامتلاكها، إنّما قيمتها تتأتّى من مصدرها، فخطاب الشّاعر والكاهن المؤسّس على الذّاكرة المقدّسة بما هي مخصوصة بمن تحابيهم الآلهة في شكل ذاكرة وإلهام مقدّسين، هي الحقائق الأصيلة والفاعلة والنّاجحة، وفي الوقت نفسه يُقام في الواقع توسُّلا بهذا المعنى نظام من القداسة والعدالة والقانون المطلق، هنا يمكن أن نستحضر الشَّواهد من التَّاريخ الفلسفي، فأن يتمّ الرّبط بين الحقيقة و القداسة والذّاكرة، فمعناه الدّلالة الأفلاطونيّة والدّلالة الدّينية، وبيان ذلك أنّ أفلاطون هو من ربط بين الحقيقة وبين التّذكّر، فالمعرفة أو معارفنا بما هي الأدوات التي يمتلكها الإنسان في يديه هي الطّريق الوحيد نحو الحقيقة، فالمعرفة تذكّر ليس إلّا، والحائل الذي يقف أمام الجهد المعرفي النّقي هو الأهواء والرّغبات الجسميّة، التي يماثل أفلاطون بينها وبين اللاّعقل والشّر، أي أنّ ثمّة التّحرّر من الشّهوات ويماثلها الطّريق الآمن نحو الحقيقة، وثمّة إتباع الشّهوات ويماثلها فقدان الطّريق والخطأ والظّن أو الرّأي»، ويصف أفلاطون هذه البنية للمعرفة من خلال بعض الأساطير التي تحكي مغامرات الحياة السّابقة للنّفوس وهبوطها إلى هذا العالم topos  عالم الأشياء المحسوسة والأجسام التي ليست إلاّ نسخا للصّور في ذاتها وصورة تحوّلها ورجوعها إلى مكانها أو مسكنها المعقول بواسطة الفلسفة… فبناء الحقّ وصياغته إنّما هو إعادة التّركيب واكتشاف المعنى الذي كان موجودا من قبل، جاريا به العمل في تنظيم شروط إمكانات الفكر، والتعلّم، على خلاف أن يكون طريقا متقدّما ومغامرا، إنّما هو صعود إلى مشارب الثقافة ومصادرها التي قد تحتجب في أوقات محدّدة، يتناساها الفرد الذي يضيع في عدم نضجه النّفسي والجسمي في طفولته الحقيقيّة والمجازية معا» (9) .
وتشير الدّراسات إلى أثر الحكمة الدّينيّة الهنديّة على الفكر الأفلاطوني في قضايا المنهج وتعالي الحقيقة، وعلاقة الرّوح بالمطلق، وموضوع المعرفة وهدفها، والحقيقة العليا المقدّسة بما هي المبدأ الأول، ومبدأ الثّنائيّة أو الأحاديّة الفلسفيّة وغيرها…. ومنها الكتاب الهندي الأوبانيشاد الذي يحوي حِكم الثّقافة الهنديّة ما قبل الميلاديّة وخلاصتها، ونذكر هنا أمثلة عن هذه المشابهة بين الحقيقة الأفلاطونيّة المقدّسة وبين الحكمة الهندية، «يرفض كل من أفلاطون ومدرسة الأوبانيشاد الإدراك الحسّي كمعلومات يقينيّة، وتؤكّد كلتا المدرستين على أهمّية العقل عند أفلاطون والحاجة للتّأمّل والتّفكير عند الأوبانيشاد، وحسبما يذكر أفلاطون فإنّ طريق الحواس يقود المرء إلى عالم الظّواهر المتغيّرة “ظلال الكهف”، أي انعكاس الصّور، الإنسان يعيش عالم الظّواهر لا الحقيقة الجمهوريّة وذلك يزوّد الإنسان بوجهة نظر doxa، بينما طريق العقل والتّفكير يقود إلى المعرفة الحقيقيّة… ووجهة مشابهة توجد في الأوبانيشاد التي تشير إلى استحالة معرفة الحقيقة عن طريق الحواس و المعرفة التّجريبيّة، لأنّ براهما والماهية الإلهيّة لا يمكن معرفتهما عن طريق الحواس «إن ّ العين لا ترى … و لا الكلام يعبّر… وعدم قدرة العقل على الإدراك … حقيقية لا يمكن معرفة المطلق بالكلام … أو العقل… أو بالعين… “كاثا أوبانيشاد”(10)  
وفضلا عن هذا التّداخل ما بين الحقيقة باعتبارها مقدّسا والإعتقادات الدّينيّة لدى أفلاطون، فإنّ ثمّة ما يسعفنا في تأسيس الحقيقة على المقدّس لدى سقراط نفسه، وفي المعجم الدّلالي لمفهوم الفلسفة التي تحدّدت بوصفها بحثا عن الحقيقة، فكيف الأمر مع سقراط أوّلا؟
إن ّ سقراط لم يكن فيلسوفا نظريّا، وإنّما كان صاحب رسالة تشبه رسالات الأنبياء في مسعاهم نحو تحرير الإنسان من الاعتقادات الخاطئة والسّلوكيّات المنحرفة عن استقامة الفضيلة «ذلك أن سقراط كان يشير إلى اللاّمنظور الذي كان يعاوده ويأنس إليه، فهو يشرّع لممارسته الفلسفيّة باعتبارها إلهيّة لأنّه دخل يوما معبد دلفي فسمع هاتفا يخبره بأنّه أكثر  الأثينيين حكمة. إنّ رسالة سقراط ذات أساس إلهي، لذلك فهو لا يقبل التّخلّي عنها، مثلما يتجلّى ذلك في مؤلّف أفلاطون بعنوان “تمجيد سقراط”، نكتفي هنا بالإشارة في هذا الموضوع إلى أنّ سقراط يخاطب القضاة بقوله : “لو أنّكم طلبتم منّي أن أتخلّى عن التّفلسف مقابل تبرئة ساحتي وإطلاق سراحي، فإنّي لن أقبل ذلك البتّة، لأنّه ليس أعسر عليّ من عدم طاعة اللّه الذي حمّلني رسالة هدايتكم وإرشادكم إلى ما به تكون النّفس فاضلة”» (11). وهنا نلاحظ طبيعة المضمون الذي يريد سقراط أن يهدي به المجتمع الأثيني، فهو مضمون ديني حقيقي في شكل فلسفي، مضمون مقدّس في شكل جديد هو الشّكل الفلسفي البرهاني، أي أنّ القيم الدّينيّة التي كانت لدى هوزيود في شكل أساطير وأشعار مقدّسة، قد أحالها سقراط في تعاليمه من هذا الشّكل إلى شكل جديد قوامه العقلانيّة المجرّدة وتأسيس اليقين على أسس برهانيّة وليست أسسا أسطوريّة خرافيّة، وبالتّالي فنحن «أمام لحظة استجلاب للمقدّس في فضاء جديد هو فضاء القول الفلسفي من حيث هو رغبة جامعة في الحكمة وبحث عن الحقيقة في صورة جديدة… إنّ الميتافيزيقا التي افتتحها سقراط وواصلها فلاسفة آخرون ستكون أساس خطاب فلسفي أقرّ بإطلاقيّة الحقيقة إلى حدّ التّقديس» (12).
هذا، ويُعزُّز هذه المؤاخاة بين الحقيقة باعتبارها ذات جذر قدسي وبين الفلسفة باعتبارها بحثا عن هذه الحقيقة، الاشتقاقات اللّغويّة والدّلاليّة لمدلول الفلسفة نفسه، فلماذا اصطنع بيتاغور تسمية فيلوصوفيا؟ «هل لمجرّد إبراز الفاصلة الدّلاليّة بين الصّوفوس الذي هو اللّه والفيلوصوفوس أي الإنسان؟…. إنّ إطلاق لفظ فيلسوف على من يمارس الفلسفة أي الفيلوصوفوس ليس تحجيما لقدرات الإنسان أو ضربا من التّواضع مثلما يقدّم ذلك عادة، بل هو تصميم على استشراف عالم المقدّس….. وليس مجرّد إقامة حدود بين المطلق والنّسبي… وكأنّ هذا الحنين إلى التّقديس قد تجلّى في هفوة  لغويّة ذات دلالة عندما أطلق اسم الحكماء السّبع على مجموعة من الفلاسفة المشرّعين اليونانيّين، الذين كادوا يضاهون الآلهة في سمّوهم الأخلاقي. ليست الحكمة إذن حكرا على الآلهة ولا الفلسفة في بداياتها اليونانيّة مجرّد قطع مع الأسطورة والمقدّس. وحتّى الحقيقة الفلسفيّة هي، حسب ما يفيده الاشتقاق اللّفظي، لا تحجب، انفتاح به ينكشف الوجود بصورة تجعل الفيلسوف ما قبل سقراطي أميل إلى الاسترسال الشّعري منه إلى مجرّد المحاكمة البرهانيّة العقلية» (13). والمتفحّص لجملة هذه الشّواهد المتوالية، حول الحقيقة كمضمون مقدّس والفلسفة كأفق لاستشراف هذا المقدّس يدرك أنّ التّحول من الأسطوري إلى الدّيني كان تحوّلا في شكل التّعبير عن الحقيقة المقدّسة وليس انتقالا نحو سوفسطائيّة إلحاديّة فجّة.
2.من الحقيقة/ القداسة إلى الحقيقة الدّليل
لكنّ السّؤال المركزي الذي يثار في هذا المقام: كيف تطوّرت الحقيقة الذّاكرة (Alétheia) من دائرة القداسة الدّينيّة إلى دائرة الاعتبارات الوضعيّة واللاّئكيّة (Laïcisation)؟
«يذكر لنا Détienne الظّروف التي تحوّلت فيها الحقيقة المقدّسة من الفاعليّة الدّينيّة والسّحريّة إلى الشّرعيّة العقلانيّة والصّبغة الوضعيّة.
«ومن بين هذه الظّروف؛ نجد طرح المسائل الحربيّة والسّياسيّة والقانونيّة في مجالس شعبيّة ديمقراطيّة أو في مجالس التّقنيين. أي المختصّين في الموضوع المطروح وذلك بين القرن السّابع والسّادس قبل الميلاد. فالجدل والحوار والمناقشات وتبادل الآراء عوّضت الخطاب المقدّس النابع من ذاكرة الشّاعر وإلهام الكاهن. وفي هذا الطّور الانتقالي تتوسّط حركتان فكريّتان:- حركة الفلسفات الدّينيّة الصّوفيّة كالفيثاغوريّة وحركة السفسطة والبلاغة والشّعر اللاّئكي، والشّخصيّة التي تمثل المنعرج في تحوّل مفهوم (Alétheia) سيمونيدس 557 ق م  simonide de Céos الذي كان أوّل من جعل من الشّعر مهنة وحرفة (14) .
وبإدخال عنصر القداسة الذي يختصّ به الشّاعر إلى حقل المقابل المالي والقيمة الاستعماليّة النّافعة، احتجبت الحقيقة بالمعنى القداسي وعوّضتها مفهوم الدّوكسا (Doxa) والخدمة، وتنقلب وظيفة الذّاكرة إلى مجرّد تقنية من تقنيات التَّدوين، بالتّواشج مع أفول الذّاكرة المقدسة وإحلال خطاب الخدعة والاستخدام الذّرائعي للمعرفة مع مجيء السّفسطائيين.
وبالفعل، فهذا التّفسير يقدّم جزءا من الحقيقة ويحجب عنّا الجزء الآخر منها،  فإذا ما رجعنا وراجعنا  التحوّلات الكبرى في تاريخ الفلسفة بخاصّة لدى اليونان، فإنّ الفلسفة التي جعلت من قطب اهتماماتها “الحقيقة» لم تتمكّن لنفسها إلاّ في لحظة منعطف جوهري هو لحظة التحوّل من الفكر الأسطوري إلى الإدراك المنظّم للعالم، وبهذا الاعتبار فإنّ هذا التّصور التّقليدي للحقيقة بلغة الانثروبولوجيا الدّينيّة يماثل الحقيقة في شكلها الأسطوري لدى الثّقافات البدائيّة، أي قداسة الأصل والوظائف الأنطولوجيّة والاجتماعيّة والأخلاقيّة والنّفسيّة، وتبعا لهذا «يظهر إذن،  أنّ ميلاد الفلسفة قد واكب تحوّلين ذهنيّين عظيمين، ظهور فكر وضعي يتنافر وكلّ شكل من أشكال الخوارق ويرفض التّشبيه الضّمني الذي تقيمه الأسطورة بين الظّواهر الطّبيعيّة والعوامل الخارقة للطّبيعة؛ ثمّ ظهور فكر مجرّد يخلّص الواقع من قوّة التّغيير التي كانت الأسطورة تفرضها فيه، كما يقضي على الصّورة العتيقة لوحدة الأضداد ليقول بمبدء الهويّة»(15) .
أمّا المبرر الأكثر غورا من هذه المبرّرات التي تقدّم دوما ذاتها بصورة مستقلّة عن أيّ تأثير خارجي، وإنّما  بدأت بالمعجزة وفي الآن نفسه لا تؤمن بدور المعجزة، فقد قلنا أنّ الحقيقة كانت تستمدّ قيمتها من مصدرها المقدّس، من لدن الملوك أو الكهنة،  نظرا لموقعهم الخاصّ أو ماهيتهم و طبيعتهم السّامية، فإنّ دخول عنصر آخر من مصدر شرقي قد غيّر بصورة تدرّجية نظام المعيارية والحقيقة ضمن هذه الحقبة، إنّه خطاب «الرّياضيّات والهندسة التي نشأت في مصر واكتسبت نظام تنقّلها مع فلاسفة مثل طاليس، وتقدّم الرّياضيّات النّموذج غير المعهود للبناء الاستدلالي: هو ضرب من الخطاب المنطقي: اللّوغوس logos المستقلّ تمام الاستقلال عن الشّخصيّة التي تنجزه، وهو قابل  للتّكرار بإرادة أيّ فرد، ومتهيئ لأن ينتج حقائق استدلاليّة بذاتها بدون الرّجوع إلى أيّة ضمانة من أيّ سلطة خارجيّة عن قواعد التّكوين وآداء الخطاب ذاته، ولم تغب القوّة التّدميريّة للرّياضيّات عن المعاصرين الذين ما لبثوا أن أدركوا علاقتها مع الأشكال الجديدة للتّنظيم السّياسي والقانوني ممّا جرّبته المدينة الإغريقيّة في العصر نفسه. وهنا أيضا، عن طريق التّساوي بفضل الاحتجاج  والبحث عن الدّليل بدون الخضوع إلى أيّة سلطة، كانت الشّؤون العامّة يقرّر فيها في المجالس السّياسيّة كما في المحاكم» (16). ويبدو أنّه عنصر تبريري يمتلك وجاهته، لأنّ النّسق العلمي الرّياضي القائم على البرهنة والاستدلالات قد جرى تطعيمه بعالم المعيش التّفاعلي، أي العالم الذي يعيش فيه النّاس وفيه يحيون، فأضحت الفاصلة النّهائيّة تجد قوّتها في هذه القوى الاستدلاليّة أكثر من ايّة تفسيرات طبيعيّة أخرى، بخاصة وأنّنا أشرنا في العنصر السّابق إلى أنّ التّحوّل لم يكن قطائعيّا كليّا، وإنّما هو تحوّل في شكل التّعبير عن الحقيقة الدّينيّة من الصّورة الأسطوريّة إلى الصّورة البرهانيّة، وهكذا لم يضع المبدأ الدّيني في النّموذج الفلسفي الجديد، وإنّما جرى الاحتفاظ به وإسكانه مجدّدا في فضاء آخر يجابه التّحدّيات الضّاغطة بمنهجيّة مناسبة ضمن سياقها أي السّياق السّوفسطائي.
رابعا . خلاصات ونتائج 
وإذا ما سايرنا تحليلات جون بيار فرنان J.P Vernant في اشتغاله بأصول الفكر اليوناني، وتحوّلات هذا الفكر من دوائر الفكر الأسطوري إلى دوائر الانتظام الفلسفي؛ فإنّنا نستخرج عناصر نظريّة وتاريخيّة هي تواليا:
– أنّ التّفكّر العقلي لم يتكوّن لدى اليونان، ولا يتبدّى بصورة واضحة؛ إلاّ على المستوى السّياسي أوّلا، لأنّ السّياسة وهي على التّحقيق بنت المدينة كانت الأداة المركزيّة فيها هي تفوّق الكلمة على جميع الأدوات الأخرى للسّلطة، إنّها الأداة السّياسيّة ومعراج الوصول إلى الدّولة بامتياز. من هنا «لم تعد الكلمة هي الكلمة الطّقوسيّة والصّيغة الحقّة وإنّما المداولة المتناقضة والنّقاش والتّعليل. إنّها تفترض جمهورا تتوجّه إليه وكأنّه قاض يصدر الحكم الأخير برفع الأيدي، بين الفريقين الماثلين أمامه، إنّ هذا الخيار الإنساني المحض هو الذي يقيس قوّة الإقناع لخطابين، مؤمّنا فوز أحد الخطباء على خصمه»(17). 
وبهذا التّقرير فإنّ أفول التّأويلات الأسطوريّة لم يصبح ممكنا إلاّ في اليوم الذي أدار الفكر وجهته نحو النّظام الإنساني وسعى إلى استشكاله وتعريفه بذاته.
– إن وصل الصّلة بين مولد الفلسفة ومولد التفكّر حول اعتبارات سياسيّة في النّظام الإنساني؛ مؤدّاه أنّ جذور التّفكّر الفلسفي موصولة بالفكر السّياسي الذي عبّرت عن اهتماماته، واستعارت مفرداته في التّبليغ والتّدبير، وبهذا «فالعقل اليوناني لم يُصنع في العلاقة البشريّة مع الأشياء بمقدار ما صنعته علاقات النّاس فيما بينهم. وقد تطوّر من خلال التّقنيات التي تعمل على العالم أقلّ من تلك التي تسيطر على الآخر، والتي كانت اللّغة أداتها المشتركة: فنّ السّياسة والخطابة والتّعليم. فالعقل اليوناني هو ذلك الذي سمح بطريقة وضعيّة وواعية ومنهجيّة بالتّأثير على النّاس وليس بتحويل الطّبيعة. إنّ هذا العقل هو ابن المدينة، سواء في حدوده أو في تجديداته» (18) .
والمعنى الذي نستجليه في مقاربة «فرنان» للحظة التّمفصل بين التّأويل الأسطوري والتّماهي بينه وبين الحقيقة بما هي مصدر ثمّ أفول هذا التّحديد بنشأة التفكّر حول الإنسان/ المدينة، هو فقدان مملكة الحقيقة قيمتها، بإحلال لغة العقل والمنظور والنّقاش والاختلاف محلّ التكهّن والحكاية والرّواية؛ لأنّ دائرة الفكر الاجتماعي السّياسي هي من كبرى المحاضن التي تَتفتّقُ فيها المُمكنات العقليّة، وتتداخل فيها السّلطة بالمعرفة والفلسفة بالمنفعة، بما يجعلها في صلة تقابليّة ضدّية مع مفهوم الحقيقة بخاصّة لدى فلاسفة الثّبات أي: تلك التي تتأسّس على الانفصال عن أية دلالة خياليّة، ونشدان الموضوعيّة في التّفكير، واستخلاص القانون الكلّي.
هذا بحسب مقارنة «جون بيار فيرنان»، الذي أغفل الدّور العلمي الرّياضي الهندسي للتّراث الشّرقي الذي استجلبه طاليس منه، إذ أنّ «فرنان» لا يحدّثنا عن هذا الانتقال من التّفكّر حول اعتبارات أسطويّة إلى نشوء الفلسفة على أرض الخطاب السّياسي، فكيف لهذا العقل أن ينتقل بصورة مباشرة دون توسّطات معرفيّة تكون جسرا منهجيّا ورؤية منهجيّة تدار وفق مقتضياتها الممارسة السّياسيّة، إذن النّموذج العلمي الشّرقي كان هو من نقل سؤال الحقيقة من الحقيقة القداسة إل الحقيقة البرهان، وليست فقط الاعتبارات السّياسية هي سبب نشوء الخطاب حول المدينة.
الهوامش
(1)  عبد الرحمن بدوي، موسوعة الفلسفة، الجزء 3،  : منشورات ذوي القربى، 1429 ه، ص 217.
(2) هيجل، موسوعة العلوم الفلسفية، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، بيروت : دار التنوير 2008، ص 81.
 (3) عبد الرحمن بدوي، مدخل جديد إلى الفلسفة، وكالة المطبوعات، الكويت،  1975، ص 136.
(4) Didier Julia, Dictionnaire de la philosophie. Librairie  Larousse Parais 1964 p 311.
(5)  André Laland, Vocabulaire technique et critique de la philosophie, V2, N-Z PUF. Paris, 1988, p1197-1198
(6) محمد الشريف الجرجاني، كتاب التعريفات، مكتبة لبنان، بيروت (د.ط)،  1990،  ص ص 94-95.
(7) محمد علي التهانوي،كشاف اصطلاحات الفنون، تحقيق علي دحروج ج،1بيروت، ط1، 1997، ص 688.
(8) رجاة العتيري، الحقيقة عند اليونانيين القدامى وعند نيتشه، المجلة التونسية للدراسات الفلسفية، : العدد السابع أكتوبر 1988، ص 33.
(9)  برتراند أوجيلي، الحقيقة، ضمن كتاب : علي بنمخلوف و آخرون، مفاهيم الحقيقة، ترجمة عبد القادر قنيني، المغرب، بيروت: المركز الثقافي العربي، 2005، 54/55.
 (10) للأستزادة أكثر انظر: فاسيليس جي فتساكس، أفلاطون و الأوبانيشاد، لقاء الشرق بالغرب، جدل المقدّس في المنظور الفلسفي، الهندوسي اليوناني، ترجمة سهى الطريحي، سوريا : دار نينوي للدّراسات و النّشر و التوزيع 2010، ص 48.
(11)  محمد الجوة، الحقيقة المقدّسة، ضمن كتاب : محمد الجوة وآخرون، الإنسان والمقدّس، تونس : الجمعية التونسية للدراسات الفلسفية، دار محمد علي الحامي، 1994، ص 10.
(12) المرجع نفسه، ص 12.
(13) المرجع نفسه.
(14)  المرجع السابق، ص 34.
(15)  J.P Vernant, Mythe et pensée chez les Grecs, T2  FM. 1971. p. 101- 114
أورده محمد سبيلا وعبد السلام بنعبد العالي «التفكير الفلسفي» سلسلة دفاتر فلسفية دار توبقال للنشر المغرب ط3 2008، ص188.
(16) برتراند أوجيلفي ، الحقيقة، مرجع سابق، ص 47.
(17) جون بيار فرنان، أصول الفكر اليوناني، ترجمة سليم حداد، مجد المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر و التوزيع بيروت،  2008ص 42.
 (18)  جون بيير فرنان، أصول الفكر اليوناني، مرجع سابق،، ص 119.