تمتمات

بقلم
رفيق الشاهد
مفارقات (2)
 مثل كلّ مسلم تمنّيت على ربّي أن يكرمني ويسهل عليّ زيارة البيت الحرام. وتمّ ذلك بتوفيقه حيث كنت دائم الوثوق من أنّ اللّه ربّي سييسّر لي أداء العمرة في أوّل مهمّة عمل بالمملكة السعوديّة. وكنت طلبت من زوجتي التي كانت ترغب هي أيضا في أداء هذه الشّعيرة أن تتأهّب لأوّل فرصة تتاح لها وألاّ تنتظر تفرّغي لمرافقتها. وتمّ لها ذلك، ولم أتأخر بعده إذ توفّرت فرصة السّفر في زيارة حكوميّة إلى المملكة مدّتها طويلة بما يسمح لي بأداء العمرة التي طالما انتظرتها دون تسرّع ولا عناء.
استجاب اللّه لرغبتي كما استجاب لدعاء نبيّه إبراهيم عليه السّلام ورسوله ﷺ بجعل البلد آمنا وأن يرزقه من الثّمرات، فجعل البيت معمورا على الدّوام بعباد اللّه يأتون إليه «رجالا وعلى كلّ ضامر يأتين من كلّ فجّ عميق». في يومي الثّاني فقط من وصولي إلى جدّة، اتصل بي صديق، ثمّ زارني بالفندق الذي نزلت فيه، وكان في الموعد المحدّد ليلا بعد صلاة العشاء. رافقته الى فضاء تجاري يعجّ بالمتسوّقين وأولئك الذين خرجوا للتّرفيه. وأثناء حديثنا عرض عليّ مرافقته إلى العمرة. ففرحت بالعرض وقلت له «إن شاء اللّه. هذا يسعدني. سأعلمك لمّا أجهز». فقال: «فلنتوكل». لم أفهم. فقلت مستغربا: «ماذا تقصد؟». فأردف: «نتوكّل الآن. كلّها ساعة زمن ونكون بالحرم. هيّا بنا.»
وكان ما أراد، وما شئنا إلّا أن شاء اللّه من قبلنا، وحتّى قبل أن أستعدّ حيث لم يتسنّ لي بعدُ معرفة ما يجب القيام به وما يجب تجنّبه بالبيت الحرام، ممّا جعلني في حرج لم يُخْف على صديقي الذي صارحته به. 
وفي الحين انطلقنا. ومن أقرب محل تجاري اقتنينا أحرمة وهي متوفّرة في كلّ المحلاّت الكبيرة والصّغيرة. رجعنا إلى غرفتي بالفندق، فاغتسل كلّ منّا وأحرمنا، وعند منتصف اللّيل انطلقنا من جدّة نحو مكّة مهوى فؤادينا، نلبي طول الطّريق. تلك اللّيلة كانت ليلة جمعة، وكنت إضافة إلى شوقي لزيارة البيت العتيق وانتباهي جيّدا لتوصيات صديقي حول ما يتعيّن للقيام بالعمرة على أحسن وجه، كنت مندهشا حقّا منذ دخلنا الطّريق السّريعة الرّابطة مباشرة بين جدّة والحرم المكي من انسياب الحركة المروريّة في الاتجاهين رغم العدد الكبير للسّيارات، ومن الأنوار الزّاهية التي تشعّ من كلّ اتجاه منبعثة من البنايات بل الأبراج الشّاهقة التي بانت لنا ونحن على مشارف مكّة. 
الزّيارة كانت مكوكيّة وغير متوقّعة. أراد صديقي أن يكرم ضيافتي وأن يوفّر لي هذه الخدمة عربون توطيد صداقة قديمة، فجاءت بذلك دعوته سريعة وعفويّة. وحتّى لا أثقل على مضيّفي بمزيد كرم، عملت على أن أختصر الزّيارة في أقلّ وقت ممكن، فسايرته مأخوذاً ومشتّتا بين الانبهار والشّوق وجاذبيّة المكان وما يفرضه المقام من خشوع، وبين متابعته حتّى لا يضيع منّي وسط الجموع الغفيرة من المعتمرين التحقنا بهم يطوفون. وبدأنا طوافنا كما أوصاني بالإشارة من بعيد إلى الرّكن اليماني الذي بدا بعيد المنال لبلوغ الحجر الأسود. 
ابتدأنا إذا الطّواف الأوّل بالدّعاء «بسم اللّه واللّه أكبر، اللّهم إيماناً بك، وتصديقاً بكتابك، ووفاء بعهدك، واتباعاً لسُنة نبيك محمد ﷺ»، وأدّينا السّبع جولات مشيريْن في كلّ مرّة إلى الرّكن اليماني. 
فكان يسبقني في كلّ خطوة وأنا إلى جانبه أفعل كما يفعل وأعيد ما يقول من أدعية طوافا وسعيا. وكنت أتبعه حتّى آخر مرحلة وقفنا عندها وهي الحلق، فكان خفيفا. ثمّ انتقلنا إلى المحلاّت التّجاريّة المجاورة واقتنينا أكلة خفيفة، وانطلقنا عائدين بمشاعر تفيض خشوعا وامتنانا.
جدّة مدينة تابعة لمنطقة مكّة المكرّمة لا تفصلها عن الحرم المكّي غير مسافة ساعة زمن سيرا بالسّيارة. وتكتسب منطقة مكّة المكرّمة أهمّية خاصّة كونها تحتضن المسجد الحرام قبلة المسلمين ومهوى أفئدتهم، والمشاعر المقدّسة التي يفد إليها ملايين المسلمين على طول أيّام السّنة زيارة وعمرة أو في موسم الحجّ الأعظم. وتعتبر جدّة من أقدم مدن المملكة وأكثرها نشاطا. وهي معبر الزّوار من حجاج ومعتمرين، تستقبل منهم حشودا من كلّ أنحاء العالم يفدون بحرا وجوّا، ولابد لهؤلاء من أن ينزلوا بالمدينة العتيقة «البلد» ليكتشفوا لمحة عن تاريخ جدّة وعراقتها، ويجدون من المأكولات ما يناسبهم، ويكتشفون منها ما طاب لهم. ولا بدّ أن يتبضّعوا هدايا للأهل والأصدقاء، وتزيدهم شوقا لزيارة الكعبة المشرّفة والمدينة المنوّرة حيث قبر الرّسول ﷺ وأوّل مسجد أقامه بيديه الشّريفتين. 
بعد مدّة غير طويلة، استعددت للقيام بالشّعيرة مرّة ثانية، وذلك بالتّعرف جيّدا على شروطها ومناسكها والدّعاء المأثور في مختلف مراحلها. وكنت أتوق مثل كلّ المعتمرين إلى أن أتلمّس ولو لمرّة واحدة الحجز الأسود الكريم رغم معرفتي مثلهم أنّ عدم لمسه لا يبطل العمرة. بل الأفضل ألاّ يزاحم المعتمر أول الحاج، فلا يؤذي النّاس أو يتأذّى بهم.
بعد أن استرشدت، اخترت أن تكون زيارتي هذه في يوم غير ذي الذّروة وليلا، تفاديا للازدحام وعسى أن أجري الطّواف والسّعي في أريحيّة وأن أبلغ الحجر الأسود الكريم. وقبل موعد الانطلاق تهيّأت للإحرام واتخذت البيت الذي استأجره بجدّة ميقاتا. فخلعت عنّي كلّ مخيط، ثمّ اغتسلت وأحرمت وشرعت في ترديد «لبيك اللّهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إنّ الحمد والنّعمة لك والمُلك، لا شريك لك». وجاءت السّيارة وأخذتني إلى مكّة مسافة ساعة من الزّمن كنت أردّد خلالها التّلبية بصوت يكاد لا يسمع حتّى لا أحرم السّائق الذي بجانبي من التّحدث إلي ولكنّه ظلّ صامتا حتّى أنزلني أمام بوّابة اتفقنا أن نلتقي عندها في نفس المكان حين أكمل مشواري، فتقدمت نحو المدخل المؤدّي مباشرة إلى المصلّى. 
تقدّمت برجلي اليمنى ودعوت الدّعاء المستوجب: «بسم اللّه والصّلاة والسّلام على رسول اللّه، اللّهم اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك، أعوذ باللّه العظيم، وبوجهه الكريم، وبسلطانه القديم، من الشّيطان الرّجيم». ثمّ أديت ركعتين قبل أن أتسرّب إلى المطاف، متسلّلا بين الطّائفين فرادى وجماعات متماسكة لا يمكن اختراقها، في اتجاه الحجر الأسود لعلّي استلمه بيدي اليمنى وأقبله.
الطواف لا ينقطع ولا تتوقّف الحركة بين الصّفا والمروة ولا في أيّ مكان من الحرم. كنت أظنّ أنّ الزّيارة متأخّرا قد تكون أقلّ ازدحاما، ولكن تيقّنت أنّ كلّ ما خطر على بالي فكّر فيه الآخرون قبلي. في الأخير توصّلت إلى الاقتراب من الكعبة الشّريفة ولكن بعيدا عن الحجر، كما لم أتمكّن من اختراق الطّبقة الأخيرة الصّلدة من البشر المتزاحمين، ممّا جعلني أعْدل عن رغبتي وأتراجع إلى الوراء، ولكن هيهات لم يعد سهلا حيث حوصرت من جميع الجهات وعصرت عصرا، ووجدتني مدفوعا أطفو بين تيارات تحرّكني دون إرادة.
بين أجسام وكتل بشريّة من رجال ونساء تهلّل وتكبّر كنت أئن بينهم وكاد ينقطع نفسي، وكنت مسالما كما تعوّدت دائما، أفضّل ألاّ أزاحم حتّى لا أؤذي النّاس أو أتأذى بهم. فهل يجوز ببيت اللّه على بعد مترين من جدار كعبته أن أحتضن أو تحضنني امرأة أنا غريب عنها، لا لشيء إلاّ لأنّنا التقينا في المكان والزّمان على الرّغبة في ملامسة جدارها؟ لا أعرف كيف لفظها عنف الموجة ليدفعها أمامي بين ذراعي. رفعت يدي وتحلحلت ما استطعت لأمنع نفسي من ملامستها، ولكن التّيار كان أعنف، جعلها تدور حول نفسها لتستقر إلى صدري وجها لوجه. أشفقت عليها لمّا قرأت في عينيها حشمة وحياء، وأشفقت عليّ حين قرأت في عيني اعتذار المضطرّ.
اعتذرت سابقا اعتذار المضطرّ في وضع مماثل حفظ في ذاكرتي منذ عقود صورة لم أنس عنفها. كنت يومها في زحمة النّقل العمومي المعتادة في تنقلي ساعة الذّروة من كلّ صباح في اتجاه مقرّ عملي بالقرب من المنطقة الصّناعيّة. يبكر إليها العملة بأعداد غفيرة من رجال ونساء من كلّ صوب، حيث تتحمّل الحافلات أكثر بكثير من طاقة استيعابها من البشر من كلّ الأعمار ولا مجال لأن يؤجّل أحدهم سفرته إلى الحافلة الموالية التي إن لم توصلهم متأخّرين عن توقيت العمل لن تكون أقلّ ازدحاما. وحضرت الصّورة أمام عيني حقيقة مماثلة للوضع الذي أنا فيه. تأسّفت واعتذرت كثيرا للمرأة التي كانت بجانبي ولما استدارت مضغوطة من كلّ جانب انحصرت ثيابها وانجذبت كاشفة صدرها بالكامل في وجهي ووجوه من حولها. تلك ضريبة المرأة العاملة التي شقّت طريقها لإثبات وجودها ودورها في البناء والتّقدّم أو دفع بها العوز خارج البيت فشُقّ جيْبُها. نعم شُقّ جيب المرأة، ولكنّها لم تتعرّ المسكينة حين أسعفها حياءها وسترها.
استغفرت وحوقلت وتسمّرت بما أوتيت من قوّة ضدّ التّيار، ويديّ مرفوعتين لأسلك للخلف وخارج المعجنة، وقد تخلّيت عن رغبتي في ملامسة الكعبة. وخرجت وكدت أترك إزاري خلفي لولا ستر اللّه الذي مكّنني منه في آخر لحظة. فمسكته وتشبّثت به يطوّقني حتّى وجدتني في مأمن في مسار الطّواف أعدل الإزار وأثبته ومبتعدا إلى مدارات أكبر وأقلّ ازدحام. وأنا أعدل اضطباعي تاركا كتفي الأيمن عاريا، سألت ربّي: «أردت احتضان الكعبة لا احتضان امرأة»؟ وواصلت السّير حتّى بلغت الرّكن اليماني من جديد. استقبلت الحجر الأسود، أشرت إليه رافعا يدي اليمنى لأبتدئ الطّواف «بسم اللّه واللّه أكبر، اللّهم إيماناً بك، وتصديقاً بكتابك، ووفاء بعهدك، واتباعاً لسُنة نبيك محمد ﷺ» وانطلقت للطّواف سبعا داعيا حينا وتاليا ما تيسّر حينا أخر، ومردّدا ما جاء على بالي من عبارات الذّكر والشّكر للّه وما أقتبسه ممّا أسمعه من الطّائفين من حولي. 
تلك سبع جولات كاملة مشيت ثلاثتها الأولى رملا وأدّيتها كلّها على أوسع مدار لا هروبا من الكعبة الشّريفة ولكن تجنّبا لاحتضان امرأة. وكلّما مررت بالحجر الأسود كبّرت مشيرا إليه بيدي اليمنى وداعيا «ربّنا آتنا في الدّنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النّار». وبين بداية كل طواف ونهايته كنت أترحّم على والديّ وأخي وأكثر من الذّكر والدّعاء لزوجتي ولأولادي وبناتي وإخوتي وأخواتي وأحبائي وكذلك الأصدقاء الذين تذكّرتهم. أدعية جماعيّة وأخرى فرديّة خاصّة بطلب الشّفاء. وفي كلّ شوط لا بدّ أن يتسرّب بين هذه الأدعية السّؤال الذي لم أستطع درأه «أردت احتضان الكعبة لا احتضان امرأة». فتتسلّل منّي للّه ربي ابتسامة استحليتها لأنّه أعلم بسرّها. 
وبنفس الابتسامة ملت إلى مقام ابراهيم، ولما بلغته قرأت قوله تعالى: «واتخِذوا من مقام إبراهيم مصلى» ثمّ صلّيت ركعتين، توجب عليّ بعدها الرّجوع إلى الحجر الأسود لاستلامه إيذانا بختم الطّواف. ولكنّني استدرت في اتجاهه واكتفيت بالإشارة إليه والبسمة لم تفارق شفتي.
واتجهت إلى باب الصّفا للسّعي«إنّ الصّفا والمروة من شعائر اللّه»، وفي الممرّ يوصى بالشّرب من ماء زمزم. وإن كنّا في بلداننا نوصي به الحجيج للتّبرك به في كأس صغيرة مثل الدّواء، فكيف بنا أمام هذه الغزارة والوفرة لا نشرب حتّى نرتوي من خير ماء على وجه الأرض؟ شربت وزدت ولولا خوفي من الإفراط ما رفعت عنه يدي وأنا اشتهيه. ثمّ واصلت في سيل متواصل من المعتمرين، وارتقيت معهم إلى الصّفا فاستقبلت مثلهم الكعبة ورفعت يديّ حمدا للّه وكرّرت ثلاثا «لا إله إلاّ اللّه، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده» ثمّ انحدرت نحو المروة ماشيا ومسرعا قليلا في موضع الهرولة على مسافة قصيرة مستنيرة بأضواء خضراء. 
بعد سبعة أشواط بين ذهاب وإياب مشبّعة بالذّكر والدّعاء وما تيسر من آيات القرآن الكريم خرجت من جهة المروة. ولإتمام متطلّبات الشّعيرة اكتفيت بأحد أشباه الحلاّقين الذين انتصبوا واقفين معترضين المعتمرين عند خروجهم يعرضون عليهم خدماتهم بتحريك شفرات المقص بين اليدين. وقفت عند أحدهم ودونما انحناءة رفع يديه مباشرة إلى رأسي واشتغل دقيقتين. فكان متدرّبا جيّدا إذ سمعت حركات المقص في جميع جهات الرّأس ولم أر شعرا تساقط. دفعت له وانصرفت مباشرة لملاقاة السّائق الذي ينتظرني.
في طريق العودة لم أهتم لا بالسّائق ولا بأيّ شيء انتصب أمامي على حافتي الطّريق، لا لشيء إلّا ليشد انتباهي. شيء وحيد كان يشغلني «لماذا لم يفكّر القائمون على الحرم المكّي لتفادي احتضان امرأة عوضا عن احتضان الكعبة؟» كنت مثل ذلك الشّيخ الذي يشارك في دروس التّعليم للحصول على رخصة سياقة. فلمّا عرضت عليه وضعيّة السّيارات الملوّنة في مفترق الطّرق وسؤال لمن الأولويّة؟ أطرق ولم يطل كثيرا ثمّ أجاب بثقة العارف المتمرّن: «نسايس بعضنا البعض ونمر». فعلا، في غياب المعايير يلتجأ إلى مثل هذه القاعدة أولى قواعد النّظم والقوانين القائمة على الأمر الواقع. هكذا وجدتني في مفترق طرق أيديولوجيّة وفكريّة تتصارع لافتكاك الأولويّة ولا قانون ينظّمها سوى ما قاله الشّيخ. 
هزّني السّائق كأنّه يوقظني من غيبوبة قائلا بعربيّة متلعثمة: 
«عفوا، ما لي أراك مهموما مبتسما؟ تعوّدنا في مرافقة المعتمرين الصّمت ذهابا احتراما لهم منشغلين بالتّلبية والذِّكر. أمّا إيابا فنستمع إلى ما يفيض من مشاعر الرّضا والانشراح. فهم حينها كثيرو الكلام، ومناسبة لنا للتّثقّف والتّعرّف على عادات شعوبهم وأفكارهم».
قلت وأنا أفكر في صورتي مهموما مبتسما: «لا بأس أنا بخير. فقط انشغلت بهمومنا المضحكة فأخذتني بعيدا ولم أنتبه. أين نحن من الطريق؟»
قال: «أنت معتمر غير طبيعي. نحن في منتصفه ولم أجرؤ على قطع تفكيرك»
قلت : «أنا معتمر مثل كلّ المعتمرين. فقط جلست حيث لم يجلسوا، فشاهدت ما لم يشاهدوا وسألت ما لم يسألوا».
قال: «ولكن في كلّ الحالات أنت منبسط ولم تفارق البسمة شفتيك. ما سرّها؟»
قلت : «البسمة سرّها عند ربّي ولا تعكس ما في النّفس من ضيق وحيرة»
قال: «غريب واللّه. وهل لي أن أعرف سبب هذا الضّيق والحيرة؟»
قلت : «الغريب أن تنزع منك كرامتك الإنسانيّة في موضع انبعاثها، وأن تبقى المناسك كأنّها احتفال بالرّجوع إلى الجاهليّة».  
«هنا انتهت الرّحلة، وصلنا إلى من حيث انطلقنا»، قال السّائق في حيرة نقلتُها إليه بالعدوى. ثمّ أردف بلغة مزدوجة بين العربيّة وإنجليزيّة وتطغى عليهما الأردو: «لا يهمّني أن تعطيني أجرتي. فقط أطمع في التّحدث إليك لفهم ما يشغلك. لديك رقم هاتفي فلو تفضّلت يوما ودعوتني على شاي أو قهوة أكون ممتنا».
دسست في جيب سترته أوراق نقديّة تفوق قيمتها ما اتفقنا عليه. وطمأنته بأن يكون له إن شاء اللّه ما سأل، وتركت سبيله.