همسة

بقلم
محمد المرنيسي‎
لافتات مهترئة
 (1)
خرجت كالعادة قبيل صلاة الظّهر، وفي الطّريق استوقفني مراهق، وسألني بأدب عن دار فلان الذي توفّي ليلة البارحة، وكان معه شيخ مسنّ تجاوز الثّمانين حسب تصريحه، وهو من أقارب المتوفّى، قدم من البادية لحضور الجنازة، ويبدو أنّ المراهق هو دليل الشّيخ للوصول إلى  بيت العزاء .
وكان الواجب أن ارافقهما الى المكان المطلوب رحمة بالشّيخ. وبدافع الفضول سألت الشّاب المراهق عن سكناه، ومستواه الدّراسي، والمؤسّسة التّعليميّة التي يدرس بها، فأخبرني بعفويّة أنّه من نفس المدينة، يدرس في السّنة الأولى من البكالوريا..
سألته مرّة أخرى عن علاقته بالمتوفّى، فأجاب بعفويّة أيضا ودون تردّد ولا تأثّر:أنّه جدّي.
كتمت انفعالي وتأثّري وسألته: «هو إذن والد أمّك».قال: «نعم» .قلت:»رحمه اللّه، ورحمنا معه». .ويبدو أنّ المراهق الذي كان في عطلة مدرسيّة لم تكن له نيّة حضور جنازة جده، لولا نزول هذا الشّيخ على أسرته؛ ليدلّه على بيت قريبه المتوفّى، فكان حظّ المراهق أن يتولّى هذه المهمّة مكرها لإرضاء الأسرة  والشّيخ.
وصلنا الى المكان، فوجدنا الخيمة منصوبة أمام البيت، وقد أضحت علامة للجنازة في عرفنا الجديد. أدّيت واجب العزاء لبعض أهل المتوفّى، ثمّ تابعت طريقي متعجّبا متحسّرا على ما وصلت إليه أسرنا من إهمال للرّوابط العائليّة، وهذا التّفكّك الأسري الذي يتنامى في المجتمع بشكل مخيف.
شابّ في سن البلوغ لا يعرف بيت جده، ولو سألته عن الممثّلين والرّياضيّين والمهرّجين لتحدّث بحماس وهمّة، وأفاض في التّفاصيل والأسرار التي لا يعرفها الكبار. 
(2)
حدّثني صديقي أبو العجائب قال: «وصلتني رسالة قصيرة على الجوّال بلغة أجنبيّة، مفادها أنّي مطالب بأداء ضريبة، فعرضت الأمر على قريب لي، فنصحني بأداء المبلغ الهزيل، وعدم متابعة البحث عن حيثيّات هذه الضّريبة؛ ربحا للوقت، وخوفا من إضاعة الجهد فيما لا ينفع. ولكنّي عزمت على التّحقّق من أنّ هذا الأمر يعنيني أوّلا، ثمّ معرفة نوع هذه الضّريبة وتاريخها. وبعد يومين من هذا الإشعار اتجهت إلى إدارة الضّرائب، وأطلعت المكلّف بالاستقبال على رسالة الجوّال، فأرشدني الى الطّابق الأول من العمارة، وهناك أحالني أحدهم على الطّابق الثّاني، وفيه مكاتب مرقّمة عن اليمين والشّمال، اقتحمت أحدها فوجدت سيّدة هناك، وأخبرتها بالموضوع، فدلّتني على مكتب في الزّاوية اليسرى، وإذا بموظّفة تقف معنا، فسألتْها عن هذه الرّسالة فقالت:»لقد رأيت عدّة رسائل من هذا النّوع في هذه الأيّام، وعلى أصحابها أن يتّجهوا الى الخزينة العامّة؛ لأنّها المعنيّة بهذا الأمر».
انتقلت الى الإدارة المذكورة، فأخبرت من جديد بإدارة أخرى في مكان بعيد نسبيّا، وعند وصولي إليها وُجّهت الى إدارة مجاورة، وهناك انتظرت دوري لأقابل الموظّفة المكلّفة بهذا النّوع من الضّرائب، وعندما قدّمت لها الرّسالة على الجوال دوّنت الرّابط على الحاسوب، وبعد لحظات، أخبرتني أن هذه الضّريبة ترجع الى عام 2007 وأنّ المبلغ تضاعف بسبب التّأخير، سألتها متعجّبا: «كيف رقدت  هذه الضّريبة سبعة عشر عاما ثمّ بعثت من جديد، ولم أتوصّل بأيّ إشعار من قبل؟» فكم من رسائل ستثير في نفوس قرائها أحزانا وحسرات وكم منها من سيظلّ طريقه ويضيع؟! المؤلم ان قطاعا اداريا مهما في الاقتصاد يدار بهذا الأسلوب ومن يدري كيف تسير الأمور في قطاعات أخرى؟»
قلت لصاحبي: «بعض الشّر أهون من بعض، قد نكون نحن هنا في صحّة وعافية، إذا ما قارنتَ واقعنا بواقع كثير من غيرنا».
(3)
في لقاء عابر مع أحد معارفي، حكى لي بألم وحسرة عن قريبة له توفّيت منذ أيام فقط.قال: «كنت أتحدّث هاتفيّا مع بعض أفراد الأسرة في بلاد الغربة في وقت متأخّر من  اللّيل، وإذا بخالتي تدخل على الخطّ، وتبادلنا عبارات التّرحيب والمودّة، ومواقف مضحكة للتّرفيه والاستئناس والمرح، وبعد انتهاء المكالمة بنحو السّاعة أُبلغت هاتفيّا أنّ خالتي في وضعيّة صحيّة حرجة، فخرجت مسرعا بسيارتي وحملتها الى أقرب مصحّة، وقد لاحظت عند إخراجها من السّيارة أنّها فارقت الحياة، أدخلت الى غرفة الإنعاش، ورُكّبت لها الأجهزة للإنقاذ،وظلّت هناك الى مساء الغد، حضر أبناؤها وأقاربها وطالبوا برؤيتها، فإذا بالمصحّة تعلن عن وفاة المريضة منذ فترة قصيرة».
بادرت المصحّة بتسريع الإجراءات الإداريّة؛  لتسليم الجثّة الى الأسرة المكلومة بعد أداء حوالي خمسة عشر ألف درهم عن المدّة القصيرة التي قضتها الجثّة في غرفة الإنعاش. ومثل هذا الحدث وغيره يتكرّر في بعض المصحّات التي تتكاثر بشكل مريب في الأحياء الجديدة من المدينة.
ومن أغرب ما سمعت عن هذه المصحّات التي تتاجر في المرضى، أنّ مريضا دخل الى مصحّة مشهورة لإجراء عمليّة جراحيّة على العين، فإذا بالفريق الطّبّي يقوم بعمليّة استئصال المرّارة للمريض، وقد فوجئت الأسرة بهذا الحدث الذي يدلّ على انعدام الضّبط وغياب الضّمير المهني، فكيف يشرع في عمل كهذا دون الرّجوع إلى الملفّ الطّبّي للمريض والتحقّق من هويته؟
(4)
عند استعراض الواقع في جميع الاتجاهات يلاحظ المتأمّل العاقل أن حياتنا تخضع لنظام طبقي صارم يتكوّن وينمو ويتصارع وفق مخطّط خال من القيم الثّابتة، ومشبّع بالتّهافت على التّفاهات والشّهوات والبطولات الزّائفة.
يتحكّم في هذا النّظام البائس دول ظالمة تفرض على العالم مخطّطا للتّدمير والتّخريب، بواسطة لائحة طويلة من المنظّمات والهيئات والمجالس؛  بهدف التّحكّم في كلّ المصادر والموارد الطّبيعية لكثير من الدّول، عن طريق تنصيب حكّام ضعاف، ينفّذون الأوامر، خوفا من الإطاحة بهم، يسطون على ما بقي من الموارد، ويتركون الحشيش والنّوى لمن دونهم، والكلّ يحيا في عالم متوحّش، لا سلطة فيه الّا للقوي الجسور، وعلى الضّعيف الهرب والاختباء والحذر الدّائم في كلّ وقت وفي أي مكان.
نظام يقوم على الرّعب والإرهاب، وأنّ رفع لافتات بشعارات مزيّفة كالحرّية والعدل والمساواة وحقوق الإنسان والصّحة والأمن الغذائي وغيرها، شعارات تحمي مصالح الظّلمة والمجرمين، لإطفاء نور الحقّ، والحقّ غريب في بيئة فاسدة نتنة، يتصارع فيها أرباب المال والجاه والسّلطة دون استراحة أو ملل، لا يتّعظون بمن مضى من أمثالهم ولا تردعهم النّوائب والمحن حتّى يفاجئهم المصير المحتوم.
(5)
مساكين أهل الأهواء، أولئك الذين فقدوا معالم الطّريق، وتاهوا في أرض موحلة يقودهم الهوى الى الرّدى، وسوء العاقبة، يحسبهم الجاهل أسعد النّاس، وهم في ميزان الحقّ أشقى الخلق. أولئك الذين يكذبون على النّاس بمظاهر خادعة، من هيئات، وأقوال وأفعال لا صلة لها بالحقّ والصّدق والإخلاص، وإنّما هي مصائد لجمع المال، وطلب الرّفعة والجاه، وتجميل الصّورة بأصباغ برّاقة، لا تلبث أن تنكشف الحقيقة، مهما حاول أصحابها إخفاء الوجه الكريه للشّخصيّة الهاربة من النّور الى الظّلام، وشتّان بين من يعيش في نور الحقّ، وبين من يعيش في ظلام الباطل، فلا تغتر بما يدعو إليه أهل الباطل والأهواء؛ لأنّهم أغبياء وأشقياء،  ﴿وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ﴾(الأحزاب: 4).