محراب الأدب

بقلم
د.جهاد معلى
الأحكام الجاهزة بين التصديق والتحقيق (1-2)

  لعلّ المعارف المتقادمة ما تفتأ تخضع لإعادة النّظر فتكون في مواجهة تأويليّة لا يقر لها قرار مع المعارف الجديدة إذ تستند إلى نشاط حدسي كليّ فتدعو الذّات إلى النّظر في المعارف السّابقة لإدراك أهميّتها ولفكّ شفرات النصّوص، لكنّها ليست معارف ثابتة يقينيّة إنّها تقتضى إعادة النظر والتدقيق والتمحيص عبر آليّة الشكّ التي تتوسّلها الذّات المؤوّلة الباحثة عن الحقيقة، من أجل ذلك تكون النتائج المعرفية التي إليها توصّل السّابقون في حالة من الإرجاء المستمرّ إذ أنّ الذّات المؤوّلة تنطلق في مقاربتها لنصّ من النصّوص من مستند يتمثّل في معطيات ما قبليّة تولّد مسندا بعده، فتتعاظم المسانيد وتكبر دائرة المعارف، ويحيلنا ذلك على الدّائرة الهرمينيطقية (le cercle hermentique) وهي آليّة لتحصيل المعارف، ويعني أنّ تأويلنا للنّصوص لا يمكن أن ينطلق من العدم، فالقائم بالتأويل (l’interprétation) يسعى إلى فهم النصّ إلاّ وهو مسلّح بجملة من المعارف السّابقة من تراث وذاكرة وتجارب وما إلى ذلك وهو ما يسمّى بالحاصل(1).

هذا الحاصل ليس له وجود مستقلّ لأنّنا نتمثّله في إدراكنا ثم نوظّفه توظيفا جديدا فهو لا يوجد إلاّ من خلال وعينا، والتّحصيل المعرفيّ وبلوغ الحقيقة يعتمدان الشكّ الّذي يرتكز على عدم التسليم المطلق بما هو موجود، وهي وسيلة ترفض الوصول والاكتمال ولا تبغي عن تحرير العقل من جمودّيته حِولا، وبما أنّ الشكّ مسلك عقليّ نحو الاستدلال والحجاج وبناء الحقائق باعتباره يستند إلى العقل وإلى أصول منطقية معيّنة فإنّ ذلك يدفع المؤوّل إلى إعادة النظر في الأحكام المسبقة فلسنا قادرين على قراءة النصّ الا بتوقّعات معيّنة أي بإسقاط مسبق، وعندما نراجع تلك الإسقاطات السّابقة فإنّنا نضع أمامنا إسقاطات جديدة من المعنى(2).
 فليست القضيّة ماثلة في الأفكار السّابقة في حدّ ذاتها بل في طريقة توظيفها، والتّي تقوم أساسا على الشكّ وفي هذا السّياق يتنزّل بحثنا في خمسة عناصر وهي الطّلل والمدح والكرم وصورة الفتى الجاهليّ والحسد، سنروم من خلال هذه الأشياء أن نبيّن أنّ إعادة قراءتها قصد مراجعتها قد يكسب قصائد البحتري إهابا تأويليّا فيه إضافة وخرق وتجاوز، ويكون ذلك نتيجة المواجهة بين الأحكام السّابقة عن تلك الأشياء وما نشأ من معنى جديد، فالمعاني المتقادمة لم تخلق وتسيّج وإنّما هي من إنشاء الذّهن البشريّ الّذي ما ينفكّ يراجع ما أنشأ للتّحقق. وهذه العمليّة الفكريّة التي تقوم بها الذّات تسعى دائما للوقوع على حقائق الأشياء من خلال معاشرتها ومعاقرتها، وهو من طبيعة ممارسة الأشياء، لذا لم يكن لهذه معنى أوّلي مودع فيها في المنطلق إنّما معنى الأشياء بما أنّه يحدث عن طريق الممارسة معنى مكتسب.(3)
 وسنسعى إلى إثبات أنّ معاني هذه الأشياء لا تحمل صفة الثّبات، بل إنّ المعانى الثّاوية في أغوارها في حالة مساءلة دائمة طالما أنّ القائم بالتّأويل دائم البحث والمراجعة والشكّ، فهو لا يبلغ إذن نتيجة نهائيّة، لأنّه يعمد باستمرار لاستقصاء ممكنات الوجود.(4)
 ذا هو مقصدنا الأسّ من هذا البحث ونحن نمضي في سبيل إرساء مغامرة تأويليّة ترجّ مخزون الأفكار الجاهزة وتأتي بالتسليم المطلق للأحكام السّابقة بعيدا وتخترق بالشكّ الحاصل وتنشئ عوالم من الحقيقة، فلئن كان الشكّ يرافقه معنى الرجّة والخلخلة في المعارف والمفاهيم فإنّه تأکید لوجود ولعمليّة فكرية، لابدّ إذن من التحقّق من المعارف والتثبّت من صحّتها ومن صحّة نتائجها من خلال التفكير الدائم القائم على الشكّ، وسنحاول بنيّة إحتواء الشكّ في صلبه إمكانا لبلوغ الحقيقة من خلال نماذج من شعر البحتري.
إنّ النّاظر في النصّوص عليه أن يستحضر لها ما يناسبها من المعطيات السّابقة ليدركها وليستجلي معانيها ولعلّنا حين نتحدّث عن المعطيات السّابقة فإنّنا نتحدّث عن بناء معرفيّ تراكمي لا يحصى عددا من أجل ذلك ينتاب العقل السؤال التالي، هل تتناسب كل المعطيات السّابقة لتأويل نصّ ما أم يجب للعقل أن يتدخل للتّحقيق في مدى نجاعة بعض المعطيات من غيرها ، من هنا يكون الشكّ وسيلة تتكفّل بتأسيس معرفة لاحقة مستندة إلى معرفة سابقة قامت على إعادة قراءتها وتفكيكها وإعادة صياغتها، فيغدو الشكّ في ما سبق مطيّة لفهم الكيان الذي يحتاج دوما إلى المساءلة الوجوديّة.
فالتاريخ لا يعيد نفسه بل ينبثق من قرار جملة من المنطلقات التي تكون في حالة إرجاء مستمر والالتفات إلى الماضي في قراءة النصّوص يؤكد أن المفاهيم المستجدّة لم تنبجس من عدم، فالمعاني في المفهوم الواحد تبنى بصفة تعاقبيّة واحدا فالآخر في الزّمن، وتظلّ الدّائرة في تنام في إطار ما يسمّى  بالمعاودة إذ يقول الفيلسوف الفرنسي دولوز (deleuze)ا (5) «إذا كانت المعاودة ممكنة (...) فهي تعبير عن التّمرّد ضدّ المألوف والكوني ضدّ الاجتماعي والخارق ضدّ العادي، والمعاودة مجمل القاعدة محلّ تساءل وتطيح بالصبغة الإنسانية للشيء لفائدة حقيقة هي أقرب من الفنّ إلى الواقع» (6) 
وليس يخفى أنّ هذه المعاودة تقتضي وضع الأفكار السّالفة على محك الاختبار والشكّ وهو ما ينفي إمكان أن ينطلق القائم بالتأويل في تأويله من أفكار ذاتيّة، فالأفكار السّالفة وجود جمعيّ وما دام هذا الوجود الجمعي قائما تظلّ هذه الأفكار حيّة على الدوام لاندراجها ضمن التّاريخ الإنساني والذاكرة الجمعية.(7) ويظلّ الذهن البشري السبب في إحيائها بالتحقّق والمراجعة والشكّ، ومثال ذلك ما نستجليه في قصيدة بركة المتوكّل.(8)
يَا مَن رَأَى البركة الحسناءَ رؤيتُهـا  ***  والآنســـاتِ إذا لاحَــت مغانيهــا
يَـا دِمْنـَةٌ جـاذبتها الرّيح بَهجتهَـا ***  تَبيتٌ تَنْشٌـرٌهـا طَـوْرا و تَطـوِيهـا
بحَسبها أنها في فضــل رُتبتهــــا ***   تُعدُّ واحــدةً والبحـــر ثانيهــــا
ما بال دجلةَ كالغيرى تنافسُهــــا ***   في الحسن طوراً، وأطواراً تباهيهــا
تنصبُّ فيها وفودُ المــاء مُعجِلـــةً ***   كالخيلِ خَارِجةً مِن حبلِ مُجريهــا
كَأنَّما الفضَّةُ البيضـــاءُ سائلـــةً ***   مِن السبائكِ تجـري في مجاريهـــا
إذا النجـــومُ تراءت في جوانبهـــا  ***   ليلاً حسبتَ سمـاءً رُكّبــت فيهــا
لا يبلغُ السمكُ المحصـورُ غايتَهــا   ***   بُعد ما بينَ قاصيهــــا ودانيهـــا
إنّ ذكرى بعض العلامات من نحو «الحسناء، الآنسات، دمنة، الريح، تنشرها»، تذكّر الذّات المؤوّلة بعناصر الوقفة الطللية وعمليّة التذكّر لم تنشأ من عدم، بل تيقّظت من خلال المعارف السّابقة التي تختزنها الذّاكرة، فالبحتري يبدو كالمتغزّل بالحبيبة ويجلو ذلك في قوله.
يَا مَن رَأَى البركة الحسناءَ رؤيتُهـا  ***  والآنســـاتِ إذا لاحَــت مغانيهــا
يَـا دِمْنـَةٌ جـاذبتها الرّيح بَهجتهَـا ***  تَبيتٌ تَنْشٌـرٌهـا طَـوْرا و تَطـوِيهـا
ولعلّ الشّاعر حين استحضر عناصر الطّلل وقد استحضر في الآن جملة من التّجارب سواء من جانبه أو حتّى تلك التي رويت له، فيتغيّر معنى الطّلل المتعارف عليه والذي يكون عادة مرفوقا بمشاهد الألم والمعاناة والعجز عن فهم الذّات، وهي أشكال تعبيريّة نفسيّة تكشف أزمة كيانيّة، وهذا الشّعور الكياني هو الّذي يعطي للكيان مستندا كيانيّا جديدا. فكثير من الشّعراء وقفوا على الأطلال، لكنّ لكلّ شاعر سنّته الخاصّة به في التّعامل مع الطّلل، فهو يتخيّر من الأمكنة الطّلليّة ما يقدح ذكرياته في الماضي وآماله المستقبليّة.
ويبدو البحتري هنا منبّها الآخر «يا من» ليضفيَ على المنادى وهو العام بعدا تأثيريّا تثوي في أغواره دلالة الإغراء والتّشويق، ولفت الانتباه لرؤية ما قد بهر الشّاعر، وقد يبني تقمّص البركة رداء المرأة في الذّهن معرفة جديدة بالطّلل، إذ لم يستحضر لها الشّاعر إلّا عناصرها، لكن تضافر هذه العناصر التي كان يعبر بها الشّعراء السّابقون عن السّكون والخراب والوحشة، قد جيء بها في هذا السّياق للتّعبير عن الحركيّة والحياة والخصب، من خلال حضور بعض العلامات الدّالة من قبيل، «الحسناء، الآنسات، المغنيات، بهجتها»، فالرّيح لم يؤت بها في معنى محو الآثار بل في معنى زفّ البشائر والمباهج. 
إنّ الدّيار لم تزل تهطل عليها زخّات المطر تعبيرا عن أثر ذلك الوابل الذي يروح ويغتدي، فيحييها ويضفي عليها من الجمال والحياة، هذا الجمال الذي نقش في ذاكرة الشّاعر كباقي الوشم في ظاهر اليد، يخرج صورة الشّاعر مخرج العاشق الهائم بحبيبته، المرأة هي الحياة بالنّسبة إليه وكذا الشّأن بالنّسبة إلى بركة المتوكّل التي صوّرها مضمّخة بالحركة والجمال، فأيقظت الأمل والحياة في نفس من رآها. وبما أنّ التّغزّل هو عنوان الخواء الوجودي، فهوإذن وسيلة لبناء الوجود عند التأزّم، وهو معاندة لما للنّفس من كلوم وسعي إلى شفائها من الأسقام، فالوقوف على أطلال الحبيبة  بٌرء للشّاعر من السّقم والتغزّل بالبركة أيضا شفاء لعين النّاظر ومتعة، بما أنّها تحيي النّفس وتنعشها، فالمرأة والبركة حياتان تحلّ الأولى في الثّانيّة حلولا يؤلّف معنى الجمال والحيويّة والحياة على بركة المتوكّل. 
إنّ الوقوف على الأطلال لا يمكن أن يكون تعبيرا عن تجربة فرديّة، إنّما هي تعبير عن تجربة جماعيّة طقوسيّة تحكمها ألوان من الممارسات اليوميّة، لكنّ هدفها الرمزيّ واحد. إنّ تجاربها متعدّدة من شاعر إلى آخر وهي تأتلف تآلفا ينأى عن التّماثل، بل هي معاودة صيغت صياغة مستمرّة، فيبرز الاختلاف من تجربة الى أخرى، وذلك المختلف هو الحصيلة الجديدة من معاودة الشّيء باعتبار أنّ كلّ مختلف إضافة علميّة معرفيّة وإغناء لمفهوم الاستمرار. فتحصيل المعرفة مثلما تحيلنا على ذلك الدّائرة الهرمينيطقيّة يقتضي بأنّ الحقيقة من المعارف لا تنشأ من عدم، إذ أنّ القائم بالتّأويل يعجز عن استنباط نصّ وهو غير حامل لتلكم المعارف السّابقة من تراث وتاريخ وذاكرة وتجارب وما إلى ذلك، لذا يمكن اعتبار كلّ تجربة معيشة اختبارا أسبقيّا من أجل اختيار أفضليّ، فقد بدا الوقوف على الأطلال في قصيدة بركة المتوكل كسرا للتّماثل وخرقا للقانون العام، فالشكّ إذن لا يسمح بوجود قوانين ما قبلية أو معارف قاعديّة، فيرسى بنا إلى برّ من المعارف الجديدة، والطاّقات الفريدة هي طاقات من الخلق المعرفيّ، خلق جديد استعملنا آليّة الشكّل للوصول إليه.
هكذا يلتفت متدبّر النصّ إلى الماضي ليسائل الحاضر، وهو ما يضطّره الى الاتكاء على أداة الشكّ ليبلغ محمولة التّأويلات الحاضرة، فالواجب امتلاك فهم أوّلي ينهض عليه الفهم اللاّحق فيغدو التّقدير المعرفي بالضّرورة اختبارا مستمرّا للمعارف الما قبليّة ماثلة في الأفكار المتقدّمة بوساطة ما يستجدّ في النصّ من فهم حيني راه(9)
فليست الأحكام المتقدّمة بالضّرورة خاطئة لا تقبل التّحيين والإضافة، ولا هي على وجه اللّزوم هدّامة أو محتاجة إلى النّسف، إنّما أهمّيتها في كونها ناقلة للبناء المعرفي من مرحلة إلى أخرى، لأنّها هي نفسها جزء من المعرفة الإنسانيّة(10).
إنّ ذاتيّة الشّاعر تؤسّس للماضي بوصفها ترتدّ إليه، فذاتيتها إذن تأصيل للماضي من جهة وتأسيس للمستقبل من جهة أخرى، لذلك تعتبر الذّات المؤسّسة ذاتا نموذجيّة، ولا تكون كذلك إلّا متى ارتدّت الى الماضي، ومن ثمّ نتبين أنّ القائم بالتّأويل يجب أن يتنبّه إلى أنّ الأفكار المتقدّمة تخضع للاختبار حين العودة إليها لقراءتها ومراجعتها والشكّ فيها، قصد التحقّق من مدى مناسبة بعضها مع النصّ، فتكون بذلك مادّة منطلقيّة في إنتاج المعنى وبلوغ الحقيقة عند إنطاق النصّ(11)
ولئن بدا للمؤوّل وهليّا أنّ البحتري يتغزّل بالبركة، فإنّه حين يسبر أغوار القصيدة يتبين أنّ ذلك الجمال الذي يحيط بالبركة هو في الواقع جمال قصد به مدح لمنشئها، فإذا كانت البركة بهذا الحجم من البهاء والعطاء فكيف ببانيها. ونستوضح حضور جملة من المعاني الثّابتة في السّجل المدحي العربي التّقليدي من نحو «البحر، الغيث، الماء، الخيل»، وهو ما يكشف عن هيكل قيميّ ثابت يحيلنا مباشرة إلى غرض المدح. غير أنّ هذه القيم الثابتة تخضع لاستعمال المتغيّر فتكتسب بانتقالها من تجربة إلى أخرى صيغتين مختلفتين، صيغة تأصيليّة ترسيخيّة لما هو مألوف، وصيغة تأسيسيّة ينتجها الشّاعر. فتلك الصّفات المذكورة تشي بالكرم اللاّمحدود للممدوح، والكرم عند «حاتم الطائي» لا يعني ما يعنيه عند «امرئ القيس» ولا عند «الأعشى»، فقد جسّده «الطّائي» بممارسة طقوسيّة وهي إضرام النّار ليلا ليهتدي بها التّائه والجائع والملهوف، فالكرم يأخذ طابع التّجربة لذا صوّره «امرئ القيس» على أنّه ذبح للنّوق إقامة للمآدب للغواني من باب إظهار الفتوّة، أمّا الكرم عند «الأعشى» فهو تكرّم منه على صحبه في الحانات بالإنفاق عليهم في مجلس شرب، وهو لا يدلّ على الثّراء فحسب إنّما يدخل في باب إثبات الذّات. إنّ قيمة الكرم قيمة ثابتة لكن مدلولها يختلف من سياق تجريبي إلى آخر فالتجريد مفرد والتجريب جمع، لذا فالقيمة لا يمكن أن تستقر على حال نهائي أبدا وإنّما هي في حالة من الأشكلة الدائمة. فكرم المتوكّل تدرّج في وصفه المادح من كرم غمره وحده، إلى كرم شمل الجميع، وقد لا تقتصر غاية المدح على إثبات جود الممدوح وقيمته فحسب بل قد يكون وسيلة لدفع الذّات الممدوحة إلى مزيد الإغداق على البحتري، فالخليفة يكرم على قدر رضاه عن المادح، وليس المتوكّل ممدوحا شبيها بغيره من الممدوحين، إنّه يفوقهم إذ يقول:
«بثثت فيها عطاء زاد في عدد»(12)
لقد بدا المتوكّل في هيأة شخصيّة أسطوريّة نحتها البحتري فخلّدها، فمات الخليفة واندثرت البركة وبقيت القصيدة حيّة تتغنى بكرمه، وكأنّه رسم هدفا مفاده بناء صورة عن المتوكّل لا تموت. 
من هنا نستبين أنّ الشكّ آليّة إستندنا إليها للنّظر في التّجارب السّابقة أو في النّماذج التي يظن أنّها اكتملت، فتأكّد لنا ضرورة الاستفادة منها وتطويعها تطويعا جديدا، لأنّ كلّ شاعر يمارس تجربة شعريّة إنّما يسعى من خلال الممارسة الطّقوسيّة إلى مزيد معرفة الرّمز بما هو قيمة مطلقة، وهو من الأشياء التي تطلب ولا تدرك، لذلك فإنّنا نتحدّث عن تجربة تكون نتائجها المعرفيّة في حالة من البناء المتواصل، فالمعاودة تبعا لذلك تعدّ من قبيل الإنتاج المعرفي إذ أنّ كلّ معاودة تنطوي على طاقة فريدة ثابتة، فالشّاعر حين يبوح بتجربته فإنّه يجمع التّجارب السّابقة بكلّ أبعادها، وهذا الرّصيد المعرفي يسلّطه الشّاعر إسقاطا على الشّيء، وهذا الشّيء يدعو الذّات فتأتيه سعيا إلى تدبّره بالتّحقيق والمراجعة وإعادة الصّياغة، فتخضع المعارف السّابقة إلى الاختبار لا الى الاختيار.
ويتضح لنا أنّ «الزّمن الماضي يمكن أن يشتغل وسيطا معرفيّا أو تمويهيّا، فهو من ناحية منتج للمعرفة يطلعنا على أحوال المجتمع فيما مضى ثمّ هو وسيط يدقّق الهويّة ويزيدها تحديدا، وذلك ما يجعلنا ننظر إلى الواقع التّاريخي نظرة واقعيّة، فهو تاريخ حركي متواتر النّشوء ومختلفه ومستفاد من توظيفه على الدّوام، فلا قيمة للماضي إلاّ في أن يعاد إنتاجه بطريقة فاعلة يتمثّل في أنّه تتمّة للتّقمّص، وهو الأمر الذي يصيّر للتّجارب هذه عبر الأزمان غاية تأصيليّة»(13).
الهوامش
1) الحاصل والمحصل زوجان مصطلحيان يفيد الأول المائي المأثور و يفيد الثاني طريقة تمثل الذات لهذا المأثور محمد بن عياد كتاب الكيان و الزمان منشورات مخبر البحث في المناهج التأويليّة كلية الآداب والعلوم الإنسانيّة صفاقس مكتبة علاء الدين، 2018  الباب الأول، في أشكلة التأويل التاريخي، فصل في التأويل الدائري ص 23
(2) عادل مصطفى فهم الفهم، مدخل إلى الهرمينوطيقا نظرية التاويل من أفلاطون إلى غادامير منشورات رؤية، الطبعة الأولى2007 ، ص: 17 .
(3) محمد بن عياد، في المواجهة التأويليّة كلية الآداب و العلوم الإنسانية صفاقس، مخبر البحث في المناهج التأويليّة ص: 12.
(4) محمد بن عياد « الكيان والبيان، وحدة البحث في المناهج التأويليّة، كلية الآداب والعلوم الإنسانية صفاقس، 2013، الطبعة الأولى ص: 174.
(5) جيل دولوز بالفرنسية Gilles Deleuzeا(1925 – 1995) فيلسوف فرنسي كتب في الفلسفة والأدب والأفلام والفنون الجميلة من أوائل الخمسينيات حتّى وفاته في عام 1995، من أنصار المذهب السبينوزي،
(6) دولوز (جيل)  ( Gilles Deuleuze) ، منشورات مطابع فرنسا الجامعية ، الطبعة السابعة، 1993 ص: 69.
(7) انظر محمد بن عياد في المناهج التّأويلية ص: 99.
(8) البحتري، الديوان تحقيق حسن كامل الصيرفي الطبعة 3  دار المعارف مصر الجزء الرابع ص: 2412
(9) انظر محمد بن عياد في المناهج التأويليّة ص: 90
(10)  المرجع نفسه ص: 89 ,90
(11)  المرجع نفسه ص: 90
(12) انظر البحتري الديوان ص: 12 24
(13) محمد بن عياد في المواجهة التأويليّة كليه الآداب والعلوم الإنسانية صفاقس صفحه 67