تأملات

بقلم
لسعد سليم
فاحشة الزنا في القرآن الكريم
 تطرّقت في مقالة سابقة إلى الفاحشة في القرآن الكريم (مجلة الإصلاح، عدد191)، وتبين بعد تتبّع الآيات التي ورد فيها ذكر فاحشة/فحشاء/ فواحش، أنّها أربعة أنواع لا غير:
1/ الزّنا (العلاقة الجنسيّة بين امرأة متزوّجة مع غير زوجها)
2/ فاحشة قوم لوط (الشذوذ الجنسي بين الرّجال)
3/ الشّذوذ الجنسي بين النّساء(السحاق)
4/ الزواج مِنَ امرأة الأب
ولئن وقع ذكر الزّنا وفاحشة قوم لوط في العديد من الآيات، فإنّ السّحاق وزواج امرأة الأبً، وردت في كلّ واحد منهما آية واحدة في سورة النساء (مدنيّة)، وهي قوله تعالى:﴿ وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا ﴾(النساء:15) وقوله: ﴿ولَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا ﴾(النساء:22)
بناء على ذلك سيقع التّطرق في هذا البحث إلى فاحشة الزّنا على أن نخصّص مقالا آخر لفاحشة قوم لوط، معتمدين منهجا شاملا يبحث في ورود المسألة من عدمها ومقارنتها في كلّ سور القرآن الكريم، ومبيّنا للقرآن بالقرآن، فهو الحجّة البالغة البيّنة والمبيّنة، وآخذا بعين الاعتبار التّسلسل الزّمني(1) لنزول السّور(ترتيل القرآن). 
الزّنا في القرآن المكّي
بين اللّه جلّ جلاله في سورة الإسراء بما لا لبس فيه أنّ الزّنا فاحشة: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا ﴾(الإسراء:32)، وبالتّالي تشمل كلّ الآيات القرآنيّة المتعلّقة بالفاحشة والفحشاء والفواحش فعل الزّنا.
فالفواحش ومنها الزّنا، هي أوّل ما ذكر اللّه من الكبائر، بل قرنها بها، ففي سورة النجم التي نزلت في السّنة الأولى من البعثة يقول تعالى: ﴿لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى* الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى﴾(النجم:31-32). وهي أيضا أوّل ما حرّم، ففي سورة الْأَعْرَاف التي نزلت في السّنة الثّانية نجد قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾(الْأَعْرَاف:33). 
ثمّ تنزل الآيات في سورة الفرقان، يتوعّد اللّه فيها من يزنى (مع المشركين والقتلة) بالخلود في العذاب: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا ﴾(الفرقان:68-69)، وقرن اللّه الزّنا بقتل النّفس والشّرك «أم الكبائر»: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَىٰ إِثْمًا عَظِيمًا ﴾(النساء:48)، وذلك لتبيان شناعة جريمة الزّنا التي تقضي على منظومة الزّواج وبالتالي تدمّر العائلة والمجتمع. فقتل النّفس(كالسّرقة) يظلّ دوما مدانا في كلّ المجتمعات وعلى مرّ العصور، مع التّأثير البالغ للقتل في النّفس البشريّة، فصلح أن يكون علامة وقرينة لجرائم شنيعة تستبيحها أو تتساهل معها الشّعوب مع مرور الزّمن كالزّنا وأكل الرّبا.
وتتوالى الآيات المكّية تغلظ من هذه الكبيرة مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، أي في السّر كانت أو في العلانيّة، بكلّ صيغ التّحريم والاجتناب وعدم القرب والنّهي: يقول تعالى:﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وصآكم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾(الْأَنْعَامٌ:151)ويقول:﴿فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ﴾(الشّورى:36-37)، ويقول أيضا: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾(النَّحْل:90)
و في آخر المرحلة المكّية (السّنة الثّانية عشر من البعثة) نزلت الآيات التي تحرّم كلّ علاقة جنسيّة خارج إطار الزّواج أو ملك اليمين (في سورة المؤمنون أولا، ثمّ للتّأكيد في سورة المعارج) مستعملة مصطلح جديد وهو «حفظ الفرج»:
-﴿قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون(1)الذين هُمْ في صَلَاتِهِمْ خاشعون(2) وللذين هُمْ عَنِ اللغو مُعْرِضُونَ(3)والذين هُمْ للزكاة فاعلون(4)والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافظون(5)إِلَّا على أزواجهم أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانهم فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ(6)فَمَنِ ابتغى وراء ذلك فأولئك هُمُ العادون(7)والذين هُمْ لأمانتهم وَعَهْدِهِمْ راعون(8)والذين هُمْ على صلواتهم يُحَافِظُونَ(9)أولئك هُمُ الوارثون(10)الذين يَرِثُونَ الفردوس هُمْ فِيهَا خالدون﴾(المؤمنون:1-11)
-﴿إِنَّ لإنسان خُلِقَ هَلُوعًا(19)إِذَا مَسَّهُ الشر جزوعا(20)وَإِذَا مَسَّهُ الخير مَنُوعًا(21)إِلَّا المصلين(22)الذين هُمْ على صَلَاتِهِمْ دائمون(23)والذين في أمولهم حق معلوم (24)للسائل والمحروم(25)ولذين يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدين(26)والذين هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ(27)إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مأمون(28)والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافظون(29)إِلَّا على أزواجهم أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانهم فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ(30)فَمَنِ ابتغى وراء ذلك فأولئك هُمُ العادون(31)والذين هُمْ لأمانتهم وَعَهْدِهِمْ راعون(32)والذين هُم بشهادتهم قائمون(33)والذين هُمْ على صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ(34)أولئك في جنات مُّكْرَمُونَ﴾(المعارج:19-35)
فوصف اللّه جلّ جلاله من لا يحفظ فروجهم بـ «العادون»، مع العلم أنّ هاته الصّفة لم يرد ذكرها في القرآن الكريم (بصيغة الجمع) في غيرها من السّور إلاّ في مناسبة واحدة وصفًا لقوم لوط:﴿أَتَأْتُونَ الذكران مِنَ العالمين * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ﴾(الشعراء:165-166), فكان ذلك دليلا على شدّة الحرمة للعلاقة الجنسيّة خارج إطار الزواج أوملك اليمين (الذي لا علاقة له بمنظومة الرقّ التي «أسّستها» كتب التّراث والفقه).
في نفس الوقت تبين هاته الآيات وتؤكّد أهمّية الصّلاة في مساعدة المؤمن على التّعفّف، فكانت آيات حفظ الفرج في كلّ من سورة «المؤمنون» و«المعارج» تتوسّط آيات الخشوع في الصّلاة والدّوام والمحافظةعليها في دلالة بليغة للصّلاة وكأنّها تمثّل الأسوار التي تحمي المؤمن من ارتكاب الفواحش، الأمر الذي تؤكّده آخر آية مكّية تذكر فيها الفاحشة:﴿اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾(العنكبوت:45)
و بعد فرض الصّيام في المدينة صًار هو أيضا مع الصّلاة وذكر اللّه، كالوعاء الذي يحفظ المؤمن من القرب من الفواحش كما ورد في قوله تعالى:﴿إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾(الأحزاب:35). فالأجر العظيم يدلّ على أنّ التّعفّف والصّبر عليه ليس بالأمر الهيّن خاصّة في الحالات القصوى كالمرأة المهملة من زوجها، أو الشّاب الذي يكون في موقف ضعف كسيّدنا يوسف ألخ....
الزّنا في القرآن المدني قبل سورة النّور
وبعد الهجرة، ينزل الوحي في المدينة المنوّرة في أول سورة (البقرة) مذكّرا بأنّ الفحشاء هي أمر من الشّيطان، مبينا بعد ذلك (آل عمران) بأنّ باب المغفرة مفتوح لمن يستغفر اللّه إذا فعل فاحشة ولم يصر على ما فعل:﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾(البقرة:168-169)، و﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾(البقرة:268)، و﴿والَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾(آل عمران:135)
ولم يستثن اللّه جلّ جلاله نساء النّبيﷺ، فهدّدهم بمضاعفة العذاب في إشارة إلى شناعة هاته الجريمة وأنّه «لا أحد فوق القانون»: ﴿ يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا﴾(الأحزاب:30)
وتواصل السّور المدنيّة تطرّقها فقط إلى فاحشة الزّنا باستثناء ثلاث آيات (سورة النّساء) التي تحدّد عقوبة الشّذوذ الجنسي بين النّساء(آية15) و بين الرّجال(آية16) مع تحريم نكاح ما نكح الآباء(الآية22): ﴿وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِّنكُمْ فَإِن شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىٰ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا * وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَّحِيمًا﴾(النساء:15-16) و﴿ولَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا ﴾(النساء:22) 
و يأمر عزّ وجل بمعاقبة ملك اليمين إذا زنت بعد زواجها، بنصف عقوبة المحصنة:﴿ومَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوف مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾(النساء:25)
وفي هذا إشارة إلى معاقبة المحصنة الزّانية في المدينة قبل الهجرة بالجلد بتأثير من أهل الكتاب كمكوّن أساسي للمجتمع المدني، فالعذاب يدلّ على عقوبة بدنيّة مغايرة للسّجن بدليل قول امرأة العزيز: ﴿وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾(يوسف:25)، والنّصف يدلّ على التّبعيض، ولا يجتمع الأثنان إلاّ في الجلد، كما أنّ تعظيم العرب لأنسابهم يقتضي تجريم الزّنا أو على الأقل ازدراءه في العلن.
نزول سورة النّور
ثمّ ينزّل اللّه سورة النّور(السّنة السّابعة بعد الهجرة) ويستهلّها دون غيرها من السّور بأنّه أنزلها وفرضها وأنّ فيها آيات بينات:﴿سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) الزَّانِي لَا يَنكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَٰلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (5) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ(6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ(7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ(8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ(9) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ ﴾(النساء:1-10)، فحدّد عقوبة الزّانية والزّاني بمائة جلدة، شرط وجود أربعة شهود مع وجوب التّشهير (انزال العقوبة بالعلن). وأعطى  الزّوج الحقّ باتّهام زوجته حتّى في غياب الشّهود، مكتفيا بآداء يمين مغلّظة تستوجب اللّعنة عليه إن كان اتهامه لها باطلا، وبالمقابل وعلى نفس المستوى يدرأ عنها العذاب بيمين مغلظة أيضا، وحصر زواج الزّاني أو الزّانية بينهما أو بمشرك أو مشركة، وحرّم ذلك على المؤمنين في إشارة واضحة لشناعة الجريمة بإخراج مقترفيها من مجتمع المؤمنين.
فبتتبع الآيات التي تطرّقت الى فاحشة الزّنا، يتبيّن بما لا لبس فيه أنّ الزّنا علاقة جنسيّة تقوم بها المرأة المتزوّجة (المحصنة) مع غير زوجها، فالخطاب في سورة النّور دوما بصيغة المحصنات (المتزوّجات)/الأزواج: (وَٱلَّذِينَ يَرْمُونَ ٱلْمُحْصَنَاتِ.../ وَٱلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ.../ٱلَّذِينَ يَرْمُونَ ٱلْمُحْصَنَاتِ...) في تعاضد مع ما أنزل اللّه جلّ جلاله في سورة النّساء أنّ إتيان ملك اليمين بفاحشة يكون بعد الزّواج (الإحصان): ﴿... فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ....﴾(النساء:25) مع التّذكير بتحريم كلّ علاقة جنسيّة غير مؤطّرة بزواج أو ملك اليمين وإن لم يكن زنا، كما ورد في سورتي «المؤمنون» و«المعارج»:﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ*إِلَّا عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَىٰ وَرَاءَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْعَـادُونَ﴾(المؤمنون:5-7/ المعارج 29-31)
على صعيد آخر، فإنّ استعمال مصطلح «حفظ الفرج» يشير إلى تحريم العلاقة الجنسيّة مع المرأة المتزوّجة وغير المتزوجة، فدلّ على أنّ الزّنا له علاقة بالمرأة المتزوّجة حصرا، وإلاّ لما استلزم استعمال مصطلح جديد لما هو متعارف عليه من قبل. زد على ذلك أن لو كان الزّنا هو كل علاقة جنسيّة خارج إطار الزّواج، لوقع اتهام السّيدة مريم  بالزّنا أو بالفاحشة، لا بالسّوء والبغاء كما ورد في قوله تعالى: ﴿فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا﴾(مريم:27-28). فـ «أُمُّكِ بَغِيًّا» أي قبل زواجها ( كما هو حال السّيدة مريم)، فالبغاء يتعلّق دائما بالمرأة غير المتزوّجة، فإذا تزوّجت (أحصنت) يصير زنا وفاحشة، وهذا ما تدلّ عليه أيضا الآية الكريمة: ﴿.... وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾(النور:15). هذا مع تحريم العلاقات الجنسيّة خارج إطار الزّواج ومطالبة المؤمنين بالتّعفّف. 
في نفس السّياق يقع تغليظ إتهام امرأة بالزّنا بدون وجود أربعة شهود(باستثناء زوجها)، ويأمر اللّه بجلد من يقوم بذلك ثمانين جلدة، فتوشك أن تكون نفسها عقوبة الزّنا في إشارة واضحة لخطورة الخوض في هذه الفاحشة والتّحدث فيها، حتى لا يصبح الأمر «عاديا»، ووعد سبحانه وتعالى من يحبّ (يعمل على) أن تشيع الفاحشة في المؤمنين بالعذاب الأليم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّىٰ كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11) لَّوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَٰذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ (12) لَّوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَٰئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَٰذَا سُبْحَانَكَ هَٰذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾(النور:11-20)
و في الآيات التّالية يأمر اللّه عزّ وجل المؤمنين والمؤمنات بغض البصر وحفظ الفرج مع إخفاء الزينة كأداة للتّعفف والابتعاد عن الفاحشة واجتنابها. فذكر المراحل الأساسيّة، ببلاغة، المرحلة الأولى (النظر) والأخيرة (حفظ الفرج) لاجتناب الزّنا، واصفا مفاتن المرأة بالزّينة التي يجب إخفاؤها حتّى لا تثير الغرائز ويقع الإنسان في الفواحش: ﴿قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَىٰ عَوْرَاتِ النِّسَاءِ  وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾(النور:30-31).
وكما بدأ سبحانه السّورة بقوله: ﴿... وَأَنزَلْنَا فِيهَآ ءَايَٰتٍ بَيِّنَٰتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾(النور:1)، يختتم الآيات المتعلّقة بالزّنا بصفة نهائيّة بقوله: ﴿وَلَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ ءَايَٰتٍ مُّبَيِّنَٰتٍ وَمَثَلًا مِّنَ ٱلَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ ﴾(النور:34)، ولم يتطرّق القرآن بعدها إلى آية تخصّ فاحشة من الفواحش، كدليل على أنّ هذه الآيات بينات ومبيّنات، فهي واضحة جليّه، بحيث لا تحتمل تأويلا ولااختلافا.
على مدى عشرين سنة، وعلى فترات متفاوتة، كانت السّور تعالج تفشّي فاحشة الزّنا، بحيث تمّ في بداية البعثة (سورة النّجم) قرنها بالكبائر مع التّرغيب في تجنّبها، ثمّ جعلها أوّل ما يُحرّم (سورة الأعراف)، ثمّ يقع التّغليظ فيها وقرنها بالقتل والوعيد بالخلود في العذاب المهين لمقترفها مع فتح باب المغفرة له إذا تاب وأصلح (سورة الفرقان).
و للتأكيد على شناعة فاحشة الزّنا وخطرها على المجتمع، يتكرّر وعلى فترات متفاوتة نفس السّياق بالتّحريم وعدم قربها (الإسراء/الأنعام) ثمّ التّرغيب في تجنّبها (الشورى) وفي آخر المطاف تنزل الآيات الكريمة بتحريم كلّ علاقة جنسيّة خارج إطار الزّواج (المؤمنون/ المعارج) مع التّذكير بأهمّية الصّلاة والصّوم لمساعدة المؤمن والمؤمنة في حفط فروجهما.
وتواصل السّور المدنيّة النّهي عن الزّنا غير مستثنية نساء النّبي بالتّهديد بالعذاب، حتّى نزول سورة النور التي حدّد اللّه فيها عقوبة الزّنا وفي نفس الوقت نهى عن اتهام النّساء بالفاحشة لمنع تفشّيها، وحفض العائلة والمجتمع من هذه الآفة، ضاربا لنا في ذلك مثلا سيّدنا يوسف كقدوة لمن يريد التّعفّف حتّى يفوز بالدنيا قبل الآخرة. فتجنّبه الزّنا بامرأة العزيز، وبالتالي عدم خيانته لعزيز مصر، جعله أهلا لإدارة خزائن الدّولة المهيمنة في ذلك الزّمان:﴿قالَ اجعلني على خزائن الأرض إني حَفِيظٌ عليم﴾(يوسف: 55) وفي هذا أيضا إشارة الى أنّ التّعفف شرط لقيام الحضارة.
فتصوّر أنّ الحضارة لا علاقة لها بإباحة العلاقات الجنسيّة، مغالطة كبيرة يروّج لها العديد بدعوى أن الحرّية هي شرط الحضارة، مستشهدين بذلك بالحضارة الغربية. فالمغالطة تمكن في أنّ الحضارة الغربيّة منذ نشأتها في القرن 17/18 و حتّى بلغت ذروتها في القرن 19/20 كانت تجرّم الفاحشة وتقدّس الزّواج والعائلة، فحتّى الطّلاق كان ممنوعا. إلاّ أنّ الحضارات لا تنهار مباشرة بإباحتها الفواحش بل تبقى فترة زمنيّة حتّى يحصل ذلك. وهذه الفترة تتراوح بين جيلين وثلاثة أجيال (قرابة 60/90 سنة). فمع الجيل الأول تبقى الأفكار والقناعات القديمة التي تقاوم هذه الانحرافات، ثمّ تبدأ في الأفول مع الجيل الثّاني، إلى أن تنعدم مع بداية الجيل الثّالث الذي تصبح الفواحش فيه أمرا عاديا وحقّا من الحقوق، فيبدأ انهيار المجتمع نتيجة تدمير العائلة. وهذا الانحراف تحاول الفئة التي تدّعي التطوّر والحداثة، تقديمه على أنّه طبيعي وبالتّالي تسمّيه «تطوّرا» وتشنّ حربا خفيّة بلا هوادة (عن طريق تغيير مناهج التّعليم والإعلام واستعمال القوّة إن لزم الأمر) حتّى تتغيّر قناعات النّاس وتصبح المحرّمات أمرا طبيعيّا ثمّ حقّا من الحقوق.
الخلاصة:
بناء على ما تقدم، يجب علينا مكافحة هذه الآفة بصفتها خطرا جسيما على المجتمع وعدم التّساهل معها، خاّصة وأنّه يقع الترويج لها عند فئة الشّباب التي تكون الغريزة الجنسيّة عندها قويّة بحيث يسهل لديها تقبّل التّوجّه الإباحي على أنّه أمر طبيعي، مع العلم أنّ استباحة العلاقات الجنسيّة خارج إطار الزّواج يؤدّي حتما إلى تفشّي الزّنا، فمن تعوّد إقامة علاقات جنسيّة قبل الزّواج، يستسهل الأمر بعده. وهذا ما حصل فعلا في الغرب، وما تفشّى الزّنا والشّذوذ الجنسي إلاّ نتيجة «الثّورة الجنسيّة» التي وقعت في ستينيّات وسبعينيّات القرن الماضي في أوروبا (فرنسا بالأخص) بعد أن كانت كلّ علاقة جنسيّة خارج إطار الزّواج ممنوعة ومحرّمة، وصار الآن زواج الشّواذ مباحا، بل أكثر من ذلك يقع التّشجيع عليه ومعاقبة من يعارض هذه الممارسات الشنيعة أو ينتقدها بالسّجن. 
وللأسف نلاحظ هذا التّوجه الإباحي في العديد من البلدان العربيّة والإسلاميّة، التي تمنع وتجرّم (رسميّا) الفواحش، لكنّها تتغاضى عنها وتتساهل معها بدعوى احترام الحرّيّات الفرديّة، و تروّج لها عن طريق التّعليم والإعلام، بتحريض من الفئة «المتنفّذة» التي تريد «التّمتّع» بدنياها دون قيد أو شرط وبصفة «قانونيّة». 
تؤدّي إباحيّة الفواحش وإتباع الشّهوات، الذي وصفه اللّه سبحانه بـ : «الميل العظيم» وما ينتج عنه من فساد، إلى تخلّف المجتمع وانحطاطه، أمّا التّعفف الذي هو أساس الإصلاح فهو يحمي العائلة (الرّحم/الأرحام) وبالتّالي يساعد على  إزدهار المجتمع وتطوّره (الحضارة). لذلك كان هناك صراع دائم بين الإباحيّة والتّعفّف، وهذا الصّراع هو محور الآيات 1-27 من سورة النّساء التي بدأت بـ : ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا» إلى الآية: «يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا﴾(النساء:26-27) ويتوسّط هاته الآيات أوامر ونواهٍ تتعلّق بالنّهي عن أكل مال اليتيم وبحسن معاملة الزّوجة وحقوق المطلّقة/ المرأة في الميراث، فتكون بذلك العائلة (مع تحريم الفواحش) حصنا حصينا للفرد. فعلم اللّه سبحانه وحكمته كما ذكر،  يبين لنا فساد الفواحش وصلاح التعفّف مع حسن معاملة الزّوجة/المرأة، كشرط من شروط النّهضة (الحضارة).
الهوامش
(1)  انظر ترتيب نزول السور كما ورد في كتاب «التفسير الحديث» بإذن من مشيخة المقارىء المصرية والذي (4)»يطابق في أغلبه ما أشار إليه الشيخ الطاهر بن عاشور  في «التحرير و التنوير»