فقه المعاملات

بقلم
الهادي بريك
من فقه المعاملات المالية في الإسلام الحلقة الأولى : مقدّمات تأطيرية عامّة
 هذه سلسلة جديدة من حلقات متعاقبة على صفحات مجلة الإصلاح الإلكترونيّة. لعلّ أوّل سؤال هو : لماذا المعاملات الماليّة؟ الأغراض هنا مهمّة : أوّلها هو أنّ هذا الحقل من حياتنا شابه الذي شابه ممّا ليس منه. منّا من يظنّ كما ظنّ قوم شعيب إذ قالوا لنبيّهم عليه السّلام ﴿قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ﴾(هود:87) . أولئك مسلمون ولكنّهم يعتقدون ـ إمّا جهلا عفوا من كلّ مضمور سيّئ أو لتقصيرهم في طلب العلم الضّروريّ لحياتهم ـ أنّ ترتيب الحياة العامّة (السّياسيّة والماليّة وغيرها) أمر لا يتولاه الإسلام، بل العقل والتّجربة والمصلحة والتّقديرات.
هذا مالي. فكيف أفوّت فيه لغيري يعلّمني كيف أعالجه؟ هذا القول في ظاهره صحيح سليم بادي الرّأي ويتسلّل إلى العقول الضّعيفة بيسر وسهولة. وهنا بسبب الجهل المدقع ـ ولو غفلة طيّبة ـ يلتقي المسلم مع الفلسفة الغربيّة كلّ لقاء. وبمثل هذه العفويّة الغافلة عن أبجديّات الإسلام، إكتسحت العلمانيّة الغربيّة في الأرض العربيّة ما شاء لها اللّه أن تكتسح وتلتهم. فلمّا أمسكت بتقاليد السّلطة والقيادة حوّلت كلّ ذلك إلى نظريّة، ثمّ إلى قوانين. وأضحى الأمر محلّ توافق لا يعاند فيه عدا متطرّف أو متخلّف. أرأيت كيف تنبت فينا نابتات الجور والضّلال بكلّ يسر وسهولة، وذلك عندما نضنّ على أنفسنا بحارس يحرسنا أو حصن يحصّننا، أو نهتمّ بما يقيم أودنا البدنيّ ونغفل عمّا يقيم أودنا العقليّ القيميّ؟
وفي مقابل أولئك مسلمون أساؤوا إلى دينهم وثبّطوا حياتهم بحروجات ومشقّات وأعنات ظنّا منهم أنّ الإسلام جاء ليعوّق الحياة العامّة للنّاس بتشريعاته. ومن ذا فإنّ من أوّل ما يجب على المسلم علمه ـ حتّى المسلم العاديّ بله الذي يؤمّ النّاس ـ هو أنّ الإسلام له مساحتان كبيرتان في حالة تواؤم وإلتئام. وليس في حالة تنافر وخصام، وأنّ كلّ مساحة من تينك المساحتين محكومة بنسق تشريعيّ محدّد يختلف عن الآخر. 
لو سألتني عن أكثر شيء يحتاجه المرء الذي يطمح إلى التميّز، لما تردّدت أن أقول لك هو: التّمييز. من داعبت فؤاده ملكة التّمييز بين الأشياء والأمور مهما بدا بادي الرّأي أنّها متماثلة أو متجانسة فهو مؤهّل للحكمة. ملكة التّمييز عند المسلم الذي يطمح إلى أن يكون متميّزا ـ وليس رقما في قطيع ـ هي ملكة التّمييز نفسها التي يتوسّل بها الطّبيب الجرّاح ـ أو حتّى الطّبيب العامّ ـ لأجل تشخيص سبب الدّاء، حتّى لو كان يفحص توأمين يشتركان في كلّ شيء، حتّى في فصيلة الدّم. هل تراه يفحص الأوّل منهما دون الثّاني ثمّ يصف لهما معا دواء مشتركا بينهما بدعوى أنّهما توأمان يمصّان من حلمة واحدة ونزلا من رحم واحد؟ أبدا. كذلك الأمر في الفقه الإسلاميّ بالتّمام والكمال. فما ضلّ قوم حتّى حرموا لذّة ملكة التّمييز وأضحوا يعالجون الفقه بمثل ما يعالج تاجر الجملة البضائع في سوق الجملة. فهو لا يهتمّ بعدد إهتمام إحصاء دقيق ولا بجودة في كلّ جزء من تلك البضائع. 
الشّريعة في الحقّ هي مثل الجسم الإنسانيّ، فيها من الأمور المتجانسة والمتماثلة الذي فيها، وفيها ممّا هو دون ذلك الذي فيها، وبينهما مشتركات وعلائق وتواصلات من يرصدها رصدا حسنا يكون يقظا، ومن يعالجها بسياسة الجملة يكون ضالاّ مضلاّ. أو هي مثل مدينة عظمى واسعة شاسعة فيها من المناطق ما هو محلّ حماية مشدّدة مغلّظة على مدار السّاعة، وفيها ما هو دون ذلك، وفيها من الطّرق أنواع لا تكاد تحصى من حيث القيمة والإتّجاه والدّور والوظيفة. وبين كلّ تلك المركّبات خيط ناظم واحد لا ثاني له. من التقطه فله أن يسير في تلك المدينة حيث شاء، فلا يخاف حتّى الذئب على نفسه. ومن دخل المدينة بدون دليل مسبق فهو كحاطب بليل. 
المساحتان هما : مساحة المحكمات القطعيّات التي عالجتها الشّريعة بمقياس واحد عنوانه : إمّا أن تؤمن بها من بعد كشف الحكمة أو أن تكفر بها، إذ لا إجتهاد معها. ولكنّ الإجتهاد فيها مطلوب لأجل حسن إدراة عمليّة الفقه سيما تنزيلا. وظيفة هذه المساحة هي نفسها وظيفة الأعضاء المسؤولة عن حياة الإنسان (ربّما هي الجهاز التّنفسيّ والجهاز الدّمويّ والجهاز العصبيّ)، فإذا طعنت هذه الأجهزة طعنت الحياة. هذه المساحة نفسها معالجة من لدن الشّريعة بأمرين : مرّة بنصوص صحيحة صريحة ولكنّها مفصّلة كلّ تفصيل (العبادة مثلا والأسرة) ومرّة أخرى بتلك النّصوص ذاتها صحّة وصراحة، ولكنّها عامّة كلّية (كلّ حقول الحياة العامّة) وأحيانا بنصوص مثل ذلك كذلك صحّة وصراحة، ولكنّها مستغلقة عن التّفكيك في جزئياتها رغم معقوليتها (الإعتقاديات). ومساحة أخرى عنوانها الظّنية والتّشابه، فهي لا تحسم في أيّ أمر لوحدها، ولكنّها تتكافل مع غيرها ممّا صحّ أو صرح لأجل تحرير قيمة. من أكبر علامات البضاعة المزجاة هو الضّيق بهذه المساحة، وهو ضيق تلمسه صباح مساء عند كثير من الشّباب المتديّن الحديث من الذين تأثّروا بعصرهم تأثّرا سمجا، فهم لا يصبرون على النّظر والتّفكّر، ويعالجون الدّين بذات المعالجة المسمّاة بلغة عصرهم (فاست فود). 
لو سألتني مرّة أخرى عن العقل الأريب الجدير بهذا الدّين لقلت لك دون تردّد هو العقل المركّب الذي يعالج كلّ شيء بأكثر ما يمكن من النّظر ويخضع كلّ شيء إلى التّفكير والتّقليب والتّقدير. هو العقل الذي وعى كلّ وعي أنّ الإسلام وضع مرّكب، وليس هو وضع أحاديّ الإتّجاه. من علامات ذلك فيه أنّه يعالج الماضي والحاضر معا، ويعالج الإنسان روحا وبدنا معا، ويعالجه فردا وأسرة ومجتمعا معا، ويعالج الدّنيا والآخرة معا. وهكذا في كلّ معالجاته مركّب، لا أحاديّ. وهو كذلك لسبب بسيط عنوانه أنّه جاء لمعالجة حياة مركّبة بعقل مركّب. أليست الحياة مركّبة كذلك : فيها الخير والشّر والجور والعدل والحقّ والباطل؟ أنّى لها أن تعالج بدون وضع مرّكب؟ والعقل نفسه : أليس هو مركّب كذلك؟ فهو يقدر على فهم أنّ لهذا الكون الواسع الفسيح إلها واحدا يدبّره. وذلك مشروط بشرط واحد هو التّواضع لمعطيات العلم فحسب، ولا شيء غير ذلك. ولكنّ ذلك العقل نفسه لا يقدر على فهم فروع وجزئيّات هو يستسلم لها من بعد ذلك التّشبّع العقديّ الفلسفيّ كلّ إستسلام، ولا يزعجه ذلك البتّة، فهو مثلا يتيمّم. وهو يعلم أنّ التّمسح على صعيد مهما كان طاهرا لا يطهّر بدنا. أو هو يصلّي مثنى فحسب في زمن يكون فيه نشيطا حيويّا، وله أن يصلّي أكثر من ذلك. أو هو يسعى سبعا بدء من الصّفا، وليس من المروة، ولم سبعا أصلا؟ الحاصل من ذا أنّ العقل كلّما كان مركّبا واسع آفاق التصوّر مقترفا لجريمة النّظر بلا حدود البتّة كان مؤهّلا لمعالجة الحياة المركّبة بهذا الدّين المركّب. 
لو كان الأمر بيدي لجعلت هذه القيم (قيمة التّركيب وقيمة التّمييز) أصلا من أصول التّفكير التي تدرّس في الجامعات والمعاهد. ذلك أنّ أخطر شيء نقترفه في حقّ الفكر هو ولوجه من نوافذه الخلفية وحدائقه، وليس من بابه الرّئيس. ومن ذا ينشأ العقل المسلم المعاصر غريبا عن عصره، حتّى وهو يظنّ أنّه وفيّ لدينه الذي لا يقبل أن يكون غريبا عن أيّ عصر أو مصر. تلكما مساحتان لا مناص لكلّ مسلم من حسن إستيعابهما إشتراكا وإختلافا معا ثمّ تكافلا بينهما. 
لم أسهبت في هذا في معرض الحديث عن نوع من المسلمين الذين يسيؤون إلى دينهم وأنفسهم تحريجا وتأثّما كاذبا عندما يعالجون الشّريعة وذلك في مقابل الذين هم على هوى قوم شعيب ﴿ أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ ﴾؟ سيق ذلك في مساق أنّ أكثر المسلمين ينتمون إلى هذه الفصيلة الثّانية. أي الفصيلة التي يغلب عليها أنّ الأصل في المعاملات الماليّة هو المنع والحرمة، أو حتّى الأحوطيّات المتشدّدة. 
بسبب تجربة أظنّها ثريّة غنيّة لم أعد أرتاب أنّ هذا الأصل الفقهيّ (الأصل في الأشياء الإباحة وفي العقود الحلّية) هو أكبر أصل مظلوم فينا. ناكية النّاكيات أنّ هذا الأصل ـ والله العظيم ـ هو إحدى الأصول الخمسة العظمى الحاكمة على أزيد من ثلاثين أصلا ومائة. كما جمع ذلك ـ أظنّه آخر من حرّر في علم القواعد الأصولية التّشريعية ـ أيّ المرحوم الدّكتور مصطفى الزرقا. كلّما ذكرت هذا الأصل في جواب مكتوب أو مرتجل قرأت في وجه السّائل منكرا. أكثر المسلمين اليوم يستنكرون في بواطنهم أن يكون الأمر في الحياة العامّة ـ وليس في المنطقة المؤثّثة بكلّ تفصيل وتجزئة وتفريع وضبط ـ مبناه العفو والإباحة والحلّية. سؤال المثابر هنا هو لم؟ 
هذا سؤال شديد الأهمّية. إذ هو يحيلنا إلى حسن قراءة المراحل التّاريخيّة التي شيّدت مسارنا الفقهيّ. الجواب المرّ هو أنّ عقلنا الإسلاميّ سرعان ما حكم على نفسه بالرّكود والجمود والتّقليد والمحاكاة حتّى تحوّل من مرحلة التّحرير الأصليّ فهما في الكتاب والسنّة إلى مرحلة التّحرير الهامشيّ. وهو ما عرف بالحواشيّ. بل انتكس إلى تحشية الحواشي نفسها سيرا على قالة انحطاطيّة آثمة (لم يترك الأوّلون للآخرين شيئا). ثمّ ظلّ مستغرقا في الإستغلاق والغربة عن زمانه حتّى نشأت المتون التي يقول المدافعون عنها اليوم أنّها حرّرت لأهل الصّناعة وأربابها، وليس هي لعامّة النّاس أو حتّى للطّلبة المبتدئين. ولكنّه قول لا يقنعني. 
لو سألتني ثالثة عن أكبر سبب لقعود منظومتنا الفقهيّة عن الجمع بين الوفاء لأصلها من دون تزيّد والوفاء لعصرها من دون تسيّب لما تردّدت أن أقول لك ـ ما أنت غير مرحّب به ومستبعده ـ أنّ أولى الطّعنات الخرقاء النّجلاء التي ساهمت في تأبيد التّقليد علينا ضربة لازب محرّمة الإجتهاد هي الإنقلاب الأمويّ على سورة الشّورى، أي على المنهاج الإسلاميّ في معالجة الدّولة من حيث شرعيتها حتّى لو (صلحت مشروعيتها). أعرف أنّ هذا غير مقنع في أكثر الأوساط المتدثّرة بالبحث والعلم، فما بالك بما هو دونها. أيّ علاقة بين مشروعية الدّولة وتحرّر الفقه؟ هي علاقة عندي حميمية كلّ حميمية. الفقه عمل ككلّ عمل، إذا لم يتحرّر الفقيه حتّى يجتهد حرّ الضّمير فلا يرعى عدا سقوف علمه وتقواه فإنّ الدّولة له بالمرصاد إمّا ترغيبا أو ترهيبا. وذلك هو مظهر من مظاهر الحياة المركّبة كما أنف الذّكر.ومن ذا فلا يعالج الإسلام المركّب عقلا مكبّلا سواء بتقليد أو بطمع في فتات أو بخوف من حسام. 
ما هي خلاصة تحرير المشكلة التي تتقحّم هذه السّلسة الجديدة معالجتها؟ هي بكلّ بساطة ووضوح: المساهمة في إعادة بوصلة المعالجات الماليّة في عقلنا إلى أصلها التّشريعيّ الذي أمرنا بطاعته هو وحده ( اللّه ورسوله وأولي الأمر. وهم هنا أولو الأمر العلميّ في هذا الحقل الماليّ وليس غيرهم) من جهة، والإفادة من تراثنا الثّر الخصيب في هذه الحقل نفسه وفيه من النّفائس الذي فيه وذلك  على قاعدة الأخذ والرّد من جهة ثانية. ومن جهة ثالثة حسن إستيعاب معطيات عصرنا الجديد، إذ شهد ما لم يكن متصوّرا يوما من تغيّرات تكاد تفوق الخيال. الحقّ أنّ جهودا علمية في هذا كبيرة وكثيرة، ولكنّها قاصرة على نخبة صغيرة. ولقد دعوت سلفا مرّات وما زلت إلى تشييد قناطر سميكة وفيّة تصل ذلك الإرث العلميّ المعاصر بالنّاس. 
خير من يكون قنطرة وفية لذلك هم الأئمّة والدّعاة والخطباء والمفتون ومن يؤمّهم النّاس مستفتين، ولكن التّقصير الكبير حاصل من الجانبين : من جانب أولئك الذين لم يفيدوا من ذلك الإجتهاد الكبير إلاّ قليلا، ومن جانب النّاس الذين لا يميّزون بين خطيب وفقيه. ليت شعري. بالله عليك لو قمت صباحا فشعرت بألم في أنفك هل تراك تستغرق طرفة عين واحدة فتسأل نفسك أيّ طبيب أتوجّه إليه؟: ألست تحسم المسألة في أقلّ من ذلك أنّ طبيبك هو طبيب الأنف والحنجرة والأذن وليس سواه؟ قل لي بربّك : لم لا تجادل نفسك لتذهب إلى طبيب العيون مثلا؟ لو داعبك هذا الشّعور طرفة عين واحدة لسخرت من نفسك. أليس كذلك؟ لم؟ لأنّك تردّدت لطرفة عين واحدة في إختيار الطبيب الصّحيح. الأمر هو نفسه عندما تريد  معالجة ألم عقليّ أو نفسيّ. كيف تسمح لنفسك أن تتوجّه إلى خطيب (حتّى لو كان في مستوى المرحوم الكشك عليه رحمة اللّه) ولا تتوجّه إلى فقيه ليس هو بخطيب؟ قل لي بربّك : كيف تميّز بالسّليقة بين طبيب وآخر في أمرك البدنيّ ولكنّك لا تميّز بين فاعل وآخر في الحقل الدّينيّ؟ كلّ النّاس تقريبا يستفتون الخطباء لأنّهم يتأثّرون بأصواتهم ولكن من دون أن يكلّفوا أنفسهم أن يسألوا هل هذا الخطيب الذي يحرّك عيدان المنابر هو فقيه أو عالم على الأقلّ؟ أو هو يحسن الخطابة وليس الإستنباط. 
اعذروني ولكنّ عجبي هنا لا ينقضي. لماذا لا تتوجّه إلى حدّاد لإصلاح أنفك؟ بمثل ذلك : لماذا تتوجّه إلى غير فقيه مؤهّل للإستنباط والإفتاء أو التّرجيح على الأقلّ عندما تريد إصلاح فكرة أو تديّن؟ المشهد الدّينيّ نفسه متنوّع بمثل تنوّع المشهد الطبيّ وكلّ مشهد دون أيّ إستثناء. أرأيت كيف أنّ الحياة نفسها مركّبة وليست على منوال واحد؟ ولذلك لا يعالجها عدا عقل مركّب ودين مركّب. 
كلّ ما أنف هو لأجل التّذكير بالغرض الأوّل لإقتراف هذا المحور (المعاملات الماليّة). ولكنّ أغراضا أخرى جديرة بالتّحرير، منها أنّ المال اليوم يستقطع من حياتنا ما لا يستقطعه غيره. كلّ معاملاتنا ماليّة أو تكاد. حتّمت ثورة المواصلات ذلك ومن قبلها غزوة العولمة الكاسحة، وقبل ذلك وبعده هيمنة النّموذج الغربيّ الرّبويّ على كلّ معاملات الأرض طولا وعرضا. حتّى المصارف الإسلاميّة مازالت تجربة صغيرة محدودة والإنكار عليها من كثير من المسلمين كثير بغضّ النّظر عن الأسباب وعن موضوعيتها. 
تشابكت مصالحنا وتعقّدت علاقاتنا ونشأ في معاملاتنا الماليّة ما لم يكن قبل سنوات قصيرات معدودوات عدا في خيالات واهمة. والحقّ أنّ كثيرا من المسلمين ـ وهذا أقوله عن تجربة صحيحة ـ هيّابون من الوقوع في معاملة غير شرعيّة وخاصّة سرطان الرّبا، ومصرّون كلّ إصرار ـ إلى حدود بعيدة يغشاها الورع بلا علم ـ على إجراء معاملاتهم وفق الشّريعة. ولكنّهم يصطدمون في الحقل الإفتائيّ بتشديدات وتعسيرات. أكثر المفتين ـ إلاّ قليلا من أشبع فقها بالدّين وبالعصر معا ـ يقدّمون المنع والتّحريم أو التّكريه على الإباحة إحالة على بعض حديث صحيح (متّفق عليه عن النّعمان بن بشير) سيء فقهه (فمن إتقى الشّبهات فقد إستبرأ لعرضه ودينه). هذا الجزء من الحديث خاصّ بغير العلماء. ولكنّ جزءه الخاصّ بالعلماء هو قوله عليه الصّلاة والسّلام (وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهنّ كثير من النّاس). ومعنى ذلك أنّ تلك الحدود بين الحلال والحرام عندما تتداخل فإنّ على العلماء تبيّن ذلك والإفتاء به، وليس ترك العلم والإفتاء بما يفتي به المسلم العاديّ نفسه. 
عندما تتّقي كلّ الشّبهات دون تبيّن فأنت تقع في منكر آخر إسمه تحريم الطّيبات على نفسك. فإذا كنت مفتيا فإنّك تحرّمها على غيرك. والحقّ أنّه بإسم حرمة الرّبا ـ ودون تمييز بين درجاته هو وبين درجات الحرام نفسه ـ يتكئ كثير من المفتين على قاعدة الشّبهات بفعل كسلهم العقليّ أو بسبب إلزام النّاس بورعهم هم وحالهم هم. وتكون الثّمرة الفكريّة قاسية، وهي صورة عن الإسلام أنّه لا يصلح لمعالجة هذا الزّمان بسبب منكراته المضطرمة، أو أنّ مباحث الرّبا فيه مستغلقة مبهمة كأنّما بقيت دون بيان من الشّريعة، أو أنّ الإجتهاد فيها ظلّ قليل ـ وما هو بقليل عدا عند القاعدين عن طلب العلم بمثابرة ـ كما تكون الثّمرة النّفسيّة كذلك مرّة، وهي فرض ضرب من العزلة على المسلم ـ فردا وأسرة ـ وذلك بإسم أنّ كلّ شيء تقريبا ـ أو أكثره ـ محرّم. ومن ذا فإنّه لامناص من الإعتزال والإنعزال. وثمرة أخرى عملية أشدّ مرارة وهي : حرمان المسلم من حقّه في هذه الحياة وتحريم ما أحلّ اللّه له من طيّبات. 
هي إذن أغراض جديرة بإنشاء هذه السّلسلة الجديدة لعلّها تثرى بإضافات أهل الفقه فتنفع. أختم بهذه القاعدة التي يجهلها أكثر المسلمين رغم إنبساطها في الكتاب العزيز نفسه : الله سبحانه يبغض كلاّ ممّن يحرّمون الحلال ويحلّون الحرام. سواء بسواء. ولكنّه أشدّ بغضا لمن يحرّم الحلال على النّاس ـ وليس على نفسه ـ وخاصّة من موقع الإفتاء. وهذا يحيلنا إلى كلمة أخرى كأنّما قدّت من ذهب وحرير: يخشى على المسلم أمران : التحلّل من المحرّم والغلوّ في الدّين. ولكن أيّهما ـ بحسب التّجربة الصّحيحة ـ أكثر وقوعا؟ تجربتي تخبرني أنّه يخشى على المتديّن ـ  سيما الشّاب أو من هو في بدايات توبته ـ الغلوّ أكثر من خشية التسيّب عليه. والله أعلم